تجدد لقاء المخرج روبرت زيميكس بالفريق الذي ساهم من قبل في النجاح الطاغي لفيلمه الأسطوري Forrest Gump؛ إذ عاد للعمل مع الكاتب إريك روث، والنجمين توم هانكس وروبين رايت، لنكون على موعد مع Here، الذي عُرض خارج المسابقة الرسمية ضمن الدورة الخامسة والأربعين لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي، المختتمة فعالياته في 22 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.
سرد معقد عبر الأزمنة
استند صناع الفيلم للرواية التي تحمل الاسم نفسه للكاتب ريتشارد مكواير في تقديم قصة معقدة عن حياة أجيال متتالية في منزل واحد، لاستعراض تأثير الزمن على العلاقات الإنسانية من خلال سيناريو يقتصر على أربع شخصيات رئيسية.
يُظهر الفيلم كيف أن الزمن لا يتحرك فقط في خط مستقيم، بل يتداخل بشكل غير مرئي ليؤثر في الحياة والمشاعر. وبينما يعرض تسلسلًا زمنيًا غير تقليدي، فإنه يعكس ملامح من الحياة اليومية للأجيال المتعاقبة في المكان نفسه، ما يمنحنا فكرةً عن كيفية تغير العلاقات العاطفية والعائلية عبر فترات زمنية متعددة.
الزمن في هذا الفيلم ليس مجرد خلفية للأحداث، بل هو بذاته شخصية حاضرة، تشارك الشخصيات في تكوين حياتهم وتطور علاقاتهم.
يمر الزمن بطريقة تؤثر على هويتنا وعلى مشاعرنا تجاه الآخرين، خصوصًا عندما يتعلق الأمر بالحب والفقد والذكريات؛ ليغوص Here في تساؤلات وجودية حول حياتنا الإنسانية.
طريقة السرد غير التقليدية التي استخدمها المخرج، ورغم أهميتها في إبراز الفكرة، فإنها أثرت على الانتقال بين الأزمنة المختلفة فلم يكن سلسًا بالقدر الكافي.
هذه الإشكالية في الانتقال بين الأزمنة أثرت على تدفق السرد ووتيرة الأحداث، ففي فيلم يتعامل مع فكرة الزمن العابر والذكريات، كان من الأفضل أن تكون هذه النقلات أكثر سلاسة، مما يسهل ارتباط المشاهدين بالشخصيات وتطوراتها.
علاوة على ذلك، اتسمت بعض المشاهد بالإيقاع البطيء، وهو عيب يقلل فرص الانجذاب للعمل، ويرهن استمرار المشاهد في متابعة الأحداث بمدى قدرته على الصبر والانتظار إلى أن تتضح الفكرة الرئيسية.
سينما بتقنيات المسرح
ركز زيميكس على الثبات النسبي للكاميرا، مع وحدة المكان، مما خلق تأثيرًا مشابهًا لتقنيات المسرح؛ فالكاميرا لا تتحرك بشكل متكرر أو مفاجئ كما هو الحال في الأفلام السينمائية التقليدية، بل تظل ثابتة، مما يعطي المشهد طابعًا ثابتًا وثقيلًا، إذ يكون التركيز على أداء الممثلين في فضاء ثابت. كما تحافظ اللقطات على مسافة بعيدة من الشخصيات في غالبية المشاهد، وهو ما يؤكد الشعور بأنها تتحرك وتؤدي أفعالها في مساحة مغلقة أو محدودة، كما يحدث في المسرح.
يستخدم المخرج غرفةً واحدةً لتسجيل ذكريات من عاشوا فيها عبر أزمنة متعاقبة
في الحالات التي يستدعي فيها المشهد تكثيف التركيز أو إبراز تفصيل معين في الشخصية أو الحدث، اختار المخرج تحريك الكاميرا بشكل تدريجي أو يعتمد على الممثلين أنفسهم لتحريك الإطار، أي أن الشخصيات هي التي تتحرك باتجاه الكاميرا بينما تظل الكاميرا ثابتة. هذه الطبيعة المسرحية للعمل، تجعل الإحساس بالزمن والمكان ثابتًا ومتسقًا.
يساهم هذا الأسلوب الذي يقترب من تقنيات المسرح في خلق توتر درامي دقيق، إذ تصبح الحركة جزءًا من سرد القصة؛ الكاميرا الثابتة تمنح الفيلم طابعًا أكثر تركيزًا على الحوار والعلاقات بين الشخصيات، وتزيد من الإحساس بالعزلة أو التقوقع في الفضاءات التي تتحرك فيها الشخصيات.
ويبدو جليًا مدى تأثُّر زيميكس بالمخرج الإسباني كارلوس ساورا الذي اشتهر بتوظيف المساحات المغلقة والإضاءة المتحركة كأدوات رئيسية للتعبير عن الصراع النفسي والشخصي داخل أفلامه، ما يجعل المشاهد يشعر بأن الشخصيات لا تتحرك فقط في الفضاء السينمائي، بل أيضًا محاصرة داخل هذا الفضاء بما ينعكس ذلك في أبعاد نفسية وعاطفية عميقة، ويقدم تجسيدًا سينمائيًا لفكرة المسرح المغلق، الذي يتمحور حول التفاعل المكثف بين الشخصيات والفضاء المسرحي، بحيث تصبح كل حركة وكل لحظة مهمة للغاية.
الأمر نفسه نجده في Here، حيث يستخدم زيميكس غرفة واحدة تسجل ذكريات من عاشوا فيها عبر العصور المختلفة، ليستعرض الفيلم كيف يتغير المكان مع مرور الزمن بينما يحتفظ بتاريخه الخاص عبر قصص متعددة وشخصيات متنوعة. يصبح المكان شاهدًا صامتًا على حياة البشر وتحولاتهم، مما يؤكد البعد الفلسفي في الفيلم، ويجعل من الزمن عنصرًا حيويًا لا يمكن فصله عن الشخصيات.
جرى تصميم كل مشهد في الفيلم بأسلوب "الميزانسين" المسرحي، إذ تُستخدم الكاميرا كعين ثابتة تسجل التفاعل بين الشخصيات والمكان. ولجأ زيميكس أيضًا إلى تقنيات إضاءة مستوحاة من المسرح، مما أضفى عمقًا دراميًا على الأحداث وساهم في تسليط الضوء على التحولات الزمنية في المكان.
ساهمت الإضاءة وحركة الشخصيات في خلق أجواء التوتر الداخلي، إذ أصبحت المساحات المظلمة أو المضيئة رمزًا لمشاعر الشخصيات المتناقضة، وهو ما يعيدنا مرة أخرى إلى ساورا الذي يستخدم الإضاءة المتحركة بكثرة لتوضيح التغيرات النفسية والتطورات العاطفية للشخصيات.
على سبيل المثال، في فيلم ساورا الشهير عُرس الدم، إنتاج 1981، يتم توظيف الإضاءة بشكل ديناميكي لتسليط الضوء على الوجوه أو أجزاء معينة من المشهد، مما يعكس التحولات في الحالة النفسية للشخصيات.
يقدم توم هانكس أداءً معقدًا في دور ريتشارد يونج، يعكس الصراع الداخلي لهذه الشخصية عبر الأزمان المختلفة، إذ تواجه تحديات عاطفية ونفسية تستمر معه عبر الأجيال.
في هذا السياق يعكس هانكس التغيرات في شخصية ريتشارد بمهارة فائقة، منتقلًا من مرحلة الشباب إلى الشيخوخة بأسلوب يجسد التغيرات النفسية والعاطفية التي ترافق هذه الانتقالات.
أما روبين رايت، فتقدم دور مارجريت بما تحمله من حنين ورغبة في التواصل، مما يجعل ثنائيتها مع هانكس محورية في تطور الأحداث، إلا أن أداءهما كان أحيانًا أقوى من اللحظة الدرامية التي يمثلناها.
فخ الذكاء الاصطناعي
يستخدم زيميكس تقنية تقنية CGI (Computer Generated Images) المتقدمة في التصوير، وسمحت الصور المولّدة بالكمبيوتر بإعادة الشباب للممثلين كبار السن لتوم هانكس وروبين رايت بتجسيد شخصياتهما عبر أجيال مختلفة دون الحاجة لتغيير الوجوه أو استخدام ممثلين آخرين. هذه التقنية، التي أثارت الكثير من الجدل في أفلام سابقة مثل The Irishman للمخرج مارتن سكورسيزي تتيح نقلات زمنية غير تقليدية، إلا أنها من ناحية أخرى أضفت طابعًا صناعيًا على بعض المشاهد، وأعاقت اندماج المشاهدين مع أداء الممثلين.
رغم بعض السلبيات التي قد تؤثر على تفاعل الجمهور مع الفيلم فإنه يظل عملًا مهمًا على مستوى تقديم طرح فلسفي عميق عن الزمن والعلاقات الإنسانية، ويقدم تجربةً سينمائيةً مسرحيةً تثير تساؤلات عميقة حول حياتنا وكيفية تفاعلنا مع الأحداث المحورية فيها.