في بداية فيلمه التسجيلي أبو زعبل 89 يسأل بسام مرتضى أمه "ليه خدتيني معاكي الزيارة؟" حين رافقها صغيرًا في زيارة لوالده في السجن. يستدعي المخرج الأربعيني من ذاكرته مشهدًا بعينه للطفل الذي كانه، ممسكًا بيد أمه، لزيارة والده محمود مرتضى في سجن أبو زعبل. ومن السؤال تتوالد الأسئلة والمشاعر المتناقضة التي تدفعنا للتأمل الذاتي لنشارك المخرج الرغبة نفسها في الفهم. بالأحرى نشاركه في رؤية ذاكرته.
يحاول الأب محمود مرتضى أن يتذكر تفاصيل اعتقاله في مارس/آذار 1989 إثر إضراب عمال الحديد والصلب "الحبسة دي غريبة لأن فيه أصدقاء ليا في الحبسة مش فاكرهم بس يبدو إن الذاكرة سقطت مني. سيد رجب بيفاجئني بوجوده في الحبسة وعامل عرض حكي عنها خلاني نفسي أشوف العرض ده".
استعادة الذاكرة بالحكي والصور الضبابية هي الطريقة التي بنى بها بسام فيلمه، حاضر يستحضر ماضيًا. يُحضر بسام سيد رجب ليعيد العرض مرة أخرى على خشبة المسرح، فيحكي عن اعتقاله وسجنه مع محمود وبقية الرفاق. يحضر محمود العرض في عرض خاص ليسد فراغات الذاكرة. لكن لماذا أصلًا يستدعي الابن هذه المشاهد من ذاكرة أبيه؟
محاكمة الأب
لا يمكنني اختزال الفيلم بوصفه تسجيلًا ذاتيًا عن علاقة مخرج فيلم بوالده اليساري والسجين السياسي السابق، ولا مجرد محاكمة أب عن فترة سُجن فيها فدفعت الأسرة كلها الثمن.
يدفعني الفيلم للوقوف عند مدى شرعية محاكمة الأب، يشتبك الخاص بالعام ويمتد الخيط لجيل يناير الذي حاكم سلطة مبارك الأبوية الديكتاتورية، ليست المحاكمة هنا محض تمرد، بل تأمل هادئ لشعور داخلي قوي بالهزيمة سببها الرئيسي الأب، حضوره وغيابه.
ما يميز صانع فيلم عن آخر هو لغته السينمائية التي اختارها ليعبر عن وجهة نظره بالصورة أو الكلمات، وبسام أجاد توظيف الاثنين. بالكلمات طرح الأسئلة مستخدمًا المجاز، وبالمونولوج الداخلي والأغنيات والقصائد والأفلام، كشف مشاعره الكامنة، كتعرية مخاوف أمه من أن يتحول لنسخة من أبيه. وبالمجاز أيضًا عبّر عن الانفصال النفسي بينه وبين أبيه.
لم يخلع بسام رداء الأب، هو يرتديه عن وعي، وحين يحكي الأب عن حبسه الانفرادي نرى بسام سجينًا وحيدًا في ظلام ذاكرته الممتزجة بذاكرة الأب، يتقدم نحو حوض مياه آسنة ويغمر نفسه فيها، وهذا في رأيي جوهر تلك العلاقة المركبة.
وعلى العكس، كل المشاهد التي تجمع بسام بأمه فردوس بهنسي بها قدر أكبر من القرب والحميمية؛ ابن مع أمه في المطبخ والبلكونة، أو يحضنها عند السلام.
الوعي الأنثوي
حياة الأم مستقرة بعكس الأب دائم التنقل متقلب المزاج، لذلك يليق بالأب أن يكون بطلًا دراميًا، فقد تعرض لتغيرات نفسية قوية أثرت على اختياراته، بينما الأم لم تتغير وظلت حتى النهاية متمسكة ببيتها القديم.
تَغَيُّر الأب لم يكن سببه السجن. تحكي فردوس أن العلاقة كانت باردة قبل الحبس، لكنها ظنت أنها ستقوى بعد خروجه من السجن، فخاب ظنها.
حكي بسام قصة الانفصال من منظورين مختلفين، دون مواجهات أو نقد عنيف، مجرد محاولة للفهم، سرد متعدد الأصوات، وهنا تتبلور وجهة نظره كصانع فيلم تجاه الحكاية، والنتيجة أن منظوري الأم والأب يضعانا أمام الاختلافات الواضحة بين النساء والرجال في فهم كل طرف لمشاعر الآخر.
الحبسة هي السبب في تدمير هذه الأسرة
تصف فردوس مشاعر زوجها بعد خروجه من السجن "كان في حالة من حالات الـpause العاطفي"، واستطردت في تذكير بسام بمشاعره تجاه أبيه "أنت قعدت تراقبه من بعيد، وقلت لك بابا تعبان مش عيان. وكنت بتسألني انتوا متخانقين؟ وفي تدريب على التمثيل محمود قعد يتشحتف ويعيط. كان فيه ذكريات حابسها بدأت تطلع".
لم يكن الأب واعيًا بمشاعره، ومشاعر ابنه تجاهه، على عكس الأم التي لم يكن لديها رفاهية الانهيار أو تجاهل مشاعرها "كان عندي أنت والشغل، الرجالة بقى بتتكسر".
هكذا بتلقائية لا تحتاج الكثير من التخمين تختصر فردوس حالتها النفسية كامرأة وتقارنها بحال الرجال بعد الصدمات الكبرى. انهيارها سيكون رفاهية بينما الأب أخذ حقه كاملًا؛، سافر، دخل قصة حب جديدة، رفع يده عن الأسرة، لم يحمل سوى عبء نفسه، وكأن الرحلة فردية، بينما الابن والأم يدفعان ثمن الرحلة المشتركة التي، على الأقل، لم يخترها بسام بإرادته.
تسببت الحبسة في تدمير الأسرة "مش بيقبضوا ع الشخص بس. بيدمروا الأسرة" كما جاء على لسان فردوس. بعد هذا الحوار يسد صوت بسام فراغات الحكاية، كيف أصبح هو البديل محل الأب بعد غيابه، يمارس دورًا لا يخصه ويتحمل مسؤولية أكبر منه، وربما لا يفهمها، وهو ما يفسر سؤاله السابق لأبيه بعد كل هذه السنين "أنت ليه يا بابا سبتني أنا وماما ف البيت ده؟".
البطل الضد
مَن بطل هذا الفيلم؟ وهل بين شخصياته أبطال بالمعنى الذي نعرفه؟ الرجل اليساري المُعارض والسجين السياسي الذي يقف في صفوف العمال ليس بطلًا في مجتمع يميني بامتياز، وكذلك رفاق السجن والنضال الذين تهدمت أحلامهم بانهيار الاتحاد السوفيتي وتمزقت مع الانتفاضة الفلسطينية وحرب الكويت وسقوط جدار برلين، ومن قُتلوا إثر التعذيب في السجون. الأب ليس بطلًا في حكاية ابنه كما أنه تخلى عن البطولة في علاقته بزوجته وانسحب دون إبداء أسباب.
جيل حالم غير متحقق ينجب جيلًا آخر يبحث عن الخلاص بالسفر إلى الخارج
يتناص الفيلم مع عدد من الأفلام الحاضرة بقوة في مشاهده: عودة الابن الضال، عفاريت الأسفلت، شحاذون ونبلاء، نماذج سينمائية مميزة للبطل الضد في السينما المصرية، أبطال يمكنني قراءة المخرج من خلالهم، فهو امتداد لهزائمهم الصغيرة وتوقهم للحرية.
الفيلم أيضًا فرصة استثنائية لجيل من الشباب يقرأ صفحات منسية، وربما مجهولة، في تاريخ النضال السياسي اليساري المصري، في سياق بات فيه الحديث عن السياسة من المحظورات. تنبش قراءة مانشيتات أرشيفية عن الإضرابات العمالية ومقتل سجناء إثر التعذيب في سجون الثمانينات، في صفحة عامة وخاصة مسكوت عنها، تذكرنا بسبب ثورة يناير، وسلطوية الحاضر الثقيل.
في المشهد التمثيلي الذي نسمع فيه صوت ضربات عنيفة على الباب، يضعنا الفيلم أمام ذلك الشعور المفزع، شعور "القبضة"، قبض الأمن على المعتقل من بيته، وانقباض القلب، وانكسار الأمان في قلب طفل ربما لم يُشف بعد من صدمة ذلك المشهد الذي هدد بيته الآمن وصورة الأب في عينيه.
ينتهي الفيلم بسؤال مختلف تمامًا عن سؤال البداية، حيث الأب يسأل ابنه "أنت شايفني إزاي؟" ليكون الفيلم بأكمله هو إجابة على سؤال الأب.
مشاهدة الفيلم في اللحظة الحالية، بعد أجيال متعاقبة من الهزائم، وفي سياق صمت تام عن أثر السياسة على جروحنا الذاتية، يضيف بُعدًا آخر قويًا في تلقينا لفيلم أبو زعبل 89، وحصده لثلاث جوائز مهمة من مهرجان القاهرة السينمائي. أنه تقدير وإعادة اعتبار للسينما المستقلة التي تبحث عن متنفس.