مواد دعاية الفيلم
عائلة درزية تتبادل الود عبر الحدود في فيلم طيارة من ورق

الخروج من حقل ألغام قضية الدروز على متن "طيارة من ورق"

منشور السبت 26 يوليو 2025

تعرفت على "مشكلة الدروز" للمرة الأولى منذ أكثر من عشرين عامًا عندما شاهدت فيلم طيارة من ورق، للمخرجة اللبنانية الراحلة رندة الشهال، على شاشة المسرح الصغير بدار الأوبرا المصرية ضمن عروض مهرجان القاهرة السينمائي.

أذكر التفاصيل جيدًا؛ ليس فقط لأن الفيلم كان مختلفًا وجريئًا مقارنة بما اعتدنا عليه في أفلامنا العربية، لكن أيضًا بسبب الجدل الذي أثاره فور نهاية عرضه.

ترك الفيلم بداخلي كثيرًا من المشاعر والأسئلة التي تحتاج إلى وقتٍ وتفكير لهضمها وتحديدها، ولكن لأن التفكير ليس أفضل خصائصنا؛ راحت الآراء والاتهامات تتطاير عقب عرض الفيلم من قبل بعض "النخب" الصحفية والنقدية والسينمائية التي شاهدته!

https://www.youtube.com/watch?v=3RMhXHMfQUI

وراء قناع الحب

يروي الفيلم قصة حب بين فتاة عربية وجندي إسرائيلي على الحدود الفاصلة. وفي مثل هذا النوع من قصص الحب غير المتوقعة/unlikely couples، توجد عادةً خلفيات طبقية أو سياسية أو طائفية تُسبب تعثر الحب. وفي حالة "طيارة من ورق" فإن الخلفية هنا هي أزمة الوجود وأزمة الهوية، التي تعاني منها الأقلية الدرزية الممزقة والمبعثرة على جانبي الحدود السورية الإسرائيلية.

ولو أننا من المخلوقات التي تسعى للمعرفة، ولو أننا نسأل ونبحث، أو على الأقل نشاهد الأفلام، لكنا وفرنا السنوات التي تضيع والدماء التي تهدر، ولفهمنا، من بين أشياء كثيرة تحتاج إلى الفهم، صعوبة ودقة وضع الدروز السوريين، ولربما كنا مزجنا المعرفة بالتفكير والتدبر والتدبير مسبقًا لما يحدث اليوم وسوف يحدث غدًا، من فتنة ودمار وتقسيم!

أفلام لإعمال العقل

رندة الشهال واحدة ممن يبحثون عن المعرفة، ولا يخجلون من السؤال، ولا يتورعون عن مواجهة جمهورهم وحكامهم بالمعرفة والأسئلة. فخلال حياتها القصيرة (1953- 2008) قدمت المخرجة والمؤلفة اللبنانية عددًا من الأفلام المتميزة التي طالما حصدت الجوائز، وأثارت غضب رقباء وأحزاب ومؤسسات وأفراد.

أبدت رندة، المنتمية لأسرة يسارية مثقفة، اهتمامًا بالسياسة في كل أفلامها، مُركّزةً على أزمة العقل العربي. صنعت أفلامًا تسجيلية مهمة عن الحرب اللبنانية الأهلية والتطرف الديني، وفيلمًا عن الشيخ إمام. كما صنعت عددًا من الأفلام الروائية من أشهرها شاشات الرمال (1991)، ومتحضرات (1999)، إلى جانب آخر أعمالها "طيارة من ورق" الذي فاز بجائزة لجنة التحكيم من مهرجان فينيسيا.

في "طيارة من ورق" تعالج رندة الشهال قضية الدروز من خلال قرية مُتخيلة تقع على الحدود اللبنانية الإسرائيلية تسكنها أقلية درزية. بالطبع تقصد الجولان، ولكنها غالبًا تجنبت تسمية الجولان تجنبًا للرقابة السورية، في وقت كان فيه لبنان مستباحًا من تدخلات وعملاء النظام السوري.

أذكر أنني عندما زرت لبنان في منتصف تسعينيات القرن الماضي، وكانت أولى زياراتي لبلد عربي. ظننت أن بإمكاني الحديث بحرية عن كل شيء، حتى ذكرت اسم سوريا بشكل عفوي، ليتوتر كل المحيطين بي، ويتلفتون حولهم وكأنني ذكرت اسم لورد فولدمورت.

ممزقون بين الحدود

لقطة من فيلم "طيارة من ورق"

نتتبع مشيةَ لمياء، الصبية ذات الخمسة عشر عامًا، على الخط الفاصل بين الجولان المحتل وذلك الخاضع للسيادة السورية، بفستان العُرس بينما الأهل على الجانبين يغنون ويحتفلون.

ولكن عند وصولها إلى بيت عريسها، سامي، تخبره بأنها اضطرت إلى الانصياع لرغبة أهلها، وأنها لا تستطيع أن تتزوج شخصًا لا تحبه، ليخبرها بأنه اضطر بدوره إلى قبول الزواج ليرضي عائلته.

منذ المشاهد الأولى، التي تُصوِّر أفراد العائلات الدرزية وهم يتبادلون الأحاديث في الميكروفون عبر السياج الحدودي، تلمس تكاتف هذه الأقلية الريفية ذات التقاليد والعادات العريقة، التي تربطها هوية عرقية ودينية وثقافية شديدة القوة، لكن الجغرافية السياسية المحيطة بها تمزقها تمامًا، وهو ما يتضح عبر مسار الفيلم بشكل جلي.

الفرد العادي، قليل الإمكانات والوعي، لا يختار الجغرافيا ولا الجانب السياسي في الصراع، وإنما يجد نفسه فيه. ولكن لأن الدروز من الأقليات المترابطة جدًا، مثل الأكراد والنوبيين والأمازيغ؛ فيحتفظون بعلاقات القربى رغم الجغرافيا والسياسة والانتماء الوطني. هذا التمزق بين الجنسيات والانتماءات الوطنية المختلفة هو جزء من المكون الدرزي الذي يجب أن يفهمه أي سياسي.

صحيح أن الجنسية والوطن مكون أساسي للهوية، ولكن الانتماء للأقلية ذات اللغة والعقيدة والعادات والتقاليد بل والقوانين الخاصة بها، أمر لا يمكن المطالبة بإغفاله. وعندما نرى مشاهد الدروز "الإسرائيليين" وهم يعبرون الحدود عنوةً، رغبة منهم في الذهاب لدعم أقاربهم الذين يتعرضون للقتل الطائفي في سوريا، يمكن أن نفهم دوافعهم.

السير في حقل الألغام

في الفيلم، يتفق لمياء وسامي على عدم إتمام الزواج، وينفصلان في هدوء لتعود إلى أسرتها في الجزء العربي.

ولكن، وفي مسارٍ متوازٍ، هناك على الحدود برج مراقبة دائمًا ما يوجد فيه مجند درزي إسرائيلي، ولمياء الحائرة وغير المستوعبة لهذه الظروف المحيطة بها أشبه بطفلة تهوى اللعب بالطائرات الورقية التي تحلق في السماء ولا تعترف بالحدود. في أحد المشاهد المبكرة في الفيلم تسقط طائرتها الورقية بين الحدود فتذهب لاستعادتها غير مدركة للمخاطر، ولكن الجندي الشاب يصيح محذرًا إياها من الألغام.

رغم أنه ولمياء لا يتبادلان الحديث تقريبًا، نلحظ الإعجاب المتبادل. وحين تعود إلى بيت أسرتها يراودها حنين إلى الشاب، وتشعر أنها تحبه، وتحلم بلقائه مجددًا. ولكن لاحقًا حين تقرر في مشهد ليس من الواضح إذا كان حلمًا أم حقيقة، أن تعبر الحدود مجددًا لتلتقي به، تتعثر في حقل الألغام وتنفجر.

بين الطائفية والهوية

رندة الشهال

أثبتت السنوات أن النهايةَ المأساويةَ التي تُجسِّد وضعًا إنسانيًا وسياسيًا قلما تعرَّض له سياسيونا ومفكرونا الأفاضل؛ نهايةٌ دراميةٌ عبقريةٌ.

فالألغام هي الموضوعات المسكوت عنها. والقنابل الموقوتة التي نتحاشى ذكرها علنًا، وعلى رأسها الطائفية وقمع الأقليات والمختلفين وأزمات الهوية التي يجد الكثيرون أنفسهم فيها؛ إنما تنهش جسد البلدان العربية.

ليس الدروز فقط، بل معهم فلسطينيو الـ48 والبدو وغيرهم. وهي أمور تبدو كامنة ولكنها قابلة للانفجار في لحظة، كما حدث في سوريا، وقبلها في لبنان والعراق والخليج ومصر بأشكال ودرجات مختلفة.

المستوى الفني الممتاز للفيلم أهله للفوز بجائزة فينيسيا، بالرغم من أن بعض المتحذلقين أيامها، وكالعادة، أرجعوا فوزه لموضوعه "التطبيعي"!

وما زلت أذكر، رغم مرور أكثر من عشرين عامًا، وجه الصبية الجميلة البريئة التي أدت دورها فلافيا بشارة، وموسيقى الفنان الراحل زياد رحباني، الذي يُمثل في الفيلم أيضًا.

لم تحضر رندة الشهال العرض على ما أذكر، ودخلت خلال السنوات التالية في صراع امتد لسنوات مع المرض، منعها من إتمام فيلم كوميدي بفريق عمل نسائي عالمي كانت تعمل عليه لسنوات.

أقول لو أن "طيارة من ورق" وغيره من الأفلام المثيرة للعقل والمناقشة، عرضت على نطاق واسع لمثقفين وجمهور أكثر استعدادًا للمعرفة، لربما كانت ستساهم في إنقاذنا من حقل الألغام الذي نعيش فيه.