
هوس "الأخضر إللي بيعوّر" في دراما رمضان
جبل من الدولارات، شجرة أوراقها دولارات، طريق ممتد من الدولارات، دولار في هيئة حقنة، حريق هائل يشب في حفنة دولارات، ثعبان يتلوى خارجًا من عباءة دولارت.. هذه بعض الصور التي تفتق عنها خيال صناع تيترات مسلسل الشرنقة، الذي لا تخلو حلقة منه من الرُزم الخضراء كتعبير عن الثراء المقرون بمخالفة القانون عبر تجارة الجنس أو السلاح وغسيل الأموال والتهرب من الضرائب، وهي الأعمال التي تمارسها معظم شخصيات المسلسل باستثناء زوجة البطل وضباط مباحث الأموال العامة.
لكن "الشرنقة" ليس الوحيد بين أعمال رمضان 2025 الذي يستعرض حِزَم ورُزَم الدولارات في أيدي الشخصيات تعبيرًا عن الثراء وأشياء أخرى، فغالبًا ما تركز الكاميرا على هذه الدولارات في لقطات مُقربة، مصحوبة أحيانًا بإشارات مشددة من الشخصيات على نوع العملة، أو تكتفي بذكر اسمها الحركي "الأخضر"، المعروفة به في الشارع المصري!
ومن المزايا القليلة للزحام الدرامي في موسم رمضان لهذا العام، الذي شهد إنتاج 35 مسلسلًا مصريًا، أنه يوفر فرصة لملاحظة التشابهات والاختلافات، وإجراء تحليلات أكثر شمولًا لما يعرف بـ الثقافة الجمعية/الشعبية التي تجمع بين من يصنعون ويشاهدون هذه الأعمال.
يمكننا فهم هذه الثقافة بشكل أفضل حين نتأمل الموضوعات والأنواع والعناصر الفنية، خاصة حين تتشابه بشكل لا يمكن فيه افتراض الصدفة. الدولارات الأمريكية، مثلًا، لم يكن لها هذا الحضور الكبير في الدراما المصرية من قبل. وحين ننظر إلى السياقات التي تظهر فيها والطريقة التي تُقدم بها، قد نتمكن من استخلاص بعض الاستنتاجات عن علاقة المصريين بـ"الأخضر" الذي بات يؤرق حياتهم بعد أن قفز سعره من 18 جنيهًا في مارس/آذار 2022 إلى 50 جنيهًا، مرورًا بأيام تجاوز فيها الـ70 جنيهًا في السوق السوداء.
خمر ورقص ودولار
يحكي "الشرنقة" عن المحاسب القانوني حازم النشار/أحمد داود الذي يعمل في مكتب رجل الأعمال الفاسد محسن مرجان/صبري فواز، ليقع في إغراء الصعود الطبقي السريع، في الوقت الذي تنتابه فيه أحلام حول شخص يشبهه ويحمل اسمه ولكنه أكثر فسادًا وإجرامًا.
تتمثل الرفاهية المنشودة لدى الشخصيتين في النساء والخمر والدولارات. عندما يتردد حازم في البداية في قبول المهام الموكلة له، يقنعه مظروف يحمل رزمة من الدولارات يرسلها صاحب العمل إلى مكتبه أو يعطيها له عميل مكافأةً.
الطريف هنا أن الأشرار، كعادة معظم المسلسلات المصرية، يرفعون حواجبهم ويقهقهون بصوت عالٍ وهم يحملون كؤوس الخمر ويتحدثون بصوت مرتفع على مرأى من الجميع عن أعمالهم الإجرامية من تجارة مخدرات وسلاح وجنس وغسيل أموال، ومثل كأس الخمر تصبح صورة الدولارات التي تنتقل في مظروف لإغواء البطل، أو في حقائب الفاسدين، هي المعادل البصري للثراء غير المشروع.
وعلى الجانب الآخر لكل هؤلاء الأشرار، نجد ضابط المباحث الطيب عمر/علي الطيب، وزوجة حازم الطيبة سلمى/مريم الخشت التي تتعاون مع رجال المباحث ضد زوجها!
الأمر نفسه نجده في مسلسل حكيم باشا الذي يعيش بطله حكيم/مصطفى شعبان، في قرية صعيدية غير محددة المعالم، ويتاجر في الآثار ولديه خزانة سرية في الجبل، مثل مغارة علي بابا، تمتلئ بقطع الآثار وتلال من الدولارات، بجانب الخزانة الصغيرة في منزله المكتظة أيضًا بحزم الدولارات.
حكيم رجل طيب ومع ذلك لا يقبل بيع المومياوات، لأنها أجساد أجدادنا، أو أوراق البردي لأنها تاريخنا، على عكس غريمه الأول عمه واصل/رياض الخولي الذي يبدأ المسلسل به وابنه يبيعان السلاح في وضح النهار وسط الجبل لبعض الإرهابيين من ذوي الجلابيب البيضاء مقابل حقيبة من الدولارات كما لا يتورع عن بيع المومياوات وأوراق البردي.
ورغم نصيحة حكيم له بالاكتفاء ببيع بعض قطع الآثار، نجد العم واصل في مشهد لاحق يجلس في بيته يدخن الشيشة ممسكًا بحزمة من الدولارات وهو يتحدث في الهاتف مع أحد التجار حول صفقة جديدة، قائلًا "تاخد فلوسك من الأخضر إللي بيعور"، وهو يضحك ويقبل رزمة الدولارات التي يحملها.
لكن مثل زوجة حازم في "الشرنقة"، يتعاون حكيم باشا مع رجال الشرطة ضد عمه وعصابات تجارة السلاح والمومياوات، مكتفيًا بـ"قليله" المتمثل في ملايين الدولارات التي يكسبها من قطع الآثار "العادية". ولأن المسلسل يدور في الصعيد، على عكس "الشرنقة"، فلا يمكن إغفال وجود الجنيه المصري الذي يظهر بكثرة كهدايا بسيطة يوزعها رجال حكيم باشا على الفقراء بمناسبة إنجاب ابنة عمه لمولود جديد.
ومن الصعيد إلى الإسكندرية يعيش أبطال العتاولة، في جزئه الثاني، مع خصومهم في "عالم الجريمة" بأشكاله من سطو وتهريب وبلطجة دون حسيب أو رقيب، يحلمون بـ"الأخضر يا أخضر" كما يهتف أحد أبطال المسلسل. والصراع مرة أخرى بين مجرمين طيبين ضد مجرمين أشرار!
مزور كوميدي ومهرب واقعي
لا يقتصر حضور الدولار الكثيف على مسلسلات الجريمة. في أشغال شقة جدًا، الكوميدي الذي ينقسم إلى فصولٍ يدور كل منها حول ورطة يقع فيها أبطال العمل، كانت الورطة الأولى متعلقة بالدولارات.
فالمسلسل الذي يحمل تيتر بدايته لقطة بارزة للدولارات، يعمل بطلاه حمدي/هشام ماجد، وعربي/مصطفى غريب، بالطب الشرعي. وأول مهمة توكل لهما هي فحص خمسة آلاف دولار لتحديد إن كانت سليمة أم مزورة. ويبيعها عربي، معتقدًا أنها مزورة، بسعر خمسة جنيهات للدولار لتاجر عملة.
وكالعادة يؤنبه حمدي ثم يحاول إنقاذه، فيذهبان لتاجر العملة في محاولة لاستعادة الدولارات ويفشلان قبل أن تنقذهما عاملة المنزل الإفريقية العملاقة، التي تضرب تاجر العملة وتستعيد أموالهما. لن نتوقف كثيرًا أمام الجريمة المزدوجة، أو الثلاثية، التي يرتكبها عربي، فهو يخون أمانة مهنته مختلسًا "العهدة"، ويزور دولارات، ويتاجر في السوق السوداء، بما أننا في عمل كوميدي، وبما أننا نحب مصطفى غريب مهما ارتكب من حماقات وجرائم.
وبعيدًا عن مبالغات "الأكشن" والكوميدي في الأعمال السابقة، يعالج قلبي ومفتاحه ظاهرة ارتفاع أسعار الدولار واختفائه والجرائم المرتبطة به بشكل أكثر واقعية. بطل العمل محمد عزت/آسر ياسين، يحمل ماجستير في العلوم وكان يملك شركة مستلزمات طبية ويتلقى راتبه بالدولار قبل انهيار السوق واضطراره لإغلاق الشركة، فيعمل سائق على سيارته الخاصة ضمن أحد تطبيقات سيارات الأجرة.
من ناحية ثانية فإن بطلة العمل ميار/مي عز الدين، متزوجة من الرجل القاسي أسعد/محمد دياب، الذي طلقها ثلاث مرات، ويرغب في العودة إليها مجددًا، وهو "شرير" نمطي: فاسق، متزوج على ميار عرفيًا، ويقضي لياليه في الملاهي مع الغانيات يحتسي الخمر، ولديه معرض أدوات منزلية كواجهة لكن عمله الأساسي هو الاتجار في العملة، التي جرّت عليه أموالًا لا حصر لها، حتى أنه يحمل طوال الوقت أكوامًا من الدولارات والجنيهات يوزعها يمينًا ويسارًا، ويوزع مساعده إسماعيل/أحمد خالد صالح البضاعة/العملة الصعبة.
في أحد المشاهد تعترض علياء/تقى حسام، حبيبة إسماعيل وشقيقة أسعد الصغرى، على الاتجار في العملة وتصفه بالجريمة، فيبرر لها الأمر "احنا بنسهل الحياة على الناس. من غير شغلنا الدنيا مش هتمشي ومش هتعرفي تجيبي الدواء إللي محتاجاه والدتك".
ربما لا يفهم من لم يعش في مصر خلال العامين الأخيرين كلام إسماعيل الذي يشير إلى صعوبة الحصول على العملة الصعبة، سواء بالنسبة للمستوردين أو الناس العادية التي ترغب في شراء بضائع أجنبية لا يوجد لها بديل مصري، أو حتى احتياجاتهم للسفر إلى الخارج، مما فتح الباب واسعًا أمام السوق السوداء لتجارة العملة.
لاحقًا يلتقي محمد وأسعد حيث يعرض الثاني على الأول أن يعمل معه، ويكلفه بنقل حقيبتين من الجنيهات المصرية إلى صاحب "بازار" للسياح، يسلمه مقابلهما 55 ألف يورو. محمد المصدوم يذهب إلى أسعد في الملهى الليلي محاولًا الاعتذار، ولكن رزمةً من الدولارات يخرجها أسعد من جيبه ويعطيها له تكون كافية لإغرائه وإسكاته. ولا ينسى أسعد أن ينصحه "لما تحب تغيّرهم تعالالي هاديك أعلى سعر في السوق!".
وخلال حفل في المنزل يحاول أسعد إسعاد ابنه الذي لا يتجاوز السابعة من العمر بإعطائه ورقة من فئة المائة دولار يستخرجها من جيب بنطاله، ما يذكر بحكيم باشا/مصطفى شعبان الذي يستخرج من جيب جلبابه دولارات ومجوهرات يوزعها على زوجتيه وأخته وأصحابه طوال الوقت! ولا ينسى أسعد أن يمزح مع طفله الذي لا يعرف غالبًا اسم العملة ولا قيمتها قائلًا له أيضًا "لما تحب تغيرها قل لي وأنا أغيرها لك".
هوس الشخصيات أم صناعها؟
هذا الهوس الاستعراضي بالدولارات يشير من ناحية إلى التحولات الاقتصادية الكبيرة التي حدثت خلال الفترة الأخيرة من انهيار العملة المحلية وتضاعف سعر الدولار واختفائه وتحوّل الكثيرين (بعضهم من الأثرياء بالفعل وبعضهم من الصعاليك) إلى مليونيرات من تجارة العملة. وللمرة الأولى، ربما، تثار مقارنة بين مصر ولبنان ودول الخليج التي تحوّل فيها الدولار إلى عملة شبه رسمية يتعامل بها الناس جهارًا نهارًا.
ومن ناحية أخرى تحول الدولار إلى "أيقونة" بصرية ذات دلالة درامية على الثراء غير المشروع. كما تستخدم الدولارات دراميًا لإبهار المشاهدين بصريًا بإحداث أثر يمكن مقارنته بمشاهد المعارك والرقص وغيرها من البهارات التي تجذب المُشاهد.
كما يمكن النظر إلى الأمر باعتباره تجسيدًا ذاتيًا لعقلية صناع هذه المسلسلات، من كتاب ومخرجين وممثلين، الذين باتوا يتعاملون بالدولار، خاصة مع اعتماد سوق السينما والدراما التليفزيونية على السعودية والخليج بشكل كبير.
عندما نقول إن الفن يعكس الواقع، فليس المعنى تصوير الواقع حرفيًا، ولكن يعني تسلله وتكشفه بين السطور واللقطات بشكل غير مباشر، قد يصعب أن يقال علانية، أو قد يعني الكيفية التي تنعكس بها أفكار وأمنيات ومخاوف صناع الأعمال، ومشاهديهم، من هذا الواقع.