
لجنة لضبط الدراما.. ولكن من يضبط الجمهور؟
كلما سمعت كلمة "لجنة"، تذكرت "لجنة" صنع الله إبراهيم، ذلك الكيان السلطوي الغامض، الذي يسعى للتحكم فيما لا يمكن التحكم فيه. أما لجنة للتحكم في الابداع فهي الأكثر غموضًا وصعوبة في التحكم من بين كل اللجان.
للمرة المئة بعد الألف، يتحول الفن والدراما إلى ما يشبه الهياكل الخشبية في مضمار تدريب الرماية، الكل يصوب نيرانه ضدها: المتطرفون النظاميون والمتزمتون العشوائيون، المثقفون المتفلسفون والنسويات الساخطات، صبية مواقع التواصل وذباب اللجان الالكترونية، الاعلاميون الباحثون عن بطولة والسياسيون الباحثون عن أكباش فداء، وحتى منتجو الدراما وصناعها الذين يضربون بعضهم البعض حسدًا أو شماتة.
فئات لا يربط بينها شيء، وبعضها تتصارع وتتخاصم فكريًا، لكنها، كلها، تزيح معاركها غير المعلنة إلى مسابقة في الرماية، الهدف الوحيد فيها هو الدراما.
هل توجد.. فعلًا.. مشكلة؟
كل عام، نشاهد في الموسم الرمضاني عشرات المسلسلات، قليلها ممتاز، وأغلبها يتراوح بين الجودة والضَعف. يثير بعضها جدلَ مخالفة تقاليد الشهر الكريم، والأخلاقيات والآداب بشكل عام، بسبب شتيمة هنا أو إيحاء جنسي هناك، وغير ذلك مما يثير استياء البعض وشهوة البعض الآخر.
إذا حسبنا نسبة هذه الأعمال من مسلسلات الموسم الحالي مثلًا، سنجدها قليلة جدًا، وإذا افترضنا أن هذه الأعمال عرضت على مدار عام أو نصف عام، بدلًا من حشرها في شهر واحد، فمن الصعب أن يثير أيُّها جدلًا، بل ستمر مرور الكرام على الأرجح دون أن يسمع بها أحد، إلا من بعض التعليقات العابرة على السوشيال ميديا، ومقال أو اثنين من كتاب الأعمدة أو محرري الفن المتحمسين للفضيلة.
المسألة، في الغالب، ترتبط بطبيعة الموسم التي تفرض حساسية مفرطة، مؤقتة، تجاه ما يتعلق بالدين والأخلاق، تتناقض بشكل طريف مع الاهتمام فوق المعتاد بمشاهدة الدراما والثرثرة عنها والتباري في إبداء الرأي فيها سلبًا أو إيجابًا، حيث تتوقف التريندات المعتادة، لتخلي الساحة لتريندات رمضان.
وفي هذا الصخب "الدرامي" يختلط التقييم النقدي بالرأي الشخصي، والمعايير الفنية بالفتاوى الفقهية، والكل يرفع صوته عاليًا ليسمعه الآخرون، فيعلو بعمل إلى السماء، لأنه جاء على هواه، أو يخسف عملًا بالأرض لأنه خدش حياءه!
وإذا أضفنا إلى ذلك كله أوهام الشوفينية والبارانويا من المؤامرات الكونية التي تُحاك لإفساد المصريين وتشويه صورتهم عن طريق السينما والمسلسلات، وخلطناها بأوهام الوصاية على المجتمع؛ حيث يعتقد كل مواطن أنه مسؤول عن أخلاق الجميع إلا هو!
بوضع هذه الاعتبارات وغيرها في الخلاط، ستجد أننا في حفل كبير تحوَّلت فيه الألعاب النارية إلى قنابل "كوكتيل مولوتوف" لا تكف عن الفرقعة وإثارة الذعر، رغم أنها لا تسفر غالبًا سوى عن قرقعات فارغة!
أسئلة لا بد منها
قبل أن نخوض أكثر في الجدل الدائر، لنتوقف قليلًا ونحاول الإجابة عن هذه الأسئلة.
- ما مقدار التزام أو خروج أعمال الموسم عن التقاليد والأخلاق بشكل عام، وما الأعمال التي التزمت، وتلك التي خرجت، بشكل واضح؟
- ما هي، تحديدًا، الأشياء التي يجب تحاشيها، وتلك التي يجب طرحها أو التركيز عليها مستقبلًا؟
- ما طبيعة اللجنة التي يفترض تشكيلها لوضع المعايير ثم التقييم على أساسها؟
- ما المعايير التي ستوضع لاختيار أعضاء هذه اللجنة؟
- ما حدود صلاحيات هذه اللجنة، أو أي لجنة، أيًا كانت، في التحكم فيما يُنتَج من أعمال؟ وهل يحق لأي جهة منع إنتاج الأعمال التي لا تتبع معايير هذه اللجنة؟ بمعنى آخر؛ إذا كانت توصيات هذه اللجنة ستُطبق على الأعمال التي تنتجها شركات الدولة أو التابعة لها، فماذا عن الأعمال التي تنتجها شركات أخرى؟
نحن أمام غابة من الآراء والأفكار والاختيارات يستحيل الاتفاق أو التوافق عليها. وإذا افترضنا، جدلًا، أننا اتفقنا، فهل يعني ذلك أن الناتج، أي الأعمال الفنية التي ستخرج بناء على هذا التوافق، سيكون متفقًا عليها؟ مستحيل..بدليل أن ما شاهدناه هذا الموسم أُنتج بناء على توصيات لجانٍ شُكِّلت عقب الجدل الذي أثير في الأعوام الماضية حول أعمال أُنتجت بناء على توصيات لجان شُكِّلت عقب جدل أثير في أعوام أسبق!
ثم لنفترض أننا شكلنا لجنة، فمن هم أعضاء هذه اللجنة؟ ومن الذي يختارهم وبناء على أي معايير؟ هل قربهم من أعضاء اللجنة التي تشكل اللجنة، أم قربهم من صناع القرارات والأجهزة التي تساهم في صنع القرارات؟ المضحك أنه حتى هذه اللجنة ستصبح غالبًا مثار جدل في المستقبل لكونها متزمتة أكثر من اللازم أو متحررة أكثر من اللازم.
ولكن دعونا على أي حال نحاول الإجابة عن هذه الأسئلة.
بين الرداءة والفجاجة
من بين 35 مسلسلًا عُرضت في الموسم الرمضاني لهذا العام، ذهبت معظم الانتقادات "الأخلاقية" إلى مسلسلي العتاولة وإش إش، والقليل منها طال أعمالًا مثل سيد الناس ولام شمسية أو مجرد عنوان مسلسل هو نص الشعب اسمه محمد.
الهجومُ على العتاولة وإش إش خَلَطَ، كالعادة، بين التقييم الفني للعملين والألفاظ والمشاهد الواردة فيهما، وأيضًا بين العملين وجهة إنتاجهما؛ محطة MBC العربية. هذا الخلط مُغرِض، فالربط بين المستوى الفني وما يُسمح به رقابيًا من بقايا تفكير برجوازي توفيقي وتلفيقي يدافع عن الحرية التي تلائم طبقته وذوقه فقط. وهو أيضًا من بقايا يسارية وليبرالية رثة، رجعية في جوهرها، وفي بعض الحالات نتاج رجعية تحاول تقديم نفسها بمظهر المعتدل المتنور.
دائمًا وأبدًا، ستظل هناك عقليات تنفر أو تنزعج أو "تتلكك" للأعمال الفنية وصُنَّاعها
الهجوم على المسلسلين يضمر عداءً مبطنًا للنوع الشعبي واللغة الشعبية، ومع تأكيدي على فجاجة ورداءة العملين فنيًا، لكن هذه الفجاجة الدرامية واللغوية جزء لا يتجزأ من النوع الشعبي، الذي يحقق مشاهدات مرتفعة لدى قطاعات كبيرة من المشاهدين.
ولذلك تحرص جهة الإنتاج، الممثلة في صادق الصباح، على هذه التوابل الشعبية. والصباح، لمن لا يعرف، هو "سبكي" الدراما التليفزيونية، الذي تخصص في هذا النوع من الأعمال الشعبية الفجة. والأمر ليس مؤامرة ولا يحزنون بقدر ما هو طريقة وثقافة إنتاج فجة تخاطب جمهورًا يشبهها. ويظل السؤال قائمًا: هل الحل هو منع إنتاج هذا النوع من الأعمال، أم الارتفاع بمستوى حياة وثقافة وذوق الناس؟
تحت السقف
إذا افترضنا أننا نفذنا المطلوب وخفضنا السقف فعلًا بناء على انتقادات هذا العام، فهل يعني ذلك أن الجدل لن يتجدد في العام المقبل للنزول بالسقف درجة أخرى؟ يعني لو توقفنا عن بث شتيمة مثل "يا ابن الكلب" أو "يا ابن الجزمة"، ألن نعترض العام المقبل إذا شتمت شخصيةٌ شخصيةً أخرى "يا كلب" أو "يا جزمة"؟!
وإذا لم نعد نُسمِّي الأشرار باسم محمد، ألن نجد أنفسنا في السنوات المقبلة نكفُّ عن تسميتهم مصطفى وطه وياسين وعلي وعمر وجرجس؟ ومع توقُّفِنا عن تصوير شخصيات تسكر وتحشش وترقص، ألن يعترض البعض في المستقبل على الشخصيات التي تدخن أو تبصبص للنساء أو التي لا تصلي؟
دائمًا وأبدًا، ستظل هناك عقليات تنفر أو تنزعج أو "تتلكك" للأعمال الفنية وصُنَّاعها، لأن الكثيرين لا يعترفون سوى بذوق طبقتهم وفئتهم وعائلتهم، ولأن كراهية الفنون وعدم فهم طبيعتها أو وظيفتها متأصل في النخاع الشوكي والفص الصنوبري للعقل الجمعي والفردي.
بدلًا من اللجنةِ عشرٌ
في الواقع لدينا بالفعل بدلًا من اللجنة عشر: على رأسها الرقابة على المصنفات، ولجان الاختيار والقراءة المدجنة والتابعة بالكامل للدولة، ولدينا لجان الوزارات السيادية ولجان الأزهر والكنيسة ولجان نقابة الأطباء والمحامين والمهندسين ونقابة الأستاذ أشرف زكي، وبعد ذلك لدينا لجان التصريح بالعرض داخل المنصات والفضائيات. وغيرها من اللجان والجهات التي تتحكم في الدراما قبل وأثناء وبعد تصويرها.
عندها سيجد صناع الأعمال المثيرة للجدل أنفسهم محاصرين ومتضررين ماديًا ولن يكرروا فعلتهم
في رأيي المتواضع، الذي يتفق مع رأي دساتير وقوانين أغلب بلاد خلق الله، أن علينا اختصار عدد كل هذه اللجان والتركيز بدلًا من ذلك على صياغة معايير للتصنيفات العمرية والثقافية للأعمال المنتجة. أي أن تُصنَّف الأعمال الدرامية وفق مدى مناسبتها للمراحل السنية المختلفة؛ (+18) أو (+21) لتلك التي تحتوي ألفاظًا بذيئة ومشاهدَ عنف أو عري، أو تتناول موضوعات متعلقة بالعلاقات الجنسية وغيرها مما لا يناسب الأطفال، و(+15) للأعمال التي تتناول موضوعات أقل حساسية ولكنها تظل غير مناسبة للأطفال، وهكذا.
ووفق هذه التصنيفات تعرض القنوات والمنصات الأعمال مع التنبيه اللازم قبل كل حلقة، أو تمتنع عن عرضها بالمرة، حسب سياسات ودرجة انفتاح كل منصة أو قناة. وبناءً على درجة ثقة المشاهد المحافظ في القنوات العارضة، يمكن له اختيار العمل الذي يشاهده وتجاهل ما لا يناسبه. عندها سيجد صناع الأعمال المثيرة للجدل أنفسهم محاصرين ومتضررين ماديًا، ولن يكرروا فعلتهم مرة ثانية. هكذا تسير الأمور في الغالبية العظمى من أنحاء الدنيا.
إذا لم تكن مقتنعًا ومن أنصار الرأي القائل بأننا مجتمع شرقي متدين ومحافظ بطبعه، فانتظر حتى تعود إلى بيتك وستجد أن هذا النظام مطبق بالفعل على أفراد عائلتك، حيث كل شيء في العالم على موبايلات وكمبيوترات زوجك/زوجتك وأبنائك، وكلٌّ يختار ما يناسبه وفقًا لمستوى تربيته وأخلاقه، لا بناء على أخلاق الأعمال المعروضة على الإنترنت!
لجنة اختيار اللجنة
ولكن لنعُد إلى اللجنة، التي يفترض بها أن تضم خبراء ومتخصصين. هذا التقدير والتقييم النسبي للأعمال سيوجد أيضًا بين أعضاء أي لجنة، وحتى بين موظفي الرقابة على المصنفات، فأحدهم قد يرفض عملًا يجيزه الثاني، والعكس.
ثم إن مستوى التعليم والمتعلمين لدينا بعافية و"ملعوب في أساسه" منذ عقود، حتى إنك تجد أكاديميين يُدرِّسون الآداب والفلسفة، ينعون أبا إسحق الحويني، وإذا أضفنا إلى هؤلاء المتطرفين أخلاقيًا، المتطرفون في خدمة البيوت وأصحاب المكان ممن عيّنوهم في هذه اللجنة، فهل يمكن أن ينتظر الابداع خيرًا من أمثال هؤلاء؟
هل ستتشكل لجنة لوضع معايير اختيار أعضاء اللجنة؟ وهل ستوضع معايير تنظم عمل اللجنة؟ وهل ستكتفي هذه اللجنة بالتوصيات ووضع الخطط أم أنها ستقرأ الأعمال وتختار من بينها؟ وإذا كان عملها وضع التوصيات فقط، كما فهمت، فإن ذلك يعني أن الأمر سيؤول في النهاية إلى لجان القراءة وأصحاب القرار في اختيار الأعمال التي يتم انتاجها، أي الذين يديرون عملية الإنتاج حاليًا؟
هؤلاء مطالبون دومًا بتقديم أعمال جماهيرية ناجحة فنيًا وفي الوقت نفسه ملتزمة بالسياسات والتوجيهات والتابوهات والأخلاقيات، وهي شروط عويصة سيظل يُنتج في ظلها أعمال قليلها ممتاز، وأغلبها يتراوح بين الجودة والضعف. وسيتواصل الجدل الذي يثيره بعضها بشأن مخالفة تقاليد الشهر الكريم.