
مسلسل معاوية.. قتله الذي أنتجه
رغم كل الجهود المبذولة لإقناع الجمهور بأن الفن للفن، ولا يفترض أن تكون خلفه رسالة سامية أو دنيئة، فإن الجمهور العربي بشكل عام لا تنطلي عليه تلك المزاعم. وللجمهور المصري بشكل خاص باعٌ طويلٌ في تحليل الأعمال الفنية من زاوية "عايز يبين لك من خلال"، ولكل مشهد في أي عمل فني تفسير: عايز يبين لك من خلال الأم الشقيانة إن مصر شقيانة على عيالها، أو من خلال سواق الأوتوبيس إن مصر هي الأم والدول العربية إخواتها اللي مغلبينها، أو من خلال اختيار اسم الشيخ حسني في الكيت كات أن الرئيس حسني مبارك "بيضبش".
لا ريب أن صناع الأعمال الدرامية يعرفون طبيعة الجمهور المتلقي حق المعرفة، ومن ثَمَّ فهم يحرصون على تجنب وضع رسائل قد يختلط فهمها على المشاهد، ولكنهم مع ذلك يقعون في المحظور وكثيرًا ما اِتُّهموا بالرغبة في "تعليم بناتنا" و"تعليم أولادنا" و"تعليم شبابنا" ما يكرهه المشاهد.
هذه المقدمة ما هي إلا رغبة مني في حُسن الظن بصناع مسلسل معاوية، وعدم الجزم بصحة الافتراضات التي افترضها الجمهور فور سماعه خبر إنتاج مسلسل عن هذه الشخصية المثيرة للجدل، علمًا بأن الجمهور يضع في الاعتبار جهة الإنتاج، والكاتب، والمخرج، وهو يحاول استنتاج ماذا يحاول العمل أن "يبين لك من خلال".
وإحقاقًا للحق، فإن حُسن الظن من خصالي التي أرغب في التخلص منها لكني لا أستطيع. فقررت التعامل معه باعتباره مسلسلًا تاريخيًا، يقدم لنا التاريخ بطريقة فنية مسلية بلا مآرب أخرى.
ربما مسلسل تاريخي؟
تقول القاعدة إن الحكم صعب على أي عمل بعد بضع حلقات فقط، خاصة عند تناول شخصية مثيرة للجدل مثل معاوية، بحياته المليئة بالأحداث والتناقضات ونقاط التحول. هذه قاعدة صحيحة بشكلٍ عام، ولكن في حالتنا هذه فأخطاء التاريخ بعد ثلاث حلقات فقط، "تتعبى في زكايب" كما يقول المثل المصري.
لن أخصص المقال لتفنيد المسلسل تاريخيًا فهذا شأن المختصين، لكن هناك أخطاء فادحة لا يحتاج رصدها إلى جهد المختصين، مثل بطولات معاوية في غزوة حُنين، بعكس ما توثّق كتب السيرة. ولم يحدث أن أسلم معاوية قبل الفتح لا سرًا ولا جهرًا، وما ورد عنه في ادعاء الإسلام قبل الفتح سرًا، ذيَّله بعذر أن أمه حين علمت هددته بقطع الطعام عنه!(*)
كما أن معاوية كان واحدًا من دهاة العرب الأربع ومن أكثرهم سياسة وبرجماتية، لكن لم يُعرف عنه أنه كان فارسًا كما يصر كاتب المسلسل على تصويره. ومما ورد أن الإمام علي بن أبي طالب دعاه لمبارزة إبان معركة صفين، فيؤول الأمر لمن يربح المبارزة وتحقن الدماء، فادعى معاوية صممًا ولم يجب.
ومع سخريات الجمهور من الأخطاء التاريخية الفادحة، خرج علينا كاتب المسلسل الأستاذ خالد صلاح بمقال يشرح فيه أنه يتعرض لمعاوية الإنسان! طيب أين كان ذلك الإنسان حين لاكت هند كبد حمزة إذا صح أمر إسلامه قبل الفتح فعلًا؟
وطالما أن المؤلف ترك العنان لخياله، فلماذا لم يتعرض السيناريو إلى الضغوط النفسية والعصبية التي مر بها البطل من جراء ما فعلته أمه، أو معاملة والده لها، والتي لم تكن بالحسنى البتة؟ يعني قليل من التعميق لا يضر، على الأقل لإضفاء قيمة الإنسانية على الشخصية التي يصورها المؤلف الذي يرغب في التعرض لمعاوية الإنسان.
وبما أن هذا المسلسل ليس معنيًا ببذل الجهد في التدقيق التاريخي لتقديم ما حدث كما هو، هل يكون الأمر برمته سياسيًا؟ آآآآآآآه... لنا هنا وقفة. ما هذا الغرض إذن؟
.. أم مآرب أخرى؟
يخبرنا الواقع أن كثيرًا من الأعمال الفنية التاريخية عادة ما تكون لها أهداف، وهي حقًا ترغب في أن "تبين لنا شيئًا من خلال"، وفي أغلب الوقت لا تقع تحت عنوان "الفن للفن"، وهو العنوان الذي يلجأ صناع الأعمال الفنية دائمًا إليه كلما حاصرهم الجمهور باتهامات وتساؤلات.
ولأن الأعمال التاريخية بالذات، خاصة استعراض حياة شخصية تاريخية مختارة بعناية، تهدف عادةً لإيصال رسالة معينة للجمهور، سواء كانت استلهام الأمجاد، أو اتخاذ العبر، رأينا قطاعًا من هذا الجمهور المعني باستقبال الرسالة، ممن سمحت لهم السوشيال ميديا بالتعبير عن مكنونات نفسوهم، يجهرون بتخمنيات مرتابة وتساؤلات ساخرة، عن اختيار معاوية بن أبي سفيان. لماذا هو بالذات؟ وما الرسالة التي يرغب صناع العمل ومنتجوه في إيصالها؟
حشدنا في حروبهم؟
تباينت إجابات هذه الأسئلة في بعض تفاصيلها، لكنها انقسمت في مسارين رئيسيين بين من ظنّوا أن العمل محاولةٌ لتمرير سلوكيات بعض حكام المنطقة ومنحها المشروعية بمرجعية تاريخية من "الصحابي الجليل" و"خال المؤمنين"، وبين من ربطوه بالصراع السني الشيعي المحتدم، بالنظر إلى جهة إنتاجه؛ مجموعة MBC Studios السعودية، ورأوا أنه محاولة لحشد مجتمعات سنية في المنطقة (مصر بدون ذكر أسماء) في هذا الصراع، وهي ليست منخرطة فيه.
ولكن في إطار السعي لإنجاح هذا الحشد، لا يبدو اختيار معاوية بالذات ليكون الشخصية التاريخية التي تُعرض حياتها بنبرة التفخيم الواضحة في المسلسل، اختيارًا موفقًا على الإطلاق.
القاعدة أن البطل دائمًا هو الفدائي الشجاع الذي يراه العقلانيون أحمقَ
فمعاوية شخصية خلافية ليست محل إجماع المسلمين. ولا أقصد هنا الخلاف السني الشيعي بشأنه، لأن الخلاف على معاوية خلاف سني سني أيضًا. فمصر مثلًا بلد سني، بل تكاد تكون "البلد السني" بأل التعريف، مع وجود الأزهر ركيزة المذهب السني الرئيسية. غير أن المزاج العام في مصر لا يميل إلى تبجيل معاوية وتفخيمه وعلى ذلك دلائل، أولها: كم مصريًا قابلته اسمه معاوية؟
المسلمون في مصر اسمهم محمد أو أحمد أو مصطفى بشكل رئيسي، وما عدا ذلك محاولات للتميز من بعض الآباء مثلما حدث عندما تأثر المصريون، إبان فترة الوحدة مع سوريا، بالثقافة السورية في التسمية، فعرفنا أسماء مثل مروان وهشام وحسام ومهند وغيرها. ولكن مع ذلك، تجنب المصريون استعارة اسمي معاوية ويزيد، رغم انتشارهما بين السنّة السوريين.
شخصيًا لم أعرف مصريًا اسمه معاوية إلا شخصية معاوية القليوبي في الرواية التي يحمل كل أبطالها مع أسمائهم رموزها؛ حديث الصباح والمساء. اختار نجيب محفوظ اسم معاوية رغم شبه انعدامه في مصر، لـ"يبين لنا" أن مصر يحكمها سني لكن روحها مع الإمام علي بن أبي طالب المُكنَّى بأبي الحسن، "من خلال" تزويج جليلة الطرابيشي، تلك المرأة الروحانية الوطنية التي ترمز لمصر، من شيخ أزهري اسمه معاوية، وهي تخاوي جنيًا اسمه أبو الحسن.
أما الدليل الثاني، فهو رواج مقولة "العن يزيد ولا تزيد" الشهيرة على ألسنة مشايخ الأزهر الشريف وتكرار استدعائهم لها هي بالذات. وهو ما يشي بأن القائمين على المؤسسة الدينية تعثروا في سبابٍ متناثر هنا وهناك لمعاوية، دفعهم إلى النهي عنه، بمنطق إذا كنتم ترغبون في أن تسبُّوا أحدًا فليكن يزيد، صاحب الجرم الذي لا لبس فيه، ولنترك أباه لخالقه. وعدم تجاوزها إلى تحدي المزاج العام بسرد مناقب مما نَدَر أن تجدها في كتب السير لمعاوية، أو إضفاء الجلالة عليه أو وصفه بخال المؤمنين.
أما ثالثًا، فالمصريون لا يميلون إلى مثل معاوية؛ الشخصية البراجماتية العقلانية السياسية. وكثيرًا ما تصوَّر في الأساطير القديمة، وحتى المستحدثة على نهجها، على أنها شخصية انتهازية ترمز إلى الشر. بدءًا من أسطورة إيزيس وأوزوريس وست وحورس، مرورًا بـ حسن ونعيمة وياسين وبهية وأيوب وناعسة. وحتى في قراءة التاريخ؛ فالقائد المهزوم أحمد عرابي هو البطل، لا الخديو البراجماتي توفيق الذي رحّب بالاحتلال حقنًا للدماء. القاعدة أن البطل دائمًا هو الفدائي الشجاع الذي يراه العقلانيون أحمقَ.
إذن، تخيل عزيزي المواطن أنك ركبت آلة الزمن، وعدت إلى عصر القدماء لتخبرهم بأنك سوف تنتج مسلسلًا عن "سِت" الذي يعتقدون أنه إله الشر، لتختبر دوافعه وتجد مسوغات لأفعاله، وتصف ما قام به بأنه ذكاء ودهاء وحنكة وسياسة؛ في النهاية، "ست" هو الذي انتصر في المعركة الأرضية على الأقل، فقتل غريمه، وفقأ عين ابنه، وسيطر على حكم البلاد. أي أن "ست" هو رجل الدولة في هذه القصة.
غلط غلط غلط.. صاحب الفكرة غلطان غلطان غلطان
يرتبط المصريون وجدانيًا بآل البيت. نقابة الأشراف على لسان نقيبها محمود الشريف تقول إن تعداد من وثقت أنسابهم في مصر نحو سبعة ملايين، وهناك من يؤكدون أن العدد أكبر، وأكثر منهم ينسبون أنفسهم إلى آل البيت دون أن يتحقق أحد وفق مخطوطات تبلغ أعمار بعضها ثلاثة قرون.
وبصرف النظر عن الحصر الحقيقي وبعد إذن الحمض النووي، ففي النهاية الانتماء الوجداني هو ما يساعدنا على فهم المزاج العام في المجتمعات. وعندما يقرر الملايين الارتباط بهذا النسب، فعلينا افتراض أنهم يعتقدون أن معاوية مَكَر بجدهم، وأن أمه لاكت كبد عمهم، وأن ابنه قتل أبيهم. يصعب إقناع هؤلاء بحكمة أحمد الشرع التليدة "أحداث مر عليها 1400 سنة، ما شأننا بها؟". نحن لدينا من يلعن الهكسوس حتى هذه اللحظة رغم أننا لم نعرف من هم بالتحديد!
فإذا كانت رغبة منتجي العمل الزج بنا في هذا الصراع عبر بوابة معاوية، فالنمرة غلط. نحن هنا لا نلقب معاوية بخال المؤمنين نكاية في جارنا الشيعي. هذه المعركة لا تخصنا ولن نكون جزءًا منها. نحن هنا نتعارك حول أبو تريكة، ما رأيكم في الانضمام إلينا؟ تعالوا.. لكن للتوضيح: نحن هنا نسبُّ فقط، لا ننحر رقابًا في معارك كهذه. هل تسمعني؟ حوووول.
خطة تلميع القادة؟
أم هل، كما يظن الظانون، هي محاولة لإيجاد غطاء تاريخي وشرعي لتصرفات بعض حكام المنطقة؟ لا لا لا لا لا لا.. مرفوض مرفوض (بصوت أمينة شلباية) فهذا أيضًا اختيار سيئ جدًا.
ذات مرة، اعتذر رجل كتب مقالًا بعنوان "الحسين ظالمًا" لأنه أغضب الجميع، والآن تخرجون علينا بمسلسل معاوية، الشك هيقتلني، لا.. من صاحب هذه الفكرة؟ لا لا لا لا.. أرجوكم، لا.
وبعدين حرام عليكم، ليس لهذه الدرجة يعني، فأنتم عندما تُشبِّهون من تريدون إيجاد الغطاء لهم بهذه الشخصية غير المحبوبة بالقدر الكافي، فإنكم تُشبِّهون في الوقت نفسه معارضي هؤلاء بكل من الإمام علي والإمام الحسن والإمام الحسين! نظرة ومدد! وكأنكم تشجعون الناس على معارضة الحكام! من منَّا على اختلاف دينه لا يرغب أن يكون في معسكر هؤلاء؟
غلط غلط غلط.. صاحب الفكرة غلطان غلطان غلطان. ولن يفلح هذه المرة الحديث عن الرافضة وخال المؤمنين وكتاب الوحي وأسلم قبل الفتح.
خطأ في العملية.. برجاء المحاولة في وقت لاحق.
(*)عدَّلت المنصة هذا المقال يوم الجمعة 7 مارس 2025، لإعادة الصياغة الملتبسة لهذه الجملة، بعد أن فُهم منها خطأً نفي مشاركة معاوية بن أبي سفيان في معركة حُنين، لا نفي مشاركته بالكيفية التي جسَّدها المسلسل.