
50 سنة على "تبني" مارتا ميزاروش.. ماذا تعني الأمومة؟
ما الذي ينبغي أن تكون عليه الأم؟ تساؤل تتأمله مارتا ميزاروش في حوار أجرته معها كاثرين بورتوجيس ضمن كتابها ذكريات الشاشة: السينما المجرية لمارتا ميزاروش 1993، وربما يشكل هذا السؤال الجوهري، المشحون بالوجد والحسرة، النواة المركزية في خامس أفلامها وأشهرها Örökbefogadás/التبني، الذي يكمل عامه الخمسين هذا العام، وهو أول فيلم مجري تخرجه امرأة يفوز بجائزة الدب الذهبي من مهرجان برلين.
يستقصي الفيلم التطلعات المجهَضة لكاتا/كاتالين بيريك، عاملة المصنع الأرملة، ذات الثلاثة والأربعين عامًا، التي تقطن في بلدة مجرية صغيرة وتحلم بإنجاب طفل، تستنجد بعشيقها المتزوج يوسكا/لاسلو زابو، أحد الوجوه المألوفة في أفلام الموجة الفرنسية الجديدة، الأب لأطفالٍ بالفعل، آملة أن تربي الطفل المأمول بمفردها، غير أن يوسكا، الذي يرى في هذا المسعى تهديدًا لنفع علاقتهما السرية وإيذانًا بقدوم طفل بلا أب، يرفض بشدة.
"الأطفال المهجورون كلهم جرحى"
تتضح معالم الصدمة حين تعيد صياغة الطلب في هيئة معضلة اجتماعية وحكم ضمني في ذهنها؛ أي نوع من الأمهات يمكن أن تكونه كاتا، أو تغدو عليه في هذه المرحلة من حياتها، كامرأة عزباء بلا سند؟ تتكشف الإجابة من خلال تصاعد الأحداث في الفيلم تدريجيًا.
استنساخ المآسي
تتصاعد هذه التوترات حين تتقاطع مسارات كاتا مع فتاة مراهقة أخرى منبوذة، آنا/جيونجيفر فيج، التي أُلقي بها في رعاية الدولة منذ زمن بعيد.
تنشأ بين المرأتين رابطة عابرة، تلتف حولها مشاعر متبادلة متقلبة، تتسامح كاتا بسلاسة مع وجود آنا في منزلها، مفسحة لها المجال للقاء حبيبها ساني/بيتر فريد، فتى من بلدة مجاورة، تحلم بالارتباط به رغم معارضة والديها البيولوجيين ولا مبالاة المؤسسة البيروقراطية التي تحتجزها. مع تعمق الألفة بين المرأتين، تساند كاتا، آنا، في مسعاها للزواج، بينما تراودها فكرة تبني طفل، رغم تحذيرات صديقتها آنا المتوجسة "الأطفال المهجورون، كلهم جرحى".
تقدِّم ميزاروش التوهج المرهق لحياة النساء باعتباره حقيقة بدائية؛ تستعرض تفاصيل تنازلاتهن، وعلاقاتهن المتشابكة، وهمومهن المعيشية الملحة، وفي وسط نشارة الخشب المتراكمة في أرضية المصنع، والمطبخ العاري من الزينة، وطاولة الفحص الصارمة، والمقهى الكئيب، وضجيج الكلاب الضالة، تتوهج صلابتهن المتقدة.
هذا التماسك الجارح، الذي جسدته ميزاروش عبر نهج سينمائي امتاز بعدم التأثر العاطفي، شكل توقيعها الفني الأبرز، إذ تصف شخصياتها في حوار مع الناقد السينمائي جيه هوبرمان عام 1984 بأنها "قاسية، قاسية حد النخاع".
آنا وكاتا في عالميهما تتجليان ككيانين يجمعان بين الصلابة والرقة الحانية. شخصيتان مصوغتان بدقة، مغتربتان عن أي إطار مؤسساتي جامد في المجتمع المجري المشبع بالنظام الأبوي حينها.
شيوعية الجولاش
التكوين المتفرد لفيلم التبني والديناميكيات الأنثوية المتحررة لميزاروش، نادرًا ما كانت تجد صدىً في السينما المجرية آنذاك، حتى مع دخول الموجة السينمائية الجديدة لهذه الأمة الصغيرة مرحلة ازدهارها خلال الستينيات، بفعل الانفتاح النسبي الذي صاحب شيوعية الجولاش/Goulash Communism، تلك الحقبة التي دشنها حُكم يانوش كادار عقب حقبة القمع الستاليني، فَراحت الصرامة الأسلوبية والجرأة الجمالية التي صاغت سينما ميزاروش تتسرب إلى الوعي السينمائي العالمي، إلى جانب إبداعات معاصريها الأبرز آنذاك أمثال زوجها ميكلوش يانكشو، بين عامي 1960 و1973، وإستيفان زابو، وكارولي ماك.
كان المساعدون في مواقع التصوير يطمئنون ميزاروش باستخفاف إلى أن عليها ألا تقلق كثيرًا بشأن إخراج أفلامها لأن زوجها يانكشو سيحضر قريبًا لمساعدتها
لكن ما يميز ميزاروش عن هؤلاء أنها لم تغرق في الرمزيات الشكلية، كما فعل يانكشو، الذي كان، وفقًا لوصفها في عام 1984، مهووسًا بالآلة التاريخية التي تطحن الرجال تحت تروسها، بينما انشغلت هي بالأفراد وكيف يعيدون تشكيل التاريخ، كلٌ وفق تجربته الذاتية. هذا التوجه القائم على تحطيم الأصنام والتمسك بعناد فردي كان بمثابة جوهر رؤيتها السينمائية.
جرح قديم
شكَّل التبني نقطة انعطاف فارقة في مسيرة ميزاروش، حيث انتقل بها من هامش الاعتراف إلى مصاف المبدعين المؤثرين عالميًا، في المجر كانت أفلامها الأولى، التي سلَّطت الضوء بإصرار على محنة النساء العاملات وانعكاسات وجودهن الفردي تلقى تسامحًا متحفظًا من الدولة، غير أنها قوبلت بقدر غير يسير من الرفض الرسمي واللامبالاة الجماهيرية.
وتروي ميزاروش في حوارها مع كاثرين بورتوجيس كيف كان المراقبون في مواقع التصوير يطمئنونها باستخفاف إلى أن عليها ألا تقلق كثيرًا بشأن إخراج أفلامها، لأن يانكشو سيحضر قريبًا لمساعدتها! غير أن فيلمها التبني اخترق هذا الحصار، إذ بات أول فيلم مجري يدخل المنافسة الرسمية في مهرجان برلين السينمائي عام 1975، ما جعلها أول مخرجة مجرية تفوز بجائزة الدب الذهبي في تاريخ المهرجان.
فتح هذا الانتصار الباب أمام أعمالها اللاحقة للانتشار على نطاق أوسع دوليًا، حيث خاضت إنتاجات مشتركة مع أسماء بارزة، وتعاونت مع ممثلات مرموقات مثل آنا كارينا وإيزابيل هوبير، ما عزز مكانتها واحدة من أكثر الأصوات السينمائية المجرية شهرة خارج حدود بلادها.
تزامن صعودها مع تنامي الاهتمام العالمي بصناعة الأفلام النسائية، لا سيما في ظل الحركات السينمائية النسوية الصاعدة في منتصف السبعينيات، حيث لعبت المهرجانات السينمائية النسائية الجديدة، إلى جانب الجماعات والمجلات المتخصصة، دورًا محوريًا في الترويج لأعمالها، جنبًا إلى جنب مع إنتاج غيرها من المخرجات،أمثال أجنيس فاردا وفيرا تشيتيلوفا ولينا فيرتمولر ولاريسا شيبيتكو.
غير أن ميزاروش، رغم استمرار أفلامها في إبراز شخصيات نسائية عازمة ومستقلة، كانت تعبِّر عن انزعاجها من توصيفها كمخرجة نسوية. يتعين قراءة هذا الموقف المتحفظ ضمن سياق أوسع يشمل العديد من النساء في الكتلة الشرقية آنذاك، اللواتي نظرن إلى النسوية باعتبارها خطابًا غربيًا منفصلًا عن واقعهن.
فقد اصطدمن بازدواجية المعايير الكامنة في الشعارات الاشتراكية الزائفة عن المساواة بين الجنسين، إذ كانت هذه الأنظمة تطالب النساء بخوض غمار العمل العام والمصانع، بينما تبقيهن أسرى الأدوار التقليدية داخل نطاق الأسرة والإنجاب. وكما أوضحت ميزاروش لبورتوجيس "لقد تم استعباد النساء ليصبحن في آنٍ واحد عاملات في المصانع وخادمات في البيوت".
على امتداد ستة عقود من الإنتاج المتدفق، أرست ميزاروش دعائم مجالها السينمائي، من خلال منظومة إبداعية ثرية تضم ما يزيد على ستين عملًا، تنوعت بين الأفلام الروائية والوثائقية والقصيرة والإخبارية. وقد شكلت هذه الأعمال إرثًا بصريًا منح النساء المجريات المهمّشات، العاملات، العازبات، غير الملتزمات، المنبوذات، موطئ قدم داخل فضاء التاريخ السينمائي، وهي التجربة التي امتدحتها الناقدة الفنية وأستاذة اللغة الإنجليزية بجامعة جزيرة ستاتن في نيويورك باربرا كوارت/Barbara Quart في كتابها Women Directors: The Emergence of a New Cinema/النساء المخرجات: صعود سينما جديدة، واصفة سينما ميزاروش بأنها تجسيد لدراما المرأة ومأساة التاريخ المتشابكة.
نهلت ميزاروش رؤيتها من معين التجربة الذاتية، فقد وُلدت عام 1931 في بودابست، ثم انتقلت طفلة برفقة والديها إلى قرغيزستان السوفيتية. وكان والدها، لازلو ميزاروش، نحاتًا طليعيًا لم ينجُ من مقصلة التطهير الفكري الستاليني، إذ وقع ضحية تلك الحملة عام 1938، في سن الثانية والثلاثين، حيث اعتُقل وسُجن، ليتم إعدامه لاحقًا في العام نفسه، بينما ظلت تفاصيل مصرعه طيّ الكتمان حتى عام 1999، حين أفرج عن وثائق سرية كشفت تفاصيل إعدامه.
أما والدتها التي كانت رسامة، فقد وافتها المنية بعد ذلك بفترة قصيرة. وبعد أن قُبض على ميزاروش الطفلة في دار أيتام سوفيتية، تبناها لاحقًا موظف شيوعي عند عودتها إلى المجر بعد الحرب عام 1946.
في مراهقتها، اجتذبها عالم السينما، فسعت إلى الالتحاق بأكاديمية السينما المجرية، غير أن طلبها قوبل بالرفض، لأن لم يُتح للنساء آنذاك فرصة الولوج إلى هذا المجال الأكاديمي. لكنها وجدت منفذًا عبر معهد التصوير السينمائي الحكومي المرموق/VGIK في موسكو، حيث تلقت تعليمها على يد رموز سينمائية بارزة مثل ألكسندر دوفجينكو وسيرجي جيراسيموف.
وعندما عادت إلى المجر في منتصف الخمسينيات، حاملة إرثًا تعليميًا مكثفًا اكتسبته في موسكو، أنجزت أكثر من ثلاثين فيلمًا وثائقيًا قصيرًا، شملت الأفلام الإخبارية والعلمية الشعبية وأفلام الطبيعة والبورتريهات الفنية، متنقلة بين المجر ورومانيا.
وفي عام 1968، أخرجت أول أفلامها الروائية الطويلة Eltávozott nap/ذهب اليوم، الذي يتمحور حول عاملة مصنع شابة غير مكترثة، تغادر بودابست متجهة إلى قرية نائية لملاقاة والدتها الفلاحة التي تخلت عنها قبل عقدين.
غير أن المحطة الأكثر حضورًا في مسيرتها كانت رباعيتها التي استهلتها بفيلم Napló gyermekeimnek/مذكرات لأطفالي 1984، حيث قدمت استعادة مباشرة لطفولتها الموسومة بالخسارات، وأجرت تفكيكًا سينمائيًا لوقع الستالينية على التاريخ المجري، مستندة إلى أرشيف ذاكرتها الشخصية.
لمن تنتمي الطفلة اليتيمة؟ على من يمكنها التعويل؟ هذه الأسئلة تشكلت في المخيال السينمائي لما بعد الحرب العالمية الثانية، وسط ركام الصدمة الوطنية وندوب الفاشية. من ألمانيا سنة الصفر 1948 لروبرتو روسيليني إلى الفيلم المجري البارز في مكان ما من أوروبا 1947 لجيزا رادفاني، حيث تتجسد مأساة الأطفال الناجين من مذابح الحرب، الذين يهيمون في البراري قبل أن يعثروا على مأوى داخل قلعة مهجورة، تحت رعاية عازف بيانو وحيد، يمنحهم فرصة تعلم عابرة قد تنتشلهم من حطام التاريخ.
في التبني يتقلص هذا القطيع الهائم من الأطفال إلى فتيات جانحات يتسكعن في الشوارع، يملؤهن الفضول إزاء كاتا عند لقائها بجوسكا. تفككهن الأخلاقي يعكس خللًا اجتماعيًا واقتصاديًا لم يعد محكومًا بإرث الحرب، بل ينضح بتصدع بنيوي أعمق، أفرز جيلًا من الفتيات اللواتي صار المجتمع ينظر إليهن كمشكلة اجتماعية.
كما يتناول أحد أعمالها الوثائقية المبكرة، Szeretet/الرعاية والمودة عام 1963 رعاية الأطفال في دار أيتام تابعة للدولة، متضمنًا مشهدًا مطولًا يستشرف انغماسها المتكرر في سرديات التخلي عن الأطفال، ومسألة الاستحقاقات العالقة لأولئك الذين "لا مأوى لهم ولا قانون"، لاستدعاء الروح المتقاربة لفيلم فاردا Sans toit ni loi/المتشردة، يتبدى ذلك من خلال لقطة قريبة لوجوه الأطفال، مثبتة على الشاشة، تحملق في الكاميرا ببراءة غافلة، في مونتاج متواصل يمتد لدقيقة.
في التبني تعود أيضًا دار الأيتام لتتجلى كفضاء مكبوت اجتماعيًا، مغيّب عن الأنظار، أشبه بسجن للتطلعات المؤجلة. الوجوه الفتيَّة التي تتراءى في مواجهة كاتا تعكس ذات الصور التي أرسيت في الفيلم الوثائقي، مؤكدة على استدامة التجربة وانغلاق دورتها.
في ختام فيلمها الأشهر، ببرودته المؤرقة، تلوح رؤية أشد اتساعًا للخراب الذي يستوطن الهياكل الاجتماعية. يختتم مشهد الزفاف بانفجار عنيف يتحاشاه ساني تجاه عروسه، فيما تبلور رحلة كاتا نحو الأمومة عبر حقيقة جديدة تتجسد بتوقيعها أوراق التبني، واستقبالها طفلة رضيعة ممتلئة الجسد.
تحمل كاتا الصغيرة وتركض نحو حافلة في لقطة بعيدة، أنفاسها المتقطعة تتردد بوضوح. تتجمد الصورة فجأة، تتوقف كاتا في اندفاعها، ويبقى المشهد مفتوحًا على احتمالاته غير المكتملة. هذا التردد الشكلي يعكس كل ما يظل معلقًا، غير محسوم، بعيدًا عن أي وعد بتحقق الأمنيات. ماذا تعني الأمومة، إذن؟ يمكننا أن نستدعي، من خلال تجربة كاتا وآنا، إجابة تتجاوز إطار القرابة البيولوجية، الأمومة تعني الحنان قبل النسب، والرعاية قبل الدم.