الأرقام الدائرية لها سطوة غامضة؛ الذكرى الأولى، العاشرة، العشرون.. إلخ. لها رهبة تدفعنا للتأمل أكثر فيما عبرناه، وفي هذه الحالة تحديدًا ذكرى ثورة تكمل عامها العاشر.
ربما نقف أمام الرقم الدائري لنتساءل بارتباك عن أسباب غياب سينما كبرى تتناول وجوهًا مختلفة من ثورة يناير 2011، إحدى أهم أحداث تاريخنا المعاصر. وتعبير سينما كبرى لا يعود هنا إلى حجم الإنتاج؛ بل إلى الجودة والعمق والقيمة الفنية، والأهم الصدق في التعبير عنها وعن صانعيها. وبالذات حين يكون الحدث متعلقًا ببلد مثل مصر، التي وُصِفت سابقًا وبسبب حجم صناعة السينما بها بهوليوود الشرق.
لكن سؤالنا وارتباكنا المشترك يتفرعان إلى أسئلة أخرى تقلق السينمائي، وليس المتفرج في هذه الحالة، حين يواجه مادة صالحة لأن تكون موضوعًا لفيلمه، وتكون بالصدفة هذه المادة من نوعية الأحداث الكبرى، فنجده يتساءل "هل أكتفي تجاه ما أعيشه بأن أكون سينمائيًا متفرجًا ومتأملًا، أم ألجأ إلى خيار أخر؛ أن أترك الكاميرا وأندفع بين الصفوف كي أكون مواطنًا مشاركًا؟".
إن اختار السينمائي موقع المتأمل لما يدور أمامه ليحاول صياغته فنيًا؛ فأنه يصطدم بتساؤلات أكثر تعقيدًا حول طرق الاقتراب من هذه الأحداث الكبرى، هل أحملها إلى استوديو أو بلاتوه مغلق، أو موقع تصوير مفتوح يتحكم فيه فريق الإنتاج، لإعادة تجسيد الأحداث الكبرى تخيليًا أو روائيًا؟ أم أبحث في تفاصيلها الحقيقية الواقعة الآن وهنا، عن العناصر التي تسمح بحكي الحقيقة كما أراها، عبر تنظيمها؟
لن أقترب في هذا المقال من التساؤل الأول حول غياب سينما كبرى للتعبير عن ثورة يناير، وأسباب هذا الغياب، سأترك هذا للمقال التالي، لأكتفي هنا بالاقتراب من فيلم جاء كهدية للكثيرين في الذكرى العاشرة لثورة يناير، فيلم جمعة الغضب للمخرج الكاتالاني/ الإسباني مارك ألمودوفار، الذي لا تربطه بالمناسبة أية صلة بالمخرج الإسباني الشهير الذي يحمل نفس اللقب، فالاقتراب من هذا الفيلم تحديدًا يصلح كمدخل لتأمل الأسئلة المتعلقة بخيارات وموقع السينمائي.
مخرج الفيلم من حيث الخلفية ليس سينمائيًا، ربما يكون قد درس بعض الدراسات الفنية، لكنه بالأساس صحفي وكاتب. في لحظة من حياته يقرر أن يترك مدينته برشلونة وأن يعيش فترة طويلة في أحد البلدان العربية، كي يعمل بالصحافة ويتعلم اللغة العربية. أو للدقة أن يتعلم ما هو أوسع من اللغة؛ الثقافة. وبسبب انتماءاته السياسية اليسارية، وبسبب معالم اللحظة التي اتخذ فيها قراره، وجد أن المكان المناسب هو مصر بعد 6 أبريل من عام 2008؛ إضرابات عمالية كبرى وأول تحطيم علني لصور مبارك في المحلة، حيث تتصاعد رائحة حريق يقترب.
ومن القاهرة يبدأ في مراسلة بعض المواقع الصحفية الأجنبية التي لم تكن تهتم بمصر كثيرًا وقتها، مترجمًا مقالات صحفية من العربية للإسبانية. قبل الثورة يغادر مصر، ليعود إليها بالصدفة قبل أيام من 25 يناير للمشاركة في تنفيذ ريبورتاج تلفزيوني عن سيدات نقابيات، لتبدأ الثورة أثناء وجوده المؤقت. وكونه ليس مصريًا يجنبه سؤال الاختيار بين أن يكون المواطن المشارك أم السينمائي المتأمل، فالاختيار محسوم بالضرورة لصالح الثاني. يحمل كاميرته ويوثق اللحظة التاريخية التي يشهدها بالصدفة. وربما كونه ليس سينمائيا بالأصل، يجنبه سؤال القالب؛ التسجيلي أم الروائي، وهو ما سأتناوله في المقال التالي.
سينما منزوعة الدسم أم كاملة الدسم؟
في بلد يهتم إعلامه الرسمي والخاص الموّجه من الأجهزة، بالحديث كثيرًا عن أخلاقيات وقيم أسرة مصرية مزعومة، لا نعلم تحديدًا مَن رسم صورتها شديدة المحافظة في مخيلة السلطة والشارع، في هذا البلد يتحدثون أحيانًا عن سينما نظيفة. المصطلح الذي يستدعي تلقائيًا نقيضه؛ سينما ملوثة، دون أن نعلم هوية أي منهما. وإن دخلنا لمتاهة تأمل مصطلحات وتعبيرات تمت صياغتها دون أن تكون انعكاسًا لواقع ما أو تعبيرًا عنه؛ سنخرج من المتاهة غير سالمين، تائهين إلى متاهة جديدة، وهو المطلوب تحديدًا في دوائر الإعلام الرسمي والموجه.
لكننا نعلم كسينمائيين وكمتفرجين، أن السينما لا تكون سينما دون أن تكون نابعة من الحياة الحقيقية وملوثة بها. ونعلم أن السؤال السينمائي الأهم، والذي يناقشه أيضًا بالفطرة والوعي المكتسب الجمهور غير الدارس للسينما، هو سؤال موقع السينمائي مما يعيشه ويود الحكي عنه، وصولًا إلى أسئلة النوع السينمائي، أو الأسلوب الذي سيختاره للتعبير الأفضل من وجهة نظره عن هذا الموضوع.
مرة أخرى؛ ربما كان تخلص مخرج فيلم جمعة الغضب من ثقل السينمائي المحترف هو الذي حرره تمامًا ليختار موضوعه المحدد؛ بضعة ساعات من اليوم البارز بين الأيام الثمانية عشرة الأولى للثورة على مبارك، أو جمعة الغضب 28 يناير 2011. فلا يبحث مارك ألمودوفار عن نخب تحتل فيلمه باعتبارهم أبطالًا، ولا يبحث عن "لقطات جميلة" مثلما توصف بعض المشاهد واللقطات في السينما التجارية. بل يختار أن يكون بالداخل، في الصفوف الأولى من مواجهات الساعات الحاسمة من الثورة، متأملًا ومشاركًا، وباحثًا عن شكل سينمائي غير متأنق، عن سينما تشبه أبطالها، ليوثق سينمائيًا وجوههم وعباراتهم التي يتفوهون بها صدفة، أو بقرار واضح منهم حين يتسابقون للوقوف أمام كاميرا لتفريغ أفكارهم وانفعالاتهم وهم لا يعرفون هوية حامل الكاميرا، أو كيف سيستخدم مادتهم المصورة كمادة فيلمية.
استخدمت في البداية تعبير سينما كاملة الدسم، وسينما منزوعة الدسم.. لايت. وكي لا نقع في دعابات قد تسبب بعض الإزعاج للمتخصصين، سألجأ للمصطلحات الدقيقة. فيلم جمعة الغضب هو فيلم ينتمي لنوع محدد من الأنواع السينمائية الحاضرة أكثر في المجال التسجيلي وهو السينما المباشرة كترجمة لمصطلح سينما دايريكت. والسينما المباشرة، التي أسميتها سينما كاملة الدسم، ليست سينما خطابية تلقي في وجهك بما يسمونه "الرسالة"، بل هي سينما تهتم بالمادة الخام للأفعال، لما يحدث في الحياة الحقيقية. سينما تحاول رصده دون تجميله بحيل شكلانية، كي يلتحم المتفرج مباشرة بعناصر الواقع التي يطرحها الفيلم، يراقبها ويتأملها دون تجميل، ومع أكبر درجات الاحترام الممكنة للزمن الواقعي للأحداث داخل كل مشهد.
هي كذلك سينما لا يختبئ صانعوها وراء كاميراتهم، كي يوهموا المتفرج أنهم موضوعيون أو أن ما يراه هو الحياة الحقيقية، بل إن سينمائيي السينما المباشرة حريصون عادة على ترك العلامات في أفلامهم كي ينتبه المتفرج لوجودهم وراء الكاميرا، وأن ينتبه، وهو الأهم، إلى أن مايرونه ليس الحقيقية بألف لام التعريف، بل هي "حقيقة" يريد السينمائي مشاركتها معهم. هذا ما يبرر الآن مَشاهد الهروب المؤقت للمخرج من اختناق الغاز، في هذه المشاهد تظهر فقط الأرض وأقدام تهرب. يظهر كذلك صوته في أحيان قليلة سائلًا شخصية من الشخصيات سؤالًا عابرًا. هذه اللقطات ليست "وقتًا ميتًا"، بتعبير السينمائيين، لا يضيف شيئًا. بالعكس؛ هذه مشاهد ضرورية لتأكيد الأسلوب والسياق.
عبر ساعة وربع، هي زمن الفيلم، نقوم برحلة نشارك فيها المخرج موقعه الذي إختاره، ليس خارج المظاهرة كأي صحفي أجبني يوثّق حدثًا وهو واعٍ بأنه لا يخصه، فالحدث بالنسبة "للأجنبي" مجرد خبر ستذيعه قناته الأجنبية في المساء. بالعكس؛ يختار مارك ألمودوفار أن يكون بالداخل، وأن يطرح الرواية عبر مشاركة أبطالها الحقيقيين رحلتهم في الصفوف الأمامية.
البداية من صلاة الجمعة بمسجد مصطفي محمود في شارع جامعة الدول العربية. انطلاق الهتاف في المسيرة المتجهة إلى شارع التحرير. مع هذه البداية نجد المخرج ما يزال عند أطراف الرواية، أطراف الحدث، أو أطراف المشهد. يسجله دون أن يجرؤ على اقتحامه. نجد وجوه بعض النخب والمشاهير الذين احتلت سرديتهم عن الثورة شهورها الطويلة حتي انحسارها، نرى وجوه المخرج خالد يوسف، والممثل خالد الصاوي، والصحفي والنقابي محمد عبد القدوس. لكن المخرج يشعر بأن أبطال الرواية الحقيقيين ليسوا بين الوجوه المعروفة التي تسلّط عليها الكاميرات، بل هم أبطال المواجهات العنيفة في محاولة العبور بالمتظاهرين إلى ميدان التحرير لاحتلاله. فيرافق هؤلاء الذين أسميناهم خلال الأعوام العشر الماضية بـ"المجهولين" في معركتهم الدرامية، والدامية بحق.
بداية من كوبري الدقي، وتحديدًا أسفله، وصولا إلى كوبري الجلاء، ثم كوبري قصر النيل.. يوثق مارك ألمودوفار معارك الشباب، أبطال وبطلات يتشارك معهم الغاز والبيبسي والخل والمناورات والهرب من الرصاص، والعودة إلى المواجهات من جديد. يلازمهم في بحثهم عن مداخل أخرى للميدان بعد أن طالت معركة كوبري قصر النيل، فيكون الهدف المرحلي الجديد هو كوبري السادس من أكتوبر، فتطول المعركة، فيتحول الطريق إلى شوارع الزمالك، وأسفل وفوق كوبري 15 مايو. ينجح معهم في عبوره وصولا إلى ماسبيرو وميدان عبد المنعم رياض ليلا، بعد انكسار الشرطة، ونهاية فصلا من المذبحة، ويتلقف من أبطاله الإشارات الأولى للمآساة الجديدة التي سيكون بطلها الجيش.
لابد أن المتفرج سيتساءل في هذه اللحظة من تطور الفيلم إن كان المخرج سيدخل، ويُدخلنا معه، إلى ميدان التحرير الذي تم احتلاله، حيث دفء النخب والمنصات. إجابة السؤال الواقعية لا نعلمها، فربما يكون قد دخل الميدان لتوثيق المشهد الجديد. لكن الفيلم ينتهي عند لحظة سابقة قبل الميدان، حين نكون على أعتابه دون أن ندخله، حيث النفحات الأولى من الصور التذكارية للمواطنين مع الدبابات، وإشارات بعض أبطال الفيلم إلى أن الجيش الذي هتفوا له قبل دقائق بهتاف "الجيش والشعب إيد واحدة"، قائلين إنه يساعد الشرطة بالذخيرة الحية، ومؤكدين أنهم شاهدوا قتلى جدد بعد انسحاب الشرطة. نقف عند النيران وقد تحولت إلى مشهد احتفالي للجموع، مشهد أقرب للعدالة الشعرية بمفاهيم الدراما الكلاسيكية. حلقات واسعة من الشباب والشابات يحطمون دراجة نارية تابعة الشرطة، يتركونها في مركز الدائرة الشعبية ويشعلون النار بها، وفي الخلفية نيران أخرى؛ مبنى الحزب الوطني المحترق. الصراع الدرامي الأساسي، العبور إلى التحرير، وصل إلى نهايته واكتمل، والبلاغة السينمائية لا تحتاج إلى إظهار الميدان كي يحتل الخاتمة كنهاية سعيدة.
من الصحبة إلى نهاية المعركة
دعونا نتأمل مرة أخرى المفارقة بين بداية الفيلم ونهايته. يبدأ بما يمكن أن نسميه بالصحبة والدفا، حيث الجماهير المتجمعة أمام مسجد مصطفى محمود لخروج المظاهرة بعد انتهاء صلاة الجمعة. ملابسهم ما تزال لامعة ونظيفة، فالمعركة لم تبدأ بعد. هنا يقرر المخرج أن يفترق عن هذه الجموع، وكأنه يعلم مسبقًا أنها ستتلاشى بعد قليل تحت وطأة الدم، وسيكون الفعل الذي يستحق أكثر روايته سينمائيًا هناك؛ عند الصفوف الأولى من المواجهات التي يخوضها أبناء البلد مرتدين ملابس باهتة. شباب وشابات في أغلبهم، وليس جميعهم، فقراء، لا يجيدون الكلام المنمق أمام الكاميرات، فمهمتهم التي اختاروها لهذا اليوم هي المواجهة، معانقة الخطر، ودفع ثمن العبور إلى الضفة الأخرى، وتحقيق الانتصار الرمزي باحتلال مركز المدينة أو الميدان الكبير.
هؤلاء هم الأبطال الذين يختارهم مارك ألمودوفار. لا يعقد اتفاقات مع بعضهم كي يتحولوا لشخصيات فيلمية تلازمه ويتابعها وتتكرر في مشاهد متنوعة، بل يكتفي بأن يكون واحدًا منهم في الصفوف الأولى خلال الساعات التي ستشكل الحدث الدرامي لفيلمه، منتبهًا بحدسه إلى المكان الذي سيمنح فيلمه شلالًا من الأبطال والبطلات الذين يقررون أن يلقوا بجملهم العابرة أمام الكاميرا بعد سنوات طويلة من القهر والصمت ومنع الكلام، أو نسمعهم بتعليقاتهم التلقائية التي يسجلها ميكروفونه لأنهم قريبون منه، أو نرى وجوههم العابرة أو المنفعلة أو الباكية تأثرًا أو اختناقًا من الغاز.
في الثلث الأخير من الفيلم تختفي الصحبة والدفا تدريجيًا، في تطور درامي طبيعي مناسب لهذا النوع من السينما المباشرة، أو لنقل إن هذه السينما نفسها قد وُجدت كي تتمكن من التقاط هذا النوع من الدراما التي لا يمكن التحكم فيها، وتقع أحداثها أمامك وتتشكل خيوطها المختلفة من فيضان الحياة الحقيقية. فنجد في النهايات الشوارع مظلمة، وجودة الصورة تتراجع أكثر بسبب فتح عدسة الكاميرا إلى آخرها على أمل التقاط بعض الضوء، وبعض أبطال الفيلم يبدون كالتائهين في الشوارع، لا يشاركون في بهجة احتلال التحرير والصحبة هناك، فمهمتهم التي اختاروها أول الصباح قد إنتهت، فكسروا سلطة القمع بدمائهم وأجسادهم المنهكة، وأقدامهم التي لا يحمي الكثير منها سوى شباشب بلاستيكية. حققوا العبور إلى الهدف، ويختتمون دورهم في الفيلم بالتحذير من الخطر الجديد.
صورة البطل
أبطال فيلم جمعة الغضب بتلقائيتهم وانغماسهم في الحياة يمنحون الفيلم حيوية تنتقل إلينا كمتفرجين، أو مشاركين سابقين، على شكل حياة مليئة بالانفعالات والأفكار والمشاعر المتناقضة، وأيضًا الأخطاء.
هل يوجد فيلم عظيم لا يعاني أبطاله من التناقض والتردد؟
من سمات البطل الناجح دراميًا أن يكون متعدد الوجوه، وأن يحمل تناقضات، وأن يتصارع أيضًا مع ذاته. والبطل في جمعة الغضب هم الجموع كجموع، وكذلك الأشخاص الذين يشكلون هذه الجموع كأفراد. فنجد أن الأبطال يصرخون أحيانًا أمام الكاميرا بكلماتهم البذيئة الأكثر دقة في نقل غضبهم، وغير منزوعة الدسم. وأحيانًا أخرى يرتجلون الهتافات، وأحيانًا تشعر بوجودهم القوي وببطولاتهم بمجرد أن ترى وجوههم الصامتة المارة سريعًا من أمام الكاميرا وقد عبرتها بالصدفة.
هل هي صدفة؟ أم أنها اختيار واع من مخرج الفيلم وأبطاله المشاركين في صنعه، بأن يكون المحور الدرامي هو البطولة القصوى، والمغامرة بالحياة نفسها لإسقاط نظام سياسي، أو المغامرة بالحياة من أجل فتح ثغرة صغيرة يعبر منها الآخرون ولو لأمتار قليلة إضافية باتجاه التحرير؟
كمتفرج تتعرف على هؤلاء الأبطال وكأنك تعرفهم جيدًا بمجرد أن تسمع تعليقات بعضهم دون أن ترى وجوههم. تسمعهم أحيانًا يرددون ما يجلب الابتسامة على وجهك، بالرغم من بكائك في المشهد السابق. أحدهم لم يجد هتافًا يردده سوى أن يقول منفردًا وفي غياب كامل لإيقاع الهتاف "اللي يصلي ع النبي يكسب". جملة عابرة، لكنها في الميزان الدرامي للفيلم تقف على نفس الدرجة مع جمل وهتافات أخرى ذات ثقل مثل "لا إله إلا الله"، أو "الشعب يريد اسقاط النظام"، أو إعادة هتاف عبور قناة السويس وتحطيم خط بارليف "الله أكبر".
أو هذا الشاب الذي يقترب من الكاميرا ليهتف وحيدًا "حسني يا جبان.. يا خدّام الأمريكان" يكررها مرتين، ويضحك بسبب تعثره في الهتاف، وكبطل واع ببطولته الكبرى يوجه للكاميرا ولجمهوره، كلمة "شكرًا"، وينصرف ليكمل معركته. هذه كلها تبدو كخطوط درامية شديدة الرهافة، تنسج سويًا الخط الأساسي للفيلم، وتعبّر بأصالة عن أبطاله بارتباكاتهم وقوتهم وتحديهم، وأيضا بنزقهم.
في أحد المشاهد الأولى حين يتواجه المتظاهرون مع جنود الأمن المركزي عن قرب، وهي المرة الأولى التي نرى بوضوح وجوه الجنود، نشاهد الفعل الأحمق في أن يمر مواطن مشيرًا إلى كل جندي واصفا إياه بأنه "يهودي"، ويكررها باستخدام أصابعه "يهودي.. يهودي.. يهودي"، فنسمع مواطنًا آخر ينهر زميله ويأمره بأن يتركهم "دول غلابة.. غلابة" مثلما يصفهم. وبعدها بدقائق يكتمل تناقض البطل المشكل من كتلة البشر فهو أيضًا الذي يحمي الجنود أو يعانقهم ويحتضنهم، ويحاول رفع ضابط شرطة فوق الأكتاف.
هم أبطال يبحثون عن الدفء، يتذكرون جيدًا حين كانوا صغارًا في المدارس المكدسة بتلاميذ لا يتلقون من الحكومة أي علم كونهم أبناء الفقراء، فيقومون بالاحتيال على الجدول المدرسي ومواعيده، يتجنبون الوقوف في طابور الصباح وتكرار التمارين الرياضية المملة، وتحية العلم، وترديد النشيد الوطني. لكنهم في لحظة الخطر والمواجهة يتجمعون يبحثون عن الدفء والقوة والأمان، فيمسكون بأيادي بعضهم البعض لينشدوا النشيد الذي يوّحدهم كبطل واحد، لينطلق النشاز الجماعي العذب "بلادي بلادي"، بتأثر وانفعال، على نفس درجة تأثر وانفعال أبطال أخرين لا يجدون مايقولونه سوى "حسبي الله ونعم الوكيل".
الأجنبي في الداخل
تم تصوير مادة الفيلم بأكملها خلال بضع ساعات من يوم جمعة الغضب الشهير. الحدث المكثف ذو الدلالات الكبرى في كل مسار الثورة التي استمرت عامين ونصف. "ترك المخرج مادته لمدة عشرة أعوام، لم يقترب منها تحت وطأة إحساسه بأنه غير مستعد مشاعريًا للعمل على هذه المادة"، مثلما قال في حوار معي أثناء إعداد هذا المقال. وفي الذكرى العاشرة لبداية الثورة، يوم 25 يناير الماضي، وبسبب نص عابر قرأه عنها، فتح جهاز الكمبيوتر ليشاهد بعض المادة، وتدفقت الطاقة كي ينجز مونتاج فيلمه في أربعة أيام وفقط. تدخلات مونتاجية بسيطة واحترام للطابع "النيئ" والطازج أيضا لمادته، دون تجميلها، كي تظل مناسبة لموضوعه وأبطاله. أدخل بعض الخبطات الإيقاعية على عناوين البداية كي يمهد لحالة التوتر القصوى، والمعركة التي سنعيشها، ولم يلجأ للموسيقي مرة أخرى طيلة الساعة وربع.
في النصف الثاني من الفيلم وعبر زووم كاميرا مارك ألمودوفار المتواجد عند ضفة النهر من ناحية جزيرة الزمالك، نرى عند الضفة الأخرى من النيل، بالقرب من دار الكتب وفندق كونراد، مشهد يستمر لحوالي الدقيقتين دون أي تقطيع، وفيه مجموعة كبيرة من الجنود والضباط والمخبرين وأمناء الشرطة ينجحون في اصطياد شاب من المشاركين في المظاهرة هناك. يسحلونه ويتنافسون على ضربه بالهراوات والشوم الثقيل دون أن يمنحوا جسده لحظة هدنة. بينما نسمع على شريط الصوت التعليقات التلقائية والحقيقية لمن يقفون بالقرب من الكاميرا "شدي حيلك يا بلد.. شدي حيلك يا بلد"، أو صوت شباب يصرخون "سيبوه.. سيبوه"، والبعض يهتف غضبًا "حكومة وسخة.. يا ولاد الوسخة".
مشهد من أكثر المشاهد الموجعة في الفيلم، جاء هكذا طبيعيًا ومكتملًا دون أن يتم تجميله مونتاجيًا بأية إضافات. ففي السينما المباشرة إن قمت بتجميله وتقطيعه وإضافة الموسيقى، فستقوم بإفساده. وهو من نوعية المشاهد التي تذكرنا ببعض السينمائيين التسجيليين الكبار ونصيحتهم الدائمة بأن يثق السينمائي في الحياة، أن يكون صبورًا، وأن يختار المكان المناسب للانتظار مستعدًا، فالحياة ستمنحه هداياها في صورة مشاهد عظيمة من الصعب إعادة أدائها وبنائها بنفس قوتها الحقيقية الأصلية.
هذا النوع من المشاهد يتدفق بغزارة في الفيلم قبل وبعد هذا المشهد. هنا المواطن الذي ارتكن إلى جانب ليكتب في ورقة كلامًا منظمًا حول الحريات والتنمية، كي يعود ويلقيه أمام الكاميرا كمطالب لحسني مبارك، أو الشباب الذين يصرخون وهم ممسكين بقنابل الغاز مؤكدين بغضب أنها مصنوعة في الولايات المتحدة الأمريكية "بفلوسنا.. بيشتروها بفلوسنا عشان يضربونا بيها.. لكن الشعب مش هايسكت.. الشباب مش هايسكت"، أو أحدهم الذي يحذر صديقه وقت صلاة العصر على كوبري قصر النيل "ياللا نصلي، النهاردة محدش ضامن حياته"، أو هذا الشاب الذي يشهر الشارة الرسمية التي تحمل النسر لأحد أفراد الشرطة، أحد مغانم المعركة، ويخاطب الكاميرا باكيا ومشيرا إليها "ضربناهم زي ما ضربونا.. هم بيفتروا علينا فافترينا عليهم". أو تلك السيدة التي تلتفت قرب نهاية الفيلم إلى الوراء، ناحية الكاميرا، لتنظر إلى أعيننا مباشرة بأسى، قبل أن تعود لتتأمل بهدوء المعركة الدائرة أمامها وأمامنا.
هل سيهتم المتفرج المصري خلال مشاهدته للفيلم بتفصيلة أن مخرجه أجنبي؟
الإجابة الغالبة هي النفي، فأغلب المتفرجين هم مثل مخرج الفيلم، لا يعبأون بالدعاوى الفارغة المتعلقة بـ "ثقافتنا" و"خصوصيتنا"، ويحتقرون نظريات المؤامرة. ما يعنيهم هو أن مخرج الفيلم اختار موقعه وأسلوبه السينمائي المناسب منذ اللحظة الأولى؛ أن يكون من ضمن الجموع، داخل الكتلة، أن ينتمي إليها، وأن يسجل معركتها التاريخية ضد عدوها من الصفوف الأولى. فتحول فعليًا وبالتدريج، ومع مرور ساعات المواجهة، ومرور دقائق الفيلم، إلى جزء من موضوعه، وواحد من أبطاله.
أبطال السينما يشاركون في صنع الحدث الدرامي، لا يمكنهم اعتلاء أسطح المباني المرتفعة كي يشاهدوا الحدث من أعلى، أو كي يصوروا اللقطات العامة للجموع المحتشدة. والأبطال كذلك لا يمكنهم الانفصال عن الأحداث والنظر إليها من خارجها مع الاحتفاظ بمسافة تفصلهم عنا. البطل يصنعه الحدث مثلما يصنع هو الحدث، ويتحول ويتغير أثناء رحلته الدرامية السينمائية، فمكانه إذًا أن يكون بالداخل، جزءًا من الجسم الضخم الذي يشكل الفاعل الدرامي الأساسي.
أن تقف بأعلى الأبنية لتأخذ اللقطة العامة، أو تنزل إلى الأرض لكن تقف خارج الكتلة لتصورها ككتلة، أو تدخل إلى الجموع فتكون أحد عناصرها، كل هذه خيارات تقنية وجمالية مختلفة تمامًا. تبدو أحيانًا خيارات بسيطة وتقنيّة متعلقة بمكان الكاميرا. لكن السؤال التقني له نتيجة جمالية، وشكل الصورة ومعناها الذي سينتج عن كل خيار منهم مختلف تمامًا عن الآخر. لكنه أيضًا وقبل أن يكون قرارًا تقنيًا أو جماليًا هو قرار حول علاقة السينمائي بموضوعه، ما يريد أن يحكيه عنه، وموقعه مما يحدث أمامه، ورؤيته له، وكيف يريد لمتفرجه أن يتفاعل مع كل مشهد من مشاهد فيلمه.
هل يريد السينمائي أن يتأمل المتفرج المشهد المعني ببرود؟ هل يريده أن ينفعل؟ أم يتوحد مع الأبطال؟ هل سيبكي المتفرج؟ أم أن السينمائي يطمح في أن يجعل المتفرج ينتقل من مقعده المريح في صالون منزله ليشكّل هو الآخر جزءًا من كتلة الجموع، ليشعر بأجسادهم بجوار جسده، ويعيش معهم هذه اللحظة؟ هو اختيار سياسي وأيديولوجي بالأساس، قبل أن يكون خيارًا تقنيًا أو جماليًا. وهو الذي يفسر أن أغلب لقطات فيلم جمعة الغضب يتم تصويرها من داخل الصفوف، وعلى نفس مستوي أعين أبطاله، ليجعل وجوههم تحتل الشاشة بأكملها، فتستعيد كمتفرج، وبالرغم من مرور عشرة أعوام والكثير من الكوارث، حبك وانتماءك لهذه الوجوه، وإحساسك باليوم الذي شاركتها فيه ملحمتها.
لماذا لم نختر نحن كسينمائيين مصريين هذا الخيار؟ لماذا لم نقدم سينما تليق بثورتنا؟ أسئلة نتركها لمقال لاحق.
فيلم جمعة الغضب