ريد ستار فيلمز
مشهد من فيلم "ضايل عنا عرض"، إخراج مي سعد وأحمد الدنف (2025)

"ضايل عنا عرض".. سبعة مجانين ينقذون العالم

عن الدافع الأول.. لماذا يصنع الفنان الفن؟

منشور السبت 20 كانون الأول/ديسمبر 2025

في لحظةٍ أخرى، في زمنٍ آخر، في ذاكرةٍ أخرى تمامًا، سيشاهد الناس فيلم "ضايل عنا عرض" (2025) ويُفكِّرون في سؤال أبعد من الجغرافيا والتاريخ: كيف يرى الفنان نفسه؟ وكيف يرى العالم؟

وسط سيل الأفلام التوثيقية التي تُصنع من قلب الكارثة، الثورات، الحروب، المجاعات، الذاكرة المُحوَّلة إلى صورة كي لا تُمحى، ينجح هذا الفيلم في مهمته الأولى؛ توثيق اللحظة، لكنه يتفرَّد بشيءٍ أبعد، قدرته على أن يطرح، بثقة، سؤالًا وجوديًا: ما هو الدافع الجوهري العميق الذي يدفع الفنان لممارسة الفن؟

إذا نحَّينا جانبًا القشور المعتادة مثل لقمة العيش والشهرة والحرفة والمكانة، سنجد أنفسنا وجهًا لوجه أمام جنوب غزة. مدينة تستيقظ على أشلاء، وتنام على احتمال أن تكون الليلة الأخيرة. وفي مدينة كهذه يصبح هذا السؤال مشروعًا، منطقيًا، وعضويًا، ينبع من داخل سياق الفيلم لا من خارجه: ما معنى أن تصنع فنًا هنا؟ الآن؟ وسط كل هذا؟

ومع ذلك، فإن الفيلم لا يسقط في فخ الخطاب المتعالي. لا أحد ينظر إلى الكاميرا ويتفلسف عن "الدور النضالي للفن" أو "المقاومة بالفن". لا أحد يقدّم نفسه كمنقذ.

الفن في المقدمة والدمار في الخلفية

الكاميرا في يد أحمد الدنف، ابن المكان، مصوّر وصانع أفلام في غزة وشريك الإخراج. هو ليس عضوًا في سيرك غزة الحر، لكنه رفيقٌ في المصير، يتحرك خلف أعضاء السيرك، ووسطهم وداخل عالمهم.

ربما لم يسأل نفسه يومًا لماذا يفعل ما يفعله، ولم يخطر له أن يسأل أعضاء السيرك، أبطال الفيلم، السؤال نفسه. وربما لم يكن هذا السؤال حاضرًا في ذهن مي سعد شريكة الإخراج في القاهرة وهي تتابع ما يحدث في غزة عبر الشاشة حين قررت أن تصنع الفيلم.

هذا النوع من الأسئلة لا يظهر عادةً إلا عندما يطرحه صحفي في مهرجان، أو صندوق دعم في استمارة منحة. أما داخل سياق أحداث الفيلم، في قلب غزة، هناك فقط: الفعل، والفن.

أعضاء سيرك غزة الحر: يوسف خضر، محمد أيمن، محمد عبيد (جاست)، أحمد زيارة (بطوط)، إسماعيل فرحات، محمد الأخرس، وأشرف خضر. سبعة رجال يتحركون في الفراغ المفتوح بين الحياة والموت، يحاولون بأجسادٍ مكدودةٍ وأرواحٍ مُتَّقدةٍ خلقَ مساحةٍ ثالثةٍ. مساحةٌ تشبه الحياة كما يحبون أن يروها.

الفيلم يقدّم نظرة غير استشراقية، غير ميلودرامية، وغير متواطئة مع التعاطف الاستهلاكي السهل. الدمار حاضر في الصورة، لكن أعضاء السيرك الراقصين وسطه يرفضون الاعتراف به. كأن الجسد، للحظة، قادر على أن يهزم الفيزياء والذاكرة معًا. الفيلم لا يتسوَّل الدموع. ولا يقدّم خطابًا رومانسيًا من نوع "رغم الدمار هناك فن". الدمار في الخلفية، لا أحد يعلَّق عليه. والفن في المقدمة، لا أحد يبرر وجوده. 

الفنان هنا لا "يُنتج" عملاً فنيًا؛ بل يعيش من خلاله. ليس بالمعنى المادي؛ بل بالمعنى الوجودي الخالص. مي سعد قالت، في إجابة على صحفي بعد العرض، إن دافعها لصنع الفيلم كان توثيق الحياة اليومية بلا تدخل؛ أن تترك الكاميرا تتابع بحرية جماعة سيرك غزة الحر وهم يمارسون الحياة. لكن ما وثقه الفيلم على الأرض كان أعمق بكثير من "الحياة اليومية".

عَمِل كعدسة ميكروسكوب مكبّرة، كشَف القلق الوجودي الجامح داخل أبطال الفيلم، ووثّق إصرارًا أصيلًا، مجنونًا تقريبًا، لدى الفنان على أن يرى العالم بالطريقة التي يرغب فيها، ثم يقرّر أن يعيد خلق هذا العالم على صورة خياله.

أحد أبطال الفيلم، مثلًا، تمكَّن من تهريب زوجته وابنه إلى خارج غزة خوفًا على حياتهما، وبقي هو. ينهشه الحنين إليهما، ويُتعبه القلق من أن يُغيّبه القصف إلى الأبد. ومع ذلك، في لحظة سمر حميمة مع رفاق السيرك على خلفية الأنقاض، يقطع موجة الحزن قائلًا: شباب فُكّونا من فقرة الحزن هَذي، خلّينا نعيش في الواقع.

الواقع الذي يتحدث عنه هنا ليس ما نراه نحن كمشاهدين من رجالٍ يتحركون وسط الخراب، بل ما يرونه هم. بمجرّد أن يضعوا الصبغات البيضاء على وجوههم، يتحوّل العالم الخرب إلى شيء آخر. كن فيكون. ليس فقط لإسعاد أطفال المجزرة، بل لأن هنا بالذات تكمن قوة الفنان. قدرته على الخلق، وإيمانه الداخلي بقدرية كونه خالِقًا صغيرًا من العدم.

واحدٌ آخر كان مهاجرًا في ألمانيا، وقادته المصادفة إلى زيارة أهله في غزة عند اندلاع الحرب ليعلَق بلا قصد. لا يتحدث في الفيلم عن رغبته في "إسعاد أطفال غزة" أو عن تحويل وجوده القسري إلى فعل مقاومة واعٍ. هو يعترف ببساطة أنه لم يقصد البقاء، وأنه ينتظر بفارغ الصبر فرصة الرحيل، أو الموت. ومع ذلك نراه يدور بحماس بين الأطفال يخاطبهم بصوت البطة دونالد داك المضحك. لا يسأل نفسه لماذا يمارس الفن؛ إنه يمارسه فحسب.

كلما صعد أعضاء سيرك غزة الحر إلى ظهر السيارة في مشاويرهم عبر الجنوب، اتخذت كاميرا أحمد الدنف، بحركتها البطيئة المتتبِّعة، وضعية الشاهد. وكأن عيونهم تراقب الخراب الذي يحيط بهم، وترصد ثقله الصامت على الطريق. لكن ما إن تتأمل زاوية نظرهم حتى تكتشف مفارقة مدهشة. هُم لا يرون المدينة كما تنعكس أمامهم، بل كما تنهض داخلهم.

فما تراه أمامك على الشاشة هو مدينتان متوازيتان: واحدة تسقط تحت وطأة ما بعد القصف، وأخرى تُصاغ في عين فنان لا يعيش في الوهم ولا يهرب إلى الخيال، لكن يقيس في صمت ملامح ما سيبنيه من خياله، وفق خطته السرية لتغيير العالم. تدرك ذلك من يقينهم التلقائي في التعامل مع المكان. في طقوس التحضير الجماعي للعشاء، بيضٌ طال انتظاره وبطاطا. في استدعائهم البارد للحظة انتشال بقايا جثث الجيران الليلة الماضية وكأنها عادة يومية، وفي انغماسهم في ترتيبات العرض التالي كأن العالم لم ينهَر قبل ساعات.

الفيلم لا يوثّق "الحياة اليومية" لسكان غزة، ولا حتى لأعضاء السيرك، بالمعنى التسجيلي البسيط. هو يذهب إلى ما هو أبعد بكثير. يوثّق تلك اللحظات النادرة التي نكون فيها، نحن المتفرجين، شهودًا على ولادة واقعٍ آخر، ينمو أولًا في خيال فنان، ثم يحوّله بيديه إلى حقيقة تُرى وتُسمَع وتُصدَّق.

دوبامين الأمل

من زاوية أخرى، لا يحكي "ضايل عنا عرض" ما هو معروف سلفًا. لا يغرق في البديهيات السياسية، ولا يكرّر تعريف الأشياء كما تفعل أفلامٌ تريد أن "تشرح القضية" للعالم، فتبدأ في تبسيط اللغة وتكرار المفاهيم والمصطلحات والأدوار: من الظالم، من المظلوم، أين الحدود، أين الخريطة.

الفيلم لا يلعب لعبة تبسيط القضية للمبتدئين. يترفَّع عن هذا كله، ويركّز على ما هو أعمق. يصوّر مجموعة من الفنانين داخل العالم الذي يحاصرهم، ويصوّر العالم الذي يحاصرهم داخل عيونهم. ومن خلال هذا التبادل الصامت، تدرك أيًّا كان موقعك في العالم، أو موقعك منه، من يعتدي ومن يقاوم، من دون خطبة واحدة أو جملة شعاراتية.

هنا لا يصبح الفن "بديلًا" عن الحياة، ولا بديلاً عن فعل مقاومة واعٍ. هو ليس قرارًا أساسًا، بل أسلوب حياة للتعامل مع القلق الوجودي، القلق من البقاء، أو من الرغبة العارمة في البقاء. الفنان، كما يلمع في الفيلم، يدرك في أعماقه ولو بصورة مغبّشة، فعل "الدوبامين المؤقت" الذي يجتاح روحه في لحظة اكتمال الخلق. لحظة لا تدوم، لكنها تمنحه طاقة كافية ليواصل. وممارسة الإبداع في جوهرها، بمعناها المجرد قبل أن تُشكّلها شروط السوق، ليست فعلاً أنانيًا محضًا يتمحور حول إرضاء الذات، بل هي أهم ما يستطيع الفنان أن يشاركه مع غيره من البشر في مواجهة قلقهم الوجودي المشترك.

سبعة متشبّثين بالفن في مواجهة الفقد القسري، والدمار العنيف، ورائحة الموت النفاذة، يحاولون بأجسادهم النحيلة تضميد جرح العالم بجعله على الصورة التي يرونها. وهم لا يضعون أذرعهم خلف ظهورهم كما يفعل حنظلة بل يمدّونها عن آخرها، ليغيّروا العالم ولو لمتر واحد من الهواء، ولو لدقيقة من الزمن.

"ضايل عنا عرض" فيلم عن المعنى المجرد لأن تكون فنانًا، مجرَّدًا من كل مقومات الرفاه الإنساني، ومن الشعور بالأمان، ومن كل أشكال التحقق التقليدي. إنه عن "دوبامين الأمل" الذي يحوّل الفنان إلى قوة هائلة قادرة على الخلق وإعادة الخلق في مواجهة الخراب، قادرة على تهدئة الأرواح القلقة لأنه يعرف معنى الفزع من الداخل. قوة لا تجمّل البقاء، بل تصنعه، تخلقه، توجده من العدم.

ما شكل العالم بلا فن؟

وسط الحطام، وحكايات الأشلاء المتطايرة، والأحلام المكسورة، والفقد، والمسافات، والحصار، يباغتك مشهدٌ لسبعة رجال يتحدثون وهم مستلقون على مراتبهم المفروشة على الأرض العارية، بعد أن أتى صاروخ على الجيران وجيران الجيران، على الحجر واللحم والعظم. يتحدثون قبل نومة قد تكون الأخيرة، عن حلم واحد: أن يرحل الواحد منهم بجسد كامل، لا أشلاء، حتى لا يؤذي مشاعر المسعفين. هذا الوعي بالأبعاد الجمالية حتى في لحظة تخيّل الموت ليس ترفًا نخبويًا في غير محله، بل جزء أصيل من رؤية الفنان للعالم.

ثم يأتي الصباح، فنراهم وسط الركام معلقة بهم قلوب وعقول وعيون الأطفال والنساء والرجال الملتفّين حولهم بعد أن فقدوا كل عزيز وغالٍ. يلتقي هؤلاء الناس من خلال السيرك بجوهر إنسانيتهم المكدودة، لا وهم يصارعون من أجل بقاءٍ مجرّد يشبه العدم، بل وهم يستعيدون الأمل في بقاء يشبه الصورة التي يزرعها سبعة مجانين بخلق حياة "على ذوقهم" لإنقاذ العالم.

نعم، الفنان لا يوقف الحرب، ولا يهدم السجن، ولا يُسقط الطائرات. لكنّه ينقذ العالم من الشعور باللاجدوى، ويمنح الناس -ولو للحظة- إحساسًا بأن البقاء يمكن أن يكون بكرامة، لا مجرد استمرار بيولوجي في الفراغ.

في النهاية، يصنع "ضايل عنا عرض" نفسه من "لا شيء". لا معدات مكتملة، لا ظروف إنتاج، لا بيئة آمنة. يقف وراءه مخرجان يفصل بينهما المكان وتجمعهما الفكرة. مي سعد في القاهرة، صاحبة المبادرة الأولى وأحمد الدنف في غزة، الذي حمل الكاميرا كما يحمل المرء مصيره.

ينتمي كلاهما للقلق الوجودي ذاته الذي يدفع أعضاء سيرك غزة الحر إلى مواصلة الفن، مهما ضاق العالم وانكشف رعبه. فتكشف عملية صناعة الفيلم نفسها درسًا آخر، في زمن صار فيه قرار صناعة فيلم عملية معقّدة من الأسئلة التي تلد أسئلة، ومن الشكوك التي تُغرق الفنان قبل أن يبدأ والتي ربما لا ينبغي أن تسأل من الأساس: لماذا نصنع الفيلم؟ لمن؟ وكيف؟ وبأي أدوات؟ وكيف نواجه المخاوف، والرقابة، والتمويل، والسوق، والتوقعات؟

ربما يثبت الفيلم أن كل ما هو جوهري في الفن يختبئ بعيدًا عن هذه القشور، في عمق لا تصل إليه شروط الصناعة ولا حسابات السوق. ضايل عنا عرض يهمس بهدوءٍ واثقٍ وربما منذرٍ أيضًا: ما شكل العالم بلا فنانين؟ ما شكل العالم بلا فن؟