
لجان الصياغة.. تبشير بالدراما الرخوة
لا أستوعب تشكيل لجنة، بقرار سيادي، لضبط ومراجعة المسلسلات التليفزيونية. العلاقة التاريخية باللجان المُشكَّلة/المُشكِلة، نتيجة الأزمات، ليست لطيفة. دعوة لتعطيل المراكب السايرة، ووضع العصا في العجلة. معيار كفاءة الموظف البليد أنه لا يخطئ، وأسهل الطرق إلى الصواب ألَّا يعمل. وجود اللجنة اتهام لصناع الدراما بضعف الوعي بالفن وبالسياق العمومي، واعتبارهم قاصرين أو مقصِّرين. وأعضاء اللجنة، هؤلاء القضاة، ليسوا أكثر تخصصًا ولا موهبةً. غاية إنجازهم، تفاديًا للخطأ، هو المنع. وفي أحسن الأحوال سيرفعون تقارير إلى مسؤول غامض، لا علاقة له بالدراما. تقدير هذا المسؤول أن القضاة، ويفترض أنهم خبراء، عجزوا عن الحسم، فكيف يَتخذ قرارًا؟ ستنتهي الأمور إلى تراكم الملفات، وتنافس الرقباء في المنع.
كلتا العقليتين، العسكرية والدينية، مهووسة بالإرشاد. لتنظيم الإخوان مرشد، وحركة الضباط عام 1952 ابتدعتْ وزارة الإرشاد. نضجت العقلية قليلا فأُلغي المسمى، المسمى فقط، واستمرت الوزارة/الوصاية باسم الثقافة. في أوروبا والدول المتقدمة أُلغيت وزارة الثقافة. تعي الحكومات العاقلة أنها لا تُنتِج الثقافة، بل تكتفي بدعم المبدعين من كتاب وفنانين وباحثين وناشرين، ولا تنتظر مقايضة بتحويل الثقافة إلى دعاية. وفي سَكْرة 25 يناير حلمنا بما صار الآن مستحيلًا؛ بإلغاء المادة الثانية الخاصة بالشريعة من الدستور، وإلغاء الرقابة على الإبداع. ذهبت السَكْرة وما زلنا في الفخ. وعقلية الإرشاد تنتصر؛ فتمارس وصاية مزدوجة، على المبدعين وعلى الجمهور. وليس الجمهور قاصرًا. حتى الأطفال يبتكرون فنونًا للتمرد على وسائل المنع، ويتابعون ما يريدون، ويتفاعلون مع عالم بلا ضفاف.
إرشاد تمثيلي
توطين الخوف سيؤدي إلى دراما آمنة. إرشاد تمثيلي ساذج منزوع الدسم. هناك شخص شرير ابتكر اللبن منزوع الدسم، لعله مفيد لبعض المرضى لكنه يفتقد لذاذة الحليب. بمدِّ الخيط إلى نهايته سنفاجأ بمسلسلات وأفلام تكمل منظومة الإرشاد، وفي مصر ملايين من خطباء وخطب وفتاوى وميكروفونات تضخّ ذلك كله في الفضاء العام. ولو يزورنا كائن فضائي سيظنّ أن بلادنا أصيبت بلوثة، ويحسد قدرتنا غير الطبيعية على استئناس الضجيج والنفاق، وقد يتساءل: هل يحتاج الدين إلى كل ذلك في بلد أغلبيته مسلمون؟ سوف يرى أيضًا دراما أثمرها الإرشاد، تسكنها الملائكية، ولا يقربها شياطين البشر، خصوصًا شرار العقليتين المتقدِّم ذكرُهما. باختصار، ستكون الدراما خاليةً من الدراما. بريق يعمي العيون، والأرواح ميتة.
لن تمرر اللجنة السيادية عملًا فيه شخص فاسد، خصوصًا رجل الدين والضابط والوزير والقاضي والمحامي والبرلماني والطبيب والمهندس والصحفي والمدرس وأستاذ الجامعة. تستطيع النقابات والمؤسسات المنتمي إليها أيٌّ من هؤلاء أن تستقوي باللجنة؛ فترفض ما ترى فيه إساءة لها. الملحدون أيضًا، وهم مساكين مسالمون صامتون فرادى لا نقابة لهم، سيُحرمون من تمثيلهم على الشاشة، خوفًا على عقيدة مجتمع يحرسه مليون خطيب. فمن سيبقى وقودًا للدراما؟ النظرة الموضوعية ترى الواقع أكثر بشاعةً من خيال المبدعين. في يونيو/حزيران 2024، أيدت محكمة النقض الحكم بإعدام قاضٍ قتل زوجته ودفن جثتها، بمساعدة شريكه. جريمة كاملة تتوج مسيرة القاضي، ولولا القتل لظلت جرائمه مستترة. بجوار جرائم القاضي تهون دراما العشوائيات والبلطجة.
الفن الصادق هو الأخلاقي. في الآداب والفنون لا يهم كثيرًا ماذا تقول. الأهم كيف نقدم القبح بجمال فني يتجاوز الفجاجة. في عام 1948 شارك الفنان التشكيلي عبد الهادي الجزار (23 عامًا آنذاك) بلوحة "الجوع" في معرض، فأُلغي المعرض، وصُودرت اللوحة، وسُجن الرسام. وشفع له الفنان محمود سعيد خال الملكة فريدة لدى الملك فاروق، فأُفرج عنه بعد شهر. وأعادت ثورة يوليو 1952 الاعتبار إلى الجزار ولوحته التي أعاد رسمها باسم "الكورس الشعبي".
المرحلة المسماة ليبرالية لم تحتمل لوحة لفنان تشكيلي، ولا نشيد الحرية الذي لحَّنه محمد عبد الوهاب، في الاستنفار الشعبي ردًّا على وحشية الاحتلال البريطاني مع قوات الشرطة في الإسماعيلية، في 25 يناير/كانون الثاني 1951. تبدأ الأغنية بهذه الصرخة: أنت في صبرك مُرغم :: أنت في حبك مُكره. منعوه أن يسجل الأغنية، فأنقذتها الثورة، مع تعديلات أجراها كاتب القصيدة كامل الشناوي: كنت في صمتك مُرغم :: كنت في صبرك مُكره. وقلما نستمع الآن إلى الأغنية التي صارت مقدمة موسيقاها تميز نشرات الأخبار، فقط.
سقف أحلام يلامس الرؤوس
اختفت من العالم الحرّ لوحة تسجل أن هذا الفيلم، أو ذلك المسلسل، يصور "العهد البائد ولا علاقة له بالحاضر". في مسلسل The Crown تنزعج الملكة إليزابيث من صحف تكشف عورات القصر الملكي. مجرد زعل بشري عابر، لا تترتب عليه مصادرة، ولا تلويح بإجراء قانوني ضد الصحافة. تضمّن المسلسل نزوات جنسية للأمير فيليب زوج الملكة، ونزوات جنسية للأميرة مارجريت شقيقة الملكة انتقامًا من التقاليد الملكية. كانوا جميعًا أحياء وقت عرض المسلسل (بين 2016 و2023)، ولم يصدر بيان استنكار يدّعي أن المسلسل يكدر السلم العام، ويعيب في الذات الملكية. كما أسقط المسلسل ورقة التوت التاريخية عن سحر يتوارثه الإنجليز. ففي حفل تنصيب الملكة إليزابيث، قدَّم عمها الأمير إدوارد (بأداء رفيع للممثل البريطاني أليكس چينينجز) في جلسة مع أصدقائه، شرحًا وافيًا وساخرًا من طبيعة الطقوس المقدسة، ودلالة شبكة الطلاسم، في وضع "غشاوة على الكثير من الأعين".
ليست أوروبا والدول المتقدمة وحدها التي لا يتزلزل فيها سرابٌ يُسمَّى "السلام الاجتماعي" بفيلمٍ أو مسلسلٍ. نشوف الفلبين؟ في عام 2016 أعلن مهرجان القاهرة السينمائي عن تمثيل مصر، في المسابقة الرسمية، بفيلم تامر السعيد آخر أيام المدينة، فاستدركوا الخطأ. ولا يزال الفيلم ممنوعًا من العرض؛ بسبب هتاف "يسقط حكم العسكر" في أحداث تنتمي إلى "العهد البائد" عام 2009. في الدورة نفسها، أوصانا العارفون بمشاهدة الفيلم الفلبيني Ma' Rosa، وقد نالت عنه جاكلين خوزيه جائزة أفضل ممثلة في مهرجان كان. بطلة الفيلم ليست ست الحبايب يا حبيبة، ولا ماما نونة، ولا أمينة رزق في بداية ونهاية. هل تنمو في المرحاض خمائل؟ ماذا تفعل امرأةٌ في مستنقع عشوائيات العاصمة مانيلا؟ بيئة تثقلها الجريمة والفقر والمخدرات وفساد الشرطة.
بنظرة أمنية مرتعشة يسهل على السلطات الفلبينية مصادرة الفيلم وصُنَّاعه. لم تفعل، ولم يشكك برلمانيون مرضى بالوطنية، ومحامون مهووسون بالشهرة، في جدارة بطلته بالجائزة، زاعمين أنها كُوفئت على ضلوعها في مؤامرة على نظام الحكم.
بريلانتي ميندوزا مخرج Ma' Rosa لم تمسّه تهمة "الإساءة إلى سمعة الفلبين". وبعد عامين عاد إلى تلك الأجواء في فيلم Alpha: The Right to Kill، وفيه يقوم ضابط شرطة فاسد بتجنيد موزع مخدرات شاب، لتسهيل القبض على عصابة. ويستأثر كلاهما لنفسه ببعض المخدرات المضبوطة، ثم يتخلص الضابط من الشاب بالقتل الذي كان مصير الضابط.
الشرطة، في العالم كله تقريبًا، لا تحظى بالتعاطف؛ لأنها تميل إلى ممارسة العنف المجاني. الجيش يرتفع، هنا وهناك، إلى درجة القداسة. أترك الشرطة، في الفلبين بالطبع، وأذهب إلى المؤسسة العسكرية المكسيكية التي لم تعترض على فيلم New Order. عمل كبير أُنتج عام 2020، عن فشل الجيش ودمويته في التعامل مع تمرد للفقراء.
لسنا الفلبين ولا المكسيك. سقف الأحلام الآن يهبط ويقترب من الرؤوس. قطارنا الإدراكي توقف عند محطة الإرشاد، ولا ينوي المغادرة. مونوريل يتمهل فقط ويتلكأ عند محطة 30 يونيو، ويدوس كل ما يقترب من محطة 25 يناير، أو يذكّر بها. لم يُعرض في أي مركز ثقافي، أو ندوة مصغّرة للنقاد، فيلم حمام سُخن تأليف وإنتاج وإخراج منال خالد. عرفت به مصادفةً، وشاهدته على Netflix، وأعتبره الأصدق تعبيرًا عن روح يناير. عمل كبير كتبته المخرجة، بالاشتراك مع رشا عزب، برهافة تعيد الأمل في الثورة وفي الفن حين تكون له قضية، مع قدرته على الاحتفاظ بكونه فنًّا.