imdb
باسل عدرا ويوفال أبراهام في مشهد من الفيلم التسجيلي لا أرض أخرى (2024)

لا أرض أخرى وضرورة الكفيل الإسرائيلي

منشور الخميس 6 مارس 2025

بأسئلة التطبيع اشتعلت السوشيال ميديا بعد أن ذهبت جائزة الأوسكار لأفضل فيلم تسجيلي إلى فيلم لا أرض أخرى (2024)، كونه عملًا من إخراج فلسطيني-إسرائيلي مشترك، أبرز صُنّاعه الأربعة الناشط والصحفي الفلسطيني باسل عدرا والصحفي الإسرائيلي يوفال أبراهام. فهل هذا الفوز انتصار، ومنصة عالمية لقضية الفلسطينيين، أم فعلُ تطبيعٍ لا يستحق الاحتفاء؟

يحكي الفيلم قصة باسل عدرا، الناشط الفلسطيني الشاب الذي يقاوم التهجير القسري في مسافر يطا منذ طفولته. بكاميرته، يسجّل انهيار وطنه قطعة قطعة، حيث يهدم الجنود الإسرائيليون البيوت، ويقتلعون العائلات، تحت ستار تنفيذ حكم قضائي زعم أنها منطقة إطلاق نار عسكرية.

في قلب هذا الخراب، يلتقي يوفال، الصحفي الإسرائيلي الذي يوثق القصة معه، فتنشأ صداقة غير متوقعة، لكنها تتكسر على صخرة الواقع: باسل يقف على أرض ملغّمة بالقمع والعنف، فيما يتحرك يوفال في فضاء واسع من الحرية والأمان.

من المهم ألا نتجاهل السياق الملتبس هنا، بل أن نشير إليه بوضوح. يمكن لأمرين أن يكونا صحيحين معًا: باسل عدرا مخرج موهوب حقق إنجازًا كبيرًا، وألقى كلمة مؤثرة عند استلامه الجائزة. لكن العنف الاستعماري كان حاضرًا في كل تفصيل من الحدث، يفرض نفسه كشرط لا يمكن تجاوزه للوصول إلى منصة كهذه. يظهر هذا بوضوح في تلقي الفيلم عالميًا، وفي كلمة المخرج الإسرائيلي التي أعقبت باسل.

من المؤكد أن باسل، بمهاراته وموهبته، كان قادرًا على إنجاز الفيلم بمفرده، فهو صاحب القصة، والمحتوى، والأهل، والأرض. لكن، لا تصل الرواية الفلسطينية إلى مثل هذه الجوائز إلا برفقة إسرائيلية تمنحها الشرعية، فتأتي الصهيونية الليبرالية وسيطًا يتيح للمتلقي الغربي استهلاك القصة دون أن تختنق حنجرته بالفلسطينية وحدها.

يعشق الليبرالي الغربي مظهر الراديكالية دون جوهرها، يحب استهلاكها دون التعامل مع عواقبها. هنا يعمل الإسرائيلي اللطيف المتعاطف عمل المزلق الذي يساعد الليبرالي الغربي على ابتلاع الرواية، ليطمئنه أن الأمر ليس "متطرفًا"، ليس خارجًا عن السقف المسموح به.

المشهد كله تطبيعي لكن هل نملك نحن حق إصدار الأحكام بينما نراقب من بعيد؟

يصير المرافق الإسرائيلي أشبه بالكفيل الذي يعير مكفوله الفلسطيني شرعية الوجود على مسرح كهذا، ويشير لموزعي الجوائز والمتلقين أن هذا عمل آمن يمكنهم الاقتراب منه وتقليده الأوسمة. هكذا يصبح التطبيع شرطًا أساسيًا لتمرير القصة الفلسطينية في المنصات الكبرى، ويصير الإسرائيلي مشرفًا ضروريًا لكل شهادة فلسطينية.

يصف الكاتب الفلسطيني محمد الكرد هذه الظاهرة في كتابه ضحايا مثاليون؛ "تصبح كل نقاشات الفيلم، مراجعاته، طريقة ترويجه، أشبه بفعل استمناء جماعي، تختزل الفيلم إلى مجرد حقيقة كونه تعاونًا بين إسرائيلي وفلسطيني، تحقيقًا لوهم المشاهد بنهاية سعيدة لقصة تعيسة. نحيله إلى محض فِتِش، شيء يُباع كخاتمة مُرضية لصراع غير قابل للحل".

أما كلمة المخرج الإسرائيلي فكانت نموذجًا للصهيونية الليبرالية: وضع الفلسطيني والمستعمِر في كفتين متساويتين، اختزال القضية إلى "نزاع" يمكن حله بالحوار، ربط ممارسة الفلسطينيين حقهم في الحياة الحرة بشرطِ تمتع مستعمر الأرض المسروقة بالأمان، فلا حقًا أصيلًا لأصحاب الأرض. الكلام كله عن السلام، المصير المشترك بين الشعبين كطرفين مساويين كل ما ينقصهما شيء من التفاهم.

 أدان المخرج الإسرائيلي السابع من أكتوبر، كما كان متوقعًا، ووصفه بـ"الجريمة"، واضعًا إياه في الجملة ذاتها مع الجرائم التاريخية التي ارتكبها الاحتلال ضد الفلسطينيين. لم يكن هذا مجرد تعبير عن موقف شخصي، بل ممارسة مألوفة ضمن نهج غربي مقيت ترسخ منذ العام الماضي، حيث يُصدَّر السابع من أكتوبر كحدث مكافئ للعنف التاريخي الواقع على الفلسطينيين، ويُفرض تقديم الإدانة له كجواز عبور وتأشيرة تتيح للرواية الفلسطينية المرور.

كما يحتفي بالفوز البعض داخل فلسطين، هناك أصوات فلسطينية أخرى تدين هذا الشكل من التطبيع بشدة. تراه خطرًا، وترفض تبريره تحت أي مسمى أو ذريعة. من المهم أن نُقر موقفهم ونصغي.

لا جدال في أن المشهد كله تطبيعي، لكن السؤال الذي يفرض نفسه: هل نملك، نحن الذين نراقب من بعيد، حق إصدار الأحكام أو المزايدة على من يعيش الاستعمار يوميًا؟ لا أملك إجابة قاطعة، ولا أظن أحدًا يملكها. ما أعلمه هو أن باسل، مثل غيره، يتحرك في فضاء ملغّم، لا يترك خيارات نقية أو سهلة.

الإنجاز، بلا شك، يأتي في حدود الممكن والمتاح، ولا أميل إلى ادعاء المثالية حياله أو إلى إدانة من يسلكونه ممن يرزحون تحت وطأة الاستعمار الوحشي بينما أراقب من الخارج. نحن جميعًا، في نهاية الأمر، نصارع في مستنقع من التناقضات، نمد أيدينا أحيانًا إلى منصات لا نؤمن بها، نخاطب الظالمين بلغة الرجاء مشمئزين علّنا نقتنص حرية أسير.

لكن، مهما بلغت المفاوضات، لا يُنسينا ذلك حقيقة الأشياء. نحن نعرف القامع من المقموع، القاتل من المقتول، والسجين من السجان. نعلم تمام العلم أن العدل الحقيقي والتحرر الكامل لن يأتيا على يد سفاحينا.

فعل باسل ما رأى أنه السبيل لإيصال صوته، حمل قصته عبر الطرق المتاحة له. لكنّ الاستعمار لا يمنح الطرق بالمجان، ولا يفتح الأبواب إلا لمن يمر بشروطه. لا ذنب لباسل في واقعٍ جائر، لكن لا بد أن نسمي نحن السياق الاستعماري وعنفه باسمهما، ألا يلتبس علينا أن هذا المسار لم يُفتح بلا ثمن، وأنه جزء من آلة كبرى اعتادت ابتلاع سردياتنا وتهذيبها حتى لا تصير جارحة لمسامع من يتلقاها.

الأوسكار، إن كان فيه أي شرف، فقد ناله بارتباط اسمه بفلسطين وأبناء مسافر يطا، لا العكس. ستنقضي اللحظة ويخفت الضجيج، لكن تبقى القضية أكبر من الجوائز، وأبقى من الأضواء العابرة. سيظل نضالنا مستمرًا نحو عالم لا تحتاج فيه فلسطين إلى مقدمات، ولا إلى أختام تصديق من مستعمريها لتجد روايات أبنائها طريقها للعالم.