
صناعة الإبداع المصرية.. هل نخنق المستقبل بأيدينا؟
نسمع في التصريحات الرئاسية الأخيرة بخصوص الدراما المصرية، وإعادة تقييم أثرها، وكذلك في ردود الأفعال المضادة، دفعًا زائدًا في اتجاه دور الفن الاجتماعي، حين يعالج قضايا "واقعية" تهم "الناس"، ويسلِّط الضوء على "المسكوت عنه".
يظل المشترك هنا هو إجماع كل فريق على تكرار تعريف تلك المهمة الفنية الدرامية الموروثة؛ الفنون والصناعات الإبداعية كوسائل تربوية، وشفاهة خطابية، ومنقذ من فشل العملية التعليمية ومؤسسات الإعلام والتثقيف.
بيد أننا لا نناقش أحوال المؤسسات المنوطة مباشرةً بتلك الأدوار بالكثافة نفسها التي نتلهف بها على الهتاف للفن التوعوي، ربما لأنها موضوعات غير جاذبة لنمط الإفتاء السائل في مجالات الفن والثقافة على السوشيال ميديا، حتى بدا مهنةً مشاعًا، لا اعتراف فيها بجهل ولا معرفة.
بطبيعة الحال، للمسلسل الدرامي طبيعة بيتية، أطلق عليها الرقباء المصريون كليشيه "المسلسل بيدخل البيوت"، لفرض معايير رقابية أكثر تزمتًا، سواء في اختيار الموضوعات أو طبيعة الأداء وظهور الممثلين. وانطبقت تلك المعايير على الدراما التي احتكرت الدولة إنتاجها لأربعة عقود تقريبًا.
وكذلك الفنون، تقوم بأدوار اجتماعية نعم، لكن بمفاهيم مختلفة عن التربية والتقويم، إذ تُعامِل الخيال وتوجد له منطقه الخاص، وتمتحن القيم والخيارات قبل أن تقررها، تُشنِّف الآذان وتُبهِج الأبصار وتحتفي بقدرات الأجساد التعبيرية، وتحرِّر المتع اللحظية من بين قضبان التعاسة، تُضحك وتُبكي، تُنشئ مشتركات اجتماعية ثقافية وتُشكك في مشتركات أخرى وتسائلها.
منصات عابرة للحدود
خلال العشرين سنة الماضية، اختلفت سياسات وتكنولوجيا الإعلام ومنصات العرض جذريًا. أهم السمات هي عبور الحدود الوطنية والإتاحة الرقمية الواسعة. فالمنتَج الإبداعي، أيًا كان بلد إنتاجه، متوفر خارجه، تتاح له فرص الانتشار والعرض لشرائح كبيرة خارج السوق المحلية، وفق شروط تحددها جهات الشراء، وتناسب سياساتها. ومع تراجع حضور وتمويلات السينما، انطلقت المسلسلات الدرامية لآفاق أوسع كثيرًا من التسلية البيتية والوعظ الشفاهي، لتحظى بإنتاج وسوق إعلانية ضخمَين، وتستضيف أكبر المبدعين، وتعالج الموضوعات كلها دون استثناء.
في العالم العربي، مع تكاثر منصات العرض وانتقال الدول الخليجية من موقع المنتِج عن بُعد في دول خارجها مثل مصر ولبنان، لموقع جهة الإنتاج والعرض للسوقين الداخلية والعالمية، ظهرت معضلة رقابية جديدة. إذ يجري توحيد معايير الرقابة بين المعروضات لتسهيل انتشارها في المجال العربي كله.
الثقل المركزي لجهات إنتاج ترعاها الدول بشكل مباشر، في مصر ودول الخليج، يضع الصناعات الإبداعية تحت وطأة هذه "الوحدة الرقابية". بمعنى أن ما يُنتج في مصر يُفترض أن يحترم معايير العرض الخليجية ضمانًا لانتشار أوسع وتسويق أنجح. بل إن معظم ما نتابع من أعمال يقوم على تعدد جهات الإنتاج من داخل وخارج البلد الواحد، سعيًا لزيادة الميزانية المتاحة وتوفير شروط أعلى للجودة الإنتاجية، وضم عدد أكبر من النجوم.
وبقدر ما ساهمت هذه التطورات في رفع القدرات الإنتاجية، وخلق دائرة عرض ممتدة تزيد من العوائد التي تحققها صناعة الدراما لصالح بعض المنتجين، فإنها أيضًا، وبالتدريج، وضعت الجميع في سلة واحدة. كأن ضمان تمويلات الإنتاج ونجاح التسويق، بات يتطلب مراعاة سقف واحد كبير، تضطرب تحته حساسيات ورؤى ثقافية وسياسية متباينة لدول ومجتمعات متنوعة، لا تقتصر على بلد الإنتاج الأساسي.
في مصر، كانت معادلات التسويق الفني للخارج، وأكبر قواه المستورِدة في دول الخليج، دائمًا حاكمة ومهمة. ولكنها في الوقت نفسه لم تتحكم في كل ما يُنتَج من إبداع بقدر ما نشَّطت قطاعات بعينها داخل الوسط الفني، تلك التي تُصدِّر منتجها خليجيًا، وتحترم معايير جمهور مقيّد بسياسات صارمة، قد تفرض أن تظل الأنواع الفنية محدودة بأطر الكوميديا الخفيفة والتسلية التي لا تخالف شرع الله. وبقدْر ما أنعش ذلك الصناعة الإبداعية المصرية اقتصاديًا، فإنه سمح كذلك بضخ أموالٍ في صالح نوعيات فنية مختلفة، قد لا تُعرض خليجيًا، ولكنها تعتمد على حيوية السوق المحلية والخارجية في أماكن أخرى.
هذه الفوارق فتحت مساحة خصوصية لبعض المنتجات الإبداعية المصرية، منها ما استفاد من إنتاج يفهم الفارق بين مسلسل يصدَّر خليجيًا وآخر موجّه للجمهور المحلي، ومنها ما أتيحت له فرص إنتاجية تتجاوز حدود المنطقة العربية، وتخاطب جماهير شتَّى، لا يستهدفها المبدع بالضرورة ويُفصِّل العمل وفقًا لمعاييرها الضيقة.
البقاء للأغنى
اليوم، يتشابه المطروح على منتجي الدراما من الجهات المختلفة. فالدولة المصرية، مع تركيزها على إنجاح مشروع احتكار الإنتاج، تتحدث عن دراما لـ"تقويم المجتمع" تحت شعار الحفاظ على تماسكه. وهذه الشعارات الفضفاضة نجد أشباهها في كل دولة عربية. علمًا بأن الدراما العالمية التي قامت سياسات الرقابة العربية على "مقاومتها" ثقافيًّا، تلقى رواجًا كبيرًا في الأسواق المحلية لم تستطع الإنتاجات العربية تقويضه. وانضمت الدراما التركية والكورية لباقة واسعة من مفضلات الجمهور المصري والعربي، إلى جانب الأعمال الغربية.
استفاد منتجو الفنون المصريون من خليط من السياسات في الماضي، سياسات مصرية وأخرى خليجية وثالثة تنفُذ من الفجوات بينهما، لتحقق تفوقًا معياريًا يمنحها نكهة خاصة، ويعكس العمق الثقافي المتوارث لتلك الصناعة في مصر ومجتمعها.
على الدولة وهي تسعى لفرض مزيدٍ من "معاييرها" أن تفكر في العبء الذي تضيفه على كاهل المبدعين
يمكننا مراقبة ذلك في أعمال درامية أُنتجت لكاتب مثل الأستاذ وحيد حامد، وما زالت تحافظ على قيمة ثقافية بينما تستعاد باستمرار مع تكرار عرضها على المنصات العربية المختلفة. معظم هذه الأعمال مكتوبة للجمهور المصري بالأساس، ناقشت موضوعات تخص الداخل المصري بتفاصيل يصعُب أن تنطبق على عدة مجتمعات في وقت واحد. كما كانت موضوعًا للصراع المستمر مع أجهزة الرقابة في مصر وقت إنتاجها. لكنها مع الوقت صارت جزءًا يُحتفى به من المتن الدرامي المصري، وازداد انتشارها خليجيًّا حين سمحت الظروف السياسية بذلك.
لا يتخيل كثيرون اليوم أن عملًا مصريًا على هذا النحو يمكن أن يرى النور، لأن الأسقف الرقابية الموحّدة وأشكال الإنتاج المتاحة وضعت الاستقبال الجماهيري في المرتبة الثانية، والخصوصيات الفنية في المرتبة الثالثة. المرتبة الأولى محفوظة للنجاح في ابتكار العمل الذي تقبله كل الجهات مجتمعة، فتمنحه التمويلات اللازمة وتمرره عبر قنوات العرض المتصلة في المنطقة العربية.
هذه الشروط تُفقِد خصوصية الطرح الفني، بقدر ما يقل الاعتماد على سوق محلية كبيرة مثل مصر، خصوصًا في منتَج لا يعتمد على شراء التذاكر، متاح بصور شبه مجانية على مدار السنة. وبالنتيجة، تُقرِّب المنتَج المصري واللبناني والسعودي لصورة عمومية، تناسب كل الجماهير التي تفترضها جهات الإنتاج المدارة مركزيًا. بمعنى آخر، تتجاور في تلك الأعمال مزايا عمومية الانتشار مع قيوده، الإنتاجية والجماهيرية.
على الدولة المصرية وهي تسعى لفرض مزيدٍ من "معاييرها"، أيًّا كانت أسبابها وشعاراتها، أن تفكر في العبء الذي تضيفه على كاهل المبدعين المصريين في هذا الشرط الإقليمي.
إن كانت الدولة لا تعبأ بالميزة التنافسية التي حظي بها الفنان المصري في السابق، لأنه يتوجه لسوق محلية ضخمة ويتبنى معالجات مختلفة للقضايا الداخلية، وحتى للكوميديا والترفيه، فهي تدفع بهذه الصناعة للذوبان التام في عالمها الإقليمي وشروطه. وهنا سيتغلب التفوق المادي، والإنتاج السخي، المتاح خارج مصر لنفس هؤلاء الفنانين.
فما دام المنتَج النهائي المستهدف معاييره وقيوده واحدة، فالأَوْلى أن يُسخَّر لصالح جهة الإنتاج الأكبر والأثرى. وبذلك يخضع الفنانون لهرم تنافسي، الكلمة الأولى والأخيرة فيه للمنتِج وشروطه، والأجر الأعلى على قمة الأولويات.
أما لو كانت المعايير المتاحة داخل مصر مختلفة عن خارجها، والجمهور المستهدف لا يقتصر فقط على دول بعينها، فالميزة التنافسية هنا تكتسب معناها، وتساهم كما ساهم الفن المصري كثيرًا في رفع الأسقف إقليميًا، بالأساس عبر التوجه لجمهوره المحلي، واستغلال معايير رقابية كانت أكثر تفهمًا.
صحيح أن ما يستهلكه الجمهور العربي من الدراما التركية والكورية يُصنَّف ضمن فئة التسلية البيتية، ولكن هذا لا يعني أن السياسات الإنتاجية في تلك البلاد تقوم عليه منفردًا، بل هي الفئة الأكثر تداولًا بسبب سياسات المنصات العربية التي تختار هذه الأعمال حصرًا. لكن معايير وسياسات الدولتين سمحت بإنتاج ينافس عالميًّا، في جوائز الأوسكار والمهرجانات الدولية كما على شاشات Netflix وغيرها من المنصات العالمية، بمستويات متفاوتة ولجماهير متنوعة.
إن كانت الدولة المصرية ومعاييرها الرقابية تمضي من ناحية في خنق المبدعين المصريين داخل خانات الرقابة الإقليمية الموحّدة، ومن ناحية أخرى في تقييد حوارهم مع جمهورهم المحلي، فهي في هذه الحالة لا توفر مزايا تنافسية، لا مادية ولا فنية. أي أنها ستضطر للإنفاق المركزي بحدود طاقتها، مع طواقم مبدعين في الأغلب لم تشملهم التمويلات الخارجية، وهي لن تشمل الجميع بطبيعة الحال، ولكنها تنجح في اختطاف الأقدر، والتكفل بأجره الذي يرتفع لحدود خيالية.
العظات الدرامية المملة
نعرف من تجاربنا السابقة أن السياسات الاحتكارية المشابهة لم تنجح اقتصاديًا، وأضافت إلى خسائر الدولة الإنتاجية خسائر البنية التحتية للصناعة الإبداعية المصرية، من إفلاس الشركات والمنتجين وبيع الاستوديوهات ودور العرض السينمائي. والآن علينا أن نخاف، ليس فقط من خسائرها الاقتصادية، بل من الإصرار على فصم أواصر الحميمية الثقافية، التي ربطت المبدعين المصريين بجمهورهم، فكانت سببًا جوهريًّا في الأثر الباقي لبعض هؤلاء في التاريخ الفني والثقافي للبلد.
كانت المعادلة الفنية المصرية في الأغلب تعتمد الجماهيرية شرطًا أساسيًّا، وهو ما يدفع نُقَّادًا كثيرين لتشبيه السينما المصرية بالهوليودية في توجهاتها، ومن ثَمَّ التقليل من عمق وقيمة ما قدمته. لكن بنظرة مختلفة، يمكن تقييم مشاوير إبداعية إيجابيًّا لأنها نتاج تلك المعادلة، التي تحافظ على خيط تواصلٍ مع أكبر نسبة من الجماهير المحلية، بينما تخوض مفاوضات شاقة مع رقابة الدولة والمجتمع معًا.
اختفاء تلك الصيغة لن يخدم إلا مشروعات الدولة الوعظية، التي تُصَبُّ فيها جرعات زائدة من التديّن الاستعراضي والقيم الأسرية المتزلفة والتسبيح باسم الحكومة وإنجازاتها، والقليل جدًا من الجمال الفني والتواصل الجماهيري.
العظة الدرامية مُنفِّرة، ولباس التديُّن المستمر لا يشيع إلا مزيدًا من الزيف، والاثنان خسارة محققة للفن والاقتصاد والجمهور. ولا تكفي شعارات مثل "معالجة قضايا" وحديث عن "المسكوت عنه" لصناعة الجمال واستقطاب الجماهيرية. هناك الفانتازيا والأسطورة والإسقاط السياسي والأبعاد الجنسية، والكوميديا الثقيلة الذكية، الموسيقى والاستعراض والمونولوج الفكاهي، المتعة الأدائية والفكرة المبتكرة، وموازنة الجرعات بين العناصر المختلفة.. كل هذا يصنع الجمال والصدق الفني، في أبسط الأعمال وأعقدها.
لا يمكن أن تتحقق المعادلة الجماهيرية المصرية بين مطرقة "محاكاة الواقع" وسندان "الرقابة المواعظية" التي تزداد فتكًا. الحصاد سيكون تقليل عدد الأعمال الاستثنائية، والتضييق حتى على السبل الرمزية والتقنية التي طورها الفنانون في مصر لمراوغة الرقابة المتخلفة في الماضي.
مقدّمًا، نخسر في المعادلة الإنتاجية الإقليمية، بالاحتكار وتضييق السوق والسير نائمين خلف أحلام السيطرة الشاملة على الشاردة والواردة. ونخسر في المعادلة المصرية الداخلية، بتنفير الجمهور، وترغيب المبدعين في صناعة مزيد من الفن الريائي، إرضاءً للسلطة ومغازلةً للمعسكرات الرجعية.
فضلًا عن غض البصر والعقل، عن ملاحقة ما يُفرض علينا من تحديات معاصرة في مجال الصناعات الإبداعية. فالقادم أكثر جسامة، من حيث تعقُّد مجالات المنافسة واستقطاب الكوادر، الذكاء الاصطناعي والفيديو جيمز وتداخل الدراما مع تكنولوجيا الحقيقة الفائقة. كذلك الإنتاج الضخم للأعمال التاريخية، الذي يتطلب عملًا بحثيًّا وأرشيفيًّا أتقن كثيرّا مما نشهده في أعمالنا المكلِّفة إنتاجيًّا، المزوِّرة ثقافيًّا، والمحدودة بسذاجة البروباجندا الدينية والدولتية.
بأي منظور، وطني أو اقتصادي أو مستقبلي، هذه الصيغة التي فشلت في السابق، هي في عالم اليوم، تهديد بالمحو من خريطة عالمية معقدة، وتكسيح مسبق لأنفسنا عن اكتساب قدرات إنتاج الثقافة، في عالم المستقبل، بفرصه وكوابيسه المحتملة.