Watch it
بوستر إعلاني لمسلسل قهوة المحطة (2025)، إخراج إسلام خيري

قهوة المحطة.. "هم طيبين بس قتلوني"

منشور الاثنين 7 أبريل 2025

في ديسمبر/كانون الأول الماضي، أي في خضم استعدادات صناع الدراما للموسم الرمضاني، علم المواطن المصري أن هناك تغييرات ما في مجلس إدارة الشركة المتحدة للإنتاج الفني، رافقتها همسات تُردد شائعات حول أسباب هذا التغيير شبه الشامل في هيكل الشركة.

هذا الارتباك قاد إلى تنبؤات بموسم رمضاني فاشل وباهت، عززها دخول الأعمال الدرامية حيز التنفيذ في وقت متأخر نسبيًا مقارنة بالأعوام السالفة. ما حدا بالمشاهد أن يُقبل على الأعمال الفنية المعروضة بفتور وتوقعات منخفضة، وربما تصيُّد للأخطاء لدى البعض.

ولكن ما حدث، وخلافًا لتوقعات الموسم منخفض المستوى، أن "مصر" خرجت بموسم ناجح حتى بات المرء يظن أن صناعة الدراما عمل سهل؛ فأكثر من نصف الأعمال المصرية لاقت إقبالًا جماهيريًا كبيرًا، ما ناقش منها قضايا مجتمعية بالغة الحساسية والخطورة، وما قدَّم تسليةً ولكن بمستوىً فنيٍّ متقنٍ وراقٍ، ومن بينها قهوة المحطة، الذي أخصص اليوم الحديث عنه.

فالعمل الذي ألَّفه الكاتب عبد الرحيم كمال، وأخرجه إسلام خيري، لا يبدو أنه أُعدَّ على عجالة، وأغلب الظن أن كتابته اكتملت قبل البدء في التصوير. يبدو ذلك من إتقان الثلاث حلقات الأخيرة للمسلسل، وهي ملحوظة شديدة الأهمية، أرجو من كتاب الدراما أن ينتبهوا إليها حتى لا يقع العمل في فخ ضيق الوقت ومن ثمَّ سوء الخاتمة. فلا يعوز أي عمل فني ناجح براعة الاستهلال، لكن قد يعوز بعضها إحكام النهاية.

يناقش المسلسل أزمة إهمال الأقاليم، وتركيز كافة الخدمات في العاصمة. مع براعة الاستهلال بجريمة قتل شاب صعيدي في مقهى بجوار محطة مصر. يكشف العمل الفني النقاب عن كل الحضور الذين يعتبرهم رجل القانون مشتبهًا بهم إلى أن يحل لغز الجريمة.

تعج القهوة ومحيطها بشخصيات ندر أن تجد من بينهم من هو قاهري صرف. ينتمي أغلبهم إلى قرى أو محافظات أخرى، وفد كلٌّ منهم إلى القاهرة لينحت طريقه في صخور العاصمة آملًا في توفير حياة أفضل، أو هربًا من فقر، أو بحثًا عن ذات وفرصة أو ضائع أو مفقود.

اختار الكاتب الكبير عبد الرحيم كمال شخصياته بتنوع وعناية ووحدة موضوع في الوقت ذاته. ستجد تباينًا بين الشخصيات من حيث الباعث والتكوين، لكنهم جميعًا متآلفون في الاغتراب وشعور العزلة الداخلية رغم الاندماج الظاهري في المحيط. وكعادته، لم يكن كمال قاسيًا على شخصياته مهما بلغت شناعة أفعالهم، بل يقودك بتؤدة على طريق التعرف على كلٍّ منهم، حتى تقابل طفله الداخلي وتحنو عليه.

أما المخرج المبدع إسلام خيري، الذي يتمتع بحس إنساني كبير في النظر إلى النصوص التي يُخرجها، فاختار كل تفصيلة لخدمة موضوعه، بدءًا من اختيار أغنية يا وعدي ع الأيام بصوت أحمد منيب النوبي المميز، وكلمات شاعر الاغتراب والتغريبة، عبد الرحيم منصور، لتتري البداية والنهاية. 

يشي اختيار عبد الرحيم منصور ليكون واجهةَ تقديم المسلسل، بعمق فهم المخرج للنص الذي يتعامل معه. فمنصور هو ذلك الشاب الصعيدي الذي احتفظ ببراءته ونقائه وأمضى عمره الفني القصير الحافل المفعم يئن أنات مغترب مفجوع من توحش العاصمة وهو يقول "بلاد ما اعرفش ناسها.. ولا عارفاني بيبانها.. وماليش شبر في أساسها.. ولا طوبة في حيطانها.. وخطاويا غريبة".

لكنني أعتب على إسلام خيري اختياره يا وعدي ع الأيام بالتحديد، بينما كان الأقرب والأكثر بداهة وربما الأكثر مباشرة هو أغنية إيه يا بلاد يا غريبة. غير أن تلك الإشارة أحالتنا إلى زخم أعمال عبد الرحيم منصور، لتكتمل الصورة الشعرية في مسلسل أقرب إلى مسرحية شعرية منه إلى عمل درامي تقليدي.

ربما يرى البعض أن قهوة المحطة أمعن في السوداوية حين قتل الحلم البريء في شخص مؤمن الصاوي الذي جسده الفنان الشاب أحمد غزي برهافة ونبل، لكن ما رأيته في قتل مؤمن أقرب إلى العملية الاستشهادية. كان شهيد الكشف والاكتشاف، ومن ثم "العطف والتفهم"؛ الفكرة التي تتسلط على الكاتب عبد الرحيم كمال في جلِّ أعماله. وطالما أمعن في تقديم شخصيات لا تطاق أملًا في كشف مكنونها البريء للمشاهد. أو كما قال على لسان شخصية الكاتب محمد نجم: فخ الغلب.

عمل فني يبدأ بجريمة قتل، وحول الجثة شخصيات تشي ملامحها بالتوحش، وتبدو على ردة فعلها الغلظة. كل منهم يتستر على جريمة بخلاف القتل، لكن مؤمن الصاوي يزور الضابط في المنام ويقول له: هم طيبين، بس قتلوني.

فهذا القهوجي الذي اختطف طفلًا وكلم قلب أم لأنه أحبه أكثر من ولده الذي من صلبه. وهذا ريشة الميت الحي. وهذا جولي الذي يستغل مريضًا فقيرًا لينقذ حياة حفيدته. وهذا خليفة الأب القاسي الذي يتبين لنا أنه عاشق ملتاع. وهذه ابتسام الأرملة الطروب التي تعاني من الوحدة. وهناك الملك الذي تلوَّن طوال حلقات المسلسل؛ تارة نظنه باشا ابن عز غابر، ثم نظنه رجلًا بائسًا فقيرًا يدعي مظهرًا غير جوهره، ثم نظنه يدير شبكة دعارة، حتى نكتشف في النهاية أنه يتاجر في أعضاء الفقراء احتقارًا لذاته التي تنتمي إليهم في أصلها.

جاء موت مؤمن الصاوي ليكشف النقاب المرة تلو المرة عن هذه الشخصيات وغيرها من الشخصيات شديدة التعقيد، التي تحمل مستويات عدة من التجارب والتأويل، وكان الكشف عن فخ الغلب، الذي قد يؤدي إلى الجريمة والظلم من فرط البؤس، هو الهدف الذي استشهد من أجله الحلم.

برع الممثلون كافة في أداء أدوارهم دون نقصان أو زيادة، وتحية خاصة إلى رياض الخولي، وأحمد غزي، وحسن أبو الروس، وفاتن سعيد، وضياء عبد الخالق، وفتوح أحمد البارع دومًا.

أما المفاجأة فكانت بيومي فؤاد وانتصار. في الحلقة الأولى ظننتهما لا يناسبان الدورين الموكلين إليهما، وأن الأنسب لهما أداء دور قاهريَّين أو فلاحَين. لكني أود التعبير عن سعادتي الجمة لاكتشاف منطقة جديدة في قدراتهما الفنية حتى أنني مع تقدم الحلقات لم أجد لهما بديلًا.

ربما أردت معرفة المزيد عن شخصية الشحاذين اللذين ظهرا في بداية المسلسل، والتعرف عليهما عن قرب. ولكن ذلك لم ينل من أن المسلسل خرج في قالب فني شديد الإتقان والشاعرية. كان اختيار إسلام خيري لهذا النص الأقرب إلى الشعر توفيقًا من الله.