برخصة المشاع الإبداعي: رامي رؤوف، فليكر
قوات من الشرطة والأمن المركزي تتمركز في شارع قصر العيني استعدادًا لدعوات التظاهر، 25 يناير 2011

سرديات يناير الصحفية| الغاضبون قادمون

منشور الأربعاء 22 يناير 2025

قرأت بالصدفة كتاب الباحثة دينا حشمت ثورة 1919 في الأدب والسينما، بعد أن كتبتُ في المنصة عام 2021 سلسلة مقالات ثورة افتقدت سينماها عن تناول السينما المصرية لثورة يناير، وكنت لا أزال مشغولًا بسؤال كيفية وصول هذه المرويات المجتزأة والمختصرة للثورة إلى أغلب الأفلام حسنة النية التي تناولتها، فحفَّزني الكتاب للعودة إلى دور الصحافة في التأريخ لثورة يناير، وتشكيل سردياتها الأولى.

تشير دينا حشمت في كتابها إلى محاولة تسييد السردية النخبوية للثورات بعد وقوعها، مع إشارة سريعة لحدوث ذلك مع انتفاضة مايو 1968 الفرنسية. لكن تسييد السرديات النخبوية في حالة ثورة 1919 كان طبيعيًا بدرجة كبيرة، ولم تكن هناك عناصر مقاومة فاعلة له. فأبطال الثورة من الفلاحين والعمال الفقراء كانوا وقتها أميين، ليسوا ممن يكتبون التاريخ أو يصنعون الأفلام، ولا توثق الجرائد شهاداتهم ورواياتهم عن الأحداث التي شاركوا فيها أو صنعوها.

تولت النخبة المتعلمة والمثقفة، أي الأقلية، منذ البداية، تسجيل تاريخ ثورة 1919 مثلما رأته، وبالمضمون الملائم لمصالحها الطبقية وتوجهاتها الفكرية ووعيها الذاتي بالثورة نفسها. كثير من الأفلام السينمائية التي صُنِعت عن الثورة، والمشار لها في الكتاب، أنتجها القطاع العام السينمائي في عهد عبد الناصر، بعد عقود  من الحدث الذي تتناوله، فلم يكن لها أن تبتعد عن الخطاب الأيديولوجي النخبوي للضباط الأحرار باعتبارهم ورثةَ تراث 1919، والقادرين على تحقيق أهدافها، بل وأكثر.

تولت النخبة المتعلمة والمثقفة، أي الأقلية، منذ البداية، تسجيل تاريخ ثورة 1919 مثلما رأته

لكن المفارقة هنا، أن صُنَّاع ثورة 2011، وصولًا لمنتصف 2013، لم يكونوا نفس الفلاحين الذين قطعوا السكك الحديدية أمام قوات الاحتلال في 1919. بل من المتعلمين، وكثير منهم مثقفون ومن أبناء المدن. لتبدو المفارقة المريرة في أنهم صنعوا ثورتهم بينما كان التأريخ متاحًا للجميع.

أقول هذا التعبير؛ "التأريخ متاح للجميع"، ببعض المبالغة بالطبع، فكتابة التاريخ لم تكن أبدًا متاحة للجميع. لكن المشاركة في كتابته أصبحت متاحة نسبيًا عبر السوشيال ميديا والمدونات، وتداول الروايات الشفهية، ونقلها من مجموعات إلى أخرى، وعبر عشرات الآلاف من الفيديوهات المصورة بالموبايلات. وكلها من وسائل التوثيق والتأريخ، وبالتالي تشكيل السرديات.

من ضمن كل سرديات/مرويات الثورة المتنوعة والمتناقضة، أو المُكمِّلة لبعضها البعض، جرى تسييد إحداها بشكل أساسي، أضفت على الثورة صفة النخبوية، وقدمتها باعتبارها ثورة الطبقة الوسطى الشبابية، التي استمرت 18 يومًا، وتمركزت في ميدان التحرير، وحققت هدفها "الوحيد" بإسقاط مبارك ورفع علم الحرية عاليًا. وذلك قبل أن تبدأ سلطة ما بعد يوليو 2013 عملية تسييد سرديتها لهذه الثورة، كمؤامرة دولية/إخوانية.

كان هدف ثوار يناير رفع علم الحرية عاليًا، إلا أن معنى ومحتوى وتفاصيل هذا التعبير المبهم؛ "الحرية"، ظلت دون تحديد. إنها مرة أخرى مسألة وعي الطرف الذي يصنع السردية بالحدث الذي يقع أمامه، أو يشارك فيه، وموقعه السياسي والاجتماعي منه. ودرجة وعي ناقل السردية للأعمال الفنية، بالسرديات التي تتشكل تدريجيًا، وتُنسج ببطء، وكيف يتبناها أو يرفضها في النهاية، وأحيانًا دون أن ينتبه لاختلافها عما كان شاهدًا عليه.

الشروق.. الصوت المنفرد

مانشيت جريدة الشروق يوم 24 يناير 2011

لعبت الصحافة المصرية دورًا حاسمًا في عملية التسييد التدريجي للسردية النخبوية والمختصرة للثورة. وأعتقد أن الاقتراب قليلًا من تناول أحد الصحف المصرية للأيام الأولى من الثورة وحتى خلع مبارك سيكون مفيدًا. حتى ولو بدا الاكتفاء بهذه الأيام الثمانية عشر الأولى استجابة لعملية الاختزال الزمني للثورة. فربما يتضح، ولو قليلًا، من قراءة مروية صحيفة واحدة، من أين أتت هذه السرديات النخبوية التي هيمنت بالتدريج، وكيف تمكنت من بسط هذه الهيمنة، ناهيك عن إنعاش ذاكرتنا ببعض ما عشناه.

من بين كل الصحف التي كانت تصدر يوميًا بدايات 2011، تمتاز الشروق بميزة أساسية تجعلها النموذج الأكثر مناسبة لهذه القراءة التي تحاول رصد تشكل السردية المهيمنة عن الثورة؛ وهي أن الجريدة انحازت فعلًا للثورة منذ بدايتها، أو لنقل من قبل أن تبدأ، حين كانت مجرد دعوات للتظاهر يوم 25 يناير.

لهذا، تكتسب مصداقية أكبر من الجرائد اليومية الأخرى التي تراوحت مواقفها بين العداء والريبة. وبعضها لم يعلن تعاطفه مع الثورة إلا بعد توسعها، أو حتى مع سقوط مبارك. بالتالي، ميزة الشروق أن مساهمتها في تشكيل مروية نخبوية حول يناير، لم تكن وفق تصورات جهاتٍ ما تقفُ في الظل، وتحاول الاستفادة من هذا الزخم أو تطوره لصالحها.

تشكَّلت سردية الشروق عن الثورة بالتدريج، وبشكل أقرب للعفوية أو التلقائية. وهو ما يظهر في انحيازها المبكر للثورة من زوايا فكرية مختلفة، وابتعادها المفترض عن كثير من دوائر السلطة، وامتناعها عن تقديم سردية "رسمية" لها، بحكم معارضة كثيرين ممن كانوا يعملون بها أو يديرونها وقتها لمبارك، دون إغفال توجهات مؤسسها ومالكها إبراهيم المعلم. وهو أيضًا ما يجعلني أحترم الترتيب الزمني في التقاط بعض ملامح مروية الجريدة لأحداث يناير وفبراير، لنستطيع ملاحظة تطور السرديات في علاقته بتطور الأحداث والمواقف.

الغضب المضاد للاكتئاب

تغطية جريدة الشروق لدعوات التظاهر يوم 25 يناير

لأبدأ بالعدد 723 الصادر في 24 يناير، قبل الثورة بيوم واحد. المانشيت والموضوع الرئيسي للصفحة الأولى من الجريدة مخصص لـ"المفاجأة" التي أعلنها وزير الداخلية حبيب العادلي، في اليوم السابق، أثناء الاحتفال المبكر بعيد الشرطة المفترض الاحتفال به يوم 25 يناير، بالقبض على المتهم الرئيسي في عملية تفجير كنيسة القديسين بالإسكندرية ليلة رأس السنة، والإعلان عن انتسابه لـ"جيش الإسلام الفلسطيني"، التي وصفها بأنها "منظمة جهادية تابعة للقاعدة"، وتتخذ من قطاع غزة مركزًا لها. لكن هذا التقرير نفسه تضمن تشكيكًا في "مفاجأة" العادلي. ففي نهايته، تنفي المنظمة صلتها بالعملية، بل توجه، مع حركة حماس، اتهامًا مضادًا للموساد الإسرائيلي بارتكاب العملية الإرهابية.

وفي الصفحة نفسها، تظهر محاولة الجريدة لتحقيق نوع من التوازن فيما يخص دعوات النزول في اليوم التالي، ولو قليلًا. فهناك خبران آخران؛ الأول عن الاستعداد لحشد نصف مليون شاب لتأييد مبارك يوم 25 يناير، بمناسبة ما أسموه بـ"يوم الوفاء"، مُتضمِّنًا معلومة بلا مصدر، وهي أن تمويل هذا الحشد يأتي من رجال أعمال.

وأسفل هذا الخبر مباشرة، يأتي الخبر الثاني، ومفاده أن مظاهرات يوم "الغضب"، التي يتوقع أن تندلع في اليوم التالي، ستكون سلمية تطالب بالحريات (وفقط)، مع تعهد الشرطة بأنها ستتعامل معها بأسلوب متحضر. وخلا هذا الخبر الصغير من أي إشارة للداعين إلى المشاركة في هذا اليوم الذي وُصِف بـ"يوم الغضب".

الغضب، والغاضبون، تعبيران شديدا العمومية، مرتبطان بمشاعر يحدث التنفيس عنها. ستلجأ إليهما الجريدة كثيرًا فيما بعد لوصف الثورة في أيامها الأولى، وستعود إليهما لاحقًا في بعض الأحيان. يبدو أنهما كانا تعبيرين مناسبين لروح زمننا وقتها، أيًا كانت الملاحظات حولهما. وسيلجأ إليهما على المستوى العالمي، لتوصيف أغلب حركات الاحتجاج التي ستندلع في مناطق مختلفة من العالم في هذا العام. بل إن بعض حركات الاحتجاج والتغيير ستسمي نفسها بـ"الغاضبون"، مثل حركة 15 مايو الإسبانية.

في هذا الخبر عن يوم الغضب إشارة سريعة إلى أن الوفد، حزب المعارضة المحافظة والنخبوية بامتياز، سيشارك في هذا اليوم ممثلًا في شبابه. وفي مقابل حزب الوفد، هناك خبر في الصفحة الثالثة عن إعلان جماعة الإخوان المسلمين أنها لن تشارك في مظاهرات 25 يناير، وإشادة نيويورك تايمز بهذا القرار، مع تصريحات عصام العريان بأنه يوم احتفال وطني، وليس يومًا للاحتجاج.

الغموض البادي في الصفحة الأولى فيما يخص تنظيم "يوم الغضب" المرتقب، ينتهي في الصفحة الخامسة، وفيها تقرير طويل عن التحضيرات لمظاهرات اليوم التالي، تضمن تصريحات لقيادتين من حركة 6 أبريل، أحمد ماهر ومحمد عادل، حول الاستعدادات للمشاركة، وتدريب الناشطين، ومشاركة الألتراس في التظاهرات الهادفة لإقالة العادلي، ووقف العمل بقانون الطوارئ.

الصفحة الخامسة من جريدة الشروق، عدد 24 يناير 2011

يشير هذا التقرير لمشاركة بعض عمال شركة غزل المحلة، ومجموعات طلابية مختلفة، وحركة الدفاع عن أصحاب المعاشات، ولجنة الحريات بنقابة المحامين، والجمعية الوطنية للتغيير، وأحزاب الجبهة الديمقراطية، والعمل، والغد (جناح أيمن نور)، والكرامة تحت التأسيس، والاشتراكيين الثوريين، وحركة كفاية، والحركة الشعبية الديمقراطية للتغيير، ومصريين مغتربين سيتظاهرون أمام السفارات المصرية في بلدان إقامتهم.

في مواجهة هذه الأحزاب والتشكيلات التي يغلب عليها الطابع المديني ونشطاء الطبقة الوسطى، فيما عدا بعض عمال المحلة، هناك دعوات من رجال دين مسيحيين لعدم المشاركة، وتصريحات لكمال زاخر، مؤسس ما يسمونه بالتيار العلماني القبطي، يقول فيها إن "الأقباط لن يكونوا مخلب قط الغوغاء للقفز على السلطة".

تركز الجريدة في العدد نفسه، وبالذات في صفحتي "المال والأشغال" و"العرب والعالم"، على الثورة التونسية، والأوضاع المتوترة في عدد من البلدان العربية، مثل اليمن والأردن والسودان ومصر. تربط هذا التوتر بمعدلات البطالة المرتفعة بين الشباب. مع إشارة في الحالة المصرية لارتفاع أعداد المهددين بالانتحار، بسبب سوء الأحوال المعيشية، لـ251 مواطنًا في عدد من المحافظات. بينما مقالات الرأي التي تناولت الثورة التونسية ودوافعها لم تبتعد عن العموميات المتعلقة بالرغبة في الديمقراطية ورفض الفساد والاستبداد.

أما في الصفحة الأخيرة، فنطالع صورة فتاة مصرية تصرخ، أو ربما تهتف، وهي محاطة بجنود الأمن المركزي، ضمن تقرير عن الاكتئاب والانتحار الاحتجاجي الذي بدأ في الانتشار. يظهر ملخص التقرير، أو رسالته، في جملة قصيرة أسفل الصورة، وكأنها دعوة للنزول في اليوم التالي؛ "التعبير عن الغضب يؤجل قرار الانتحار لدى الفئات المحبطة". دون تحديد بالطبع للهوية الاجتماعية/الطبقية لما يمكن تسميته بـ"الفئات المحبطة"، المسألة التي ستكون محل جدل وصراع طيلة الثورة.

هذه القصة من ملف  سرديات يناير الصحفية.. جريدة الشروق نموذجًا


سرديات يناير الصحفية| الغاضبون قادمون

باسل رمسيس_  تشكَّلت سردية الشروق عن الثورة بالتدريج، وبشكل أقرب للعفوية أو التلقائية. وهو ما يظهر في انحيازها المبكر للثورة من زوايا فكرية مختلفة، وابتعادها المفترض عن كثير من دوائر السلطة.


مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.