لماذا يحصر كُتاب الديستوبيا أنفسهم في نهاية العالم؟ قفز السؤال إلى ذهني وأنا أشاهد الحلقات الست من مسلسل المؤامرة ضد أمريكا (The Plot Against America)الذي أنتجته HBO وبدأ بثه في مارس الماضي، عن رواية فيليب روث الصادرة العام 2004 بالاسم نفسه، والتي اختار فيها أن يعود للعبث بالتاريخ.
تبدأ الحلقة الأولى من المسلسل عام 1940. الجدل صاخب في الولايات المتحدة بعد أن احتلت ألمانيا النازية ثلثي أوروبا؛ هل نحافظ على حيادنا المقدس أم نواصل سياسة الرئيس فرانكلين روزفلت في دعم البريطانيين بمنحهم طائرات وسفن لعلها تنقذهم من الهزيمة؟
في بيت هيرمان وعائلته اليهودية يطرق أحدهم الباب، وعندما يهرع هيرمان لفتحه يجد حاخامًا يطلب تبرعات لصالح إقامة وطن لليهود في فلسطين. فيليب الطفل، والذي يجسد روث نفسه كعادته في الظهور كطفل في أعماله الروائية، يطرح بعض التساؤلات على أبيه؛ لماذا التبرعات؟ وما حاجاتنا لوطن آخر؟ أليس هذا هو وطننا؟ ليخبره أخوه عن توطين يهود أوروبا، الفارين من جحيم هتلر إلى فلسطين.
تلمس أسرة هيرمان تهكم بعض الأمريكيين عليهم بينما هم في طريقهم إلى حي جديد لمعاينة بيوت معروضة للبيع. صيحات وصرخات عصبية ترتفع؛ عودوا يا أيها اليهود من حيث أتيتم.. فيقرر هيرمان التراجع وهكذا تركز الحلقة الأولى على الإرهاصات المبكرة للمعاملة السيئة التي يلتقها اليهود في أمريكا خلال الحرب.
بهذه البداية المثيرة ينطلق المسلسل؛ يهود فارين من بلادهم الأوروبية إلى بقعة غريبة وبعيدة، مساع لتأسيس وطن لهم بجمع التبرعات من يهود يعيشون في قارة أخرى بعيدة، تعلو فيها أصوات ترغب أيضًا في التخلص من اليهود، جيرانهم ومواطني بلدهم، الأمريكيين أنفسهم. لماذا؟ لأنهم قد يجلبون الحرب إلى هنا، هم.. وروزفلت.
ربما لهذا قرر روث التخلص من روزفلت. فعلى الجانب الآخر من الأطلنطي، تستسلم فرنسا أمام ألمانيا خلال ست أسابيع، وتبث الشاشات تسجيلات مصورة لهتلر يتراقص في شوارع باريس، في تمهيد لإطلاق المنعطف الدرامي الأهم في المسلسل بحبكة درامية تحكي للمشاهد الذي يمتلك فكرة عن مجريات التاريخ الحقيقية، واقعة لم يسمع عنها من قبل؛ شخص اسمه ليندبيرج يترشح للرئاسة الأمريكية عن الحزب الجمهوري ويفوز بالفعل. منعطف سيترتب عليه كل ما سيلي، كمكعبات الدومينو التي تتساقط إثر بعضها بعضًا.
فمن هو ليندبيرج هذا، وما قصة هذا المنعطف التاريخي الذي يجنح إليه المسلسل، بعيدًا عمّا جرى في واقع الأمر؟
ليندبيرج الحقيقي وليندبيرج الرواية
لم يكن ليندبيرج هو من خسر انتخابات 1940 في مواجهة روزفلت، الذي حصد نحو 55% من الأصوات الشعبية، بفارق كبير عن منافسه الجمهوري المحامي ويندل لويس ويلكي، والذي كان مثل روزفلت مؤيدًا لدعم بريطانيا وغيرها من الحلفاء. بعدها ظلت الولايات المتحدة الأمريكية محايدة ولم تخض الحرب حتى قصفت اليابان أسطولها في بيرل هاربر، فإذا بالوحش النائم يستيقظ من سباته ويشارك في الحرب.
فمن أين إذن جاء فيليب روث ببطل روايته الذي افترض أنه هزم أحد أكثر رؤساء الولايات المتحدة شعبية عبر التاريخ؟
تبدأ الحلقة الثانية ليندبيرج للرئاسة الأمريكية عن الحزب الجمهوري. المشاهد الأولى من الحلقة، وبالتأكيد من الرواية، تتناول تحريض الجمهوريين ضد روزفلت، ويروجون عنه أنه يبيع السفن لإنجلترا مهددًا الحياد الأمريكي المقدس. لقطات تظهر صور صحف تتحدث عن مساعدات روزفلت للبريطانيين وتهاجمه، وليندبيرج يخطب ضد اليهود خلال جولاته الانتخابية، ويصفهم بأنهم المحرضين على الحرب في معاداة واضحة وصريحة للسامية، بينما يتمنى بطلنا هيرمان وزوجته بيس أن يفعل روزفلت شيئا في مواجهة خطابات التحريض هذه.
لكن لينديبرج يقطع الطريق على مؤيدي روزفلت بينما يقول في مؤتمراته التاريخية؛ "اختياركم أيها الأمريكيون ليس بين ليندبيرج وروزفلت، بل بين ليندبيرج والحرب".
في الواقع الحقيقي، كان تشارلز أوغسطس ليندبيرج طيارا أمريكيًا وضابطًا عسكريًا ومؤلفًا ومخترعًا ومستكشفًا وناشطًا في مجال البيئة. أي أن فيليب روث لم يأت بهذه الشخصية الرواية من الفراغ، بل هي شخصية حقيقة لعبت دورها في المجتمع الأمريكي.
استمد ليندبيرج شهرته من عدة أحداث ذاع صيته على أثرها، أولها أنه أجرى رحلة طيران فوق المحيط الأطلسي استغرقت ساعات طويلة مستقلا طائرة بمحرك واحد وبدون توقف بينما كان عمره 25 سنة حسبما تقول المصادر المتوفرة عنه.
رحلة ليندبيرج التاريخية، ومن بعدها مأساة اختطاف ابنه الرضيع ودفعه 50 ألف دولار فدية لم تكن كافية على ما يبدو لاستجابة الخاطفين إذ عثر في النهاية على الطفل مقتولا، أديا إلى شهرته بل وصفت وسائل الإعلام الأمريكية حادث الخطف بأنه جريمة القرن. وبحلول عام 1935، دفعت الهيستيريا المحيطة بالقضية عائلة ليندبيرج للمنفى الطوعي في أوروبا، قبل أن تعود عام 1939 مع اندلاع شرارة الحرب العالمية الثانية.
اشتهر ليندبيرج برفضه التدخل في الحرب العالمية الثانية، وكان من داعمي لجنة أمريكا أولًا المناهضة للحرب والتي عارضت المساعدات الأمريكية لبريطانيا في حربها ضد ألمانيا. استقال من لجنته في القوات الجوية لجيش الولايات المتحدة عام 1941 بعدما وبخه الرئيس فرانكلين روزفلت علانية بسبب آرائه، وربما بسبب دعوته من الزعيم النازي هيرمان جورينج لزيارة مرافق الطيران الألمانية، ومنحه ميدالية نازية عام 1938.
وقتها، أعجب ليندبيرج بما رآه، وخوفا من القوة الجوية الألمانية خشي ليندبيرج من انخراط أمريكا في الحرب، فانضم إلى منظمة أمريكا أولًا التي دافعت عن بقاء الولايات المتحدة على الحياد.
تاريخيًا، أدى موقفه هذا إلى تآكل جماهيريته، وأعتقد كثيرون أنه متعاطف مع النازيين. غير أن مواقفه هذه تغيرت بعد هجوم بيرل هاربر ليصبح ناشطًا في المجهود الحربي، حيث عمل مع هنري فورد على القاذفات، وأصبح مستشارا وطيارا لشركة يونايتد إيركرافت.
كيف صنع روث حبكته؟
عوضا عن اختراع عالم مستقبلي يمتلئ بالزومبي والحوامات الطارئة، بما لا يليق بمكانة فيليب روث الروائية ولا بأدبه، رغم أنها عوالم لقيت رواجًا شعبيًا في أعمال مثل حروب النجوم (Star Wars)، إلا أن روث اختار أن يرتد إلى التاريخ ليصنع عملًا ديستوبيًا بكتابة قصة بديلة للولايات المتحدة غير تلك التي نعرفها.
انحراف تاريخي يستمر سنتين، إذ أن المسلسل والرواية ينتهيان بعودة روزفلت للحكم. وبصرف النظر عن كيفية إنهاء روث وصناع العمل هذا المنعطف، كي لا نحرق النهاية للمشاهدين والقراء، ثمة متعة في أن ترى هذا الروائي الكبير وهو يشيد عالمه الجديد المتخيل على أنقاض التاريخ، لاعبًا لعبةً واسعةً وشديدة الجرأة والمغامرة، بتعطيل مسار التاريخ الحقيقي سنتين فقط ليلعب لعبته المستندة على مخاوف اليهود في الولايات المتحدة الأمريكية وتصاعدها في الأربعينيات من انتقال عدوى كراهية اليهود بعد استيلاء النازي على كل أوروبا إلا قليلا، إلى قارتهم البعيدة المحايدة.
يكتب روث عن المخاوف اليهودية من وصول شخص كليندبيرج إلى السلطة، لأن تشكيل جمعية تدعو إلى "أمريكا أولًا" هي بمثابة نذير على تهديد القوميات ونزعات الشوفينية للأقليات الدينية والثقافية والعرقية، وهي المخاوف التي تجددت مرة ثانية في مطلع الألفية، بعد صعود حركات تدعو إلى تمجيد الحلم الأمريكي وسحق أي قومية أخرى وتدعو إلى الحرب.
يرتد روث إلى الأربعينيات، زمن الحرب العالمية الثانية، وقت كان الحلم الأمريكي هذا أكثر انغلاقًا على نفسه، متعصبًا للحياد، ورافضًا أي أفكار للتورط في حروب أوروبا، مشكلًا تربة خصبة لكراهية اليهود بعد انتشار كذبة أنهم السبب في حرب هتلر، لا نزعة هذا الأخير إلى الفاشية والاستعمار والتوسع، ويغيّر حدثًا تاريخيًا واحدًا فقط، ثم يترك الأمور تأخذ مجراها في خلق عالم ديستوبي لا يبنيه على أكتاف جثث ولا أنقاض حضارات ستزول في المستقبل، في لعبة تاريخية لا يفضل الكثيرون خوض غمارها.
فحينما قرأت رواية 1970 للروائي الكبير صنع الله إبراهيم، لم أكن أنتظر منه أن يلعب لعبة روث، ولكن ماذا لو أنه غير قليلًا في مسار الأحداث؟ لو لم يمت جمال عبد الناصر عام 1970 مثلًا؟ وماذا لو لم تدخل الولايات المتحدة الحرب العالمية الثانية؟
الديستوبيا في الأعمال الأدبية المصرية، لم تعرف بعد لعبة "التاريخ البديل" حسبما قرأت، فلم أصادف مثلا عملا قلب التاريخ رأسا على عقب مثلما فعل روث في تاريخ أمريكا، ومثلما فعل فيليب كي ديك في روايته الرجل في القلعة العالية، بل إن معظم الروائيين المصريين لا يعرفون من الرواية التاريخية إلا شكلها التقليدي المعهود، وقلما تلاعبوا في الأحداث التاريخية، كأنهم يكتبون تاريخا جديدا.
من مثال ذلك 1970 عن جمال عبد الناصر، وعن سنة رحيله. أنا شخصيا لو كتبت هذه الرواية -1970- لما جعلت جمال عبد الناصر يموت في ذلك العام. ربما أجلت وفاته سنتين. أو ربما إذا كتبت عملًا تدور أحداثه في الأربعينات في مصر، لما جعلت الأحداث تسير كما سارت تاريخيًا. يمكننا أن نصنع عملا أدبيًا ديستوبي النزعة من خلال اللعب قليلًا بالتاريخ.
لمَ لا؟ أليست كلمة "رواية" تعني خيالًا؟ أي أن قارئ العمل لن يحاكم الروائي عما فعله تاريخيا، بل سيسايره ويجاريه في لعبته ويستمتع بها حتى النهاية كما فعلنا في لعبة روث وروايته الكبيرة المهمة، التي يتحدث عنها في حوار تلفزيوني أوضح فيه كيف كان شغوفًا باسم ليندبيرج، لأنه كان بطلًا في ذلك الوقت بسبب مغامرته فوق الأطلنطي قبل أن يتبين له أنه كان يكره اليهود ويعتبرهم في منزلة أدنى منه.
هنا تلتقط المحاورة طرف الخيط وتطرح سؤالها؛ "من أجل هذا استغللت هذه النقطة في بناء روايتك، بوصفه شخصًا يصل إلى الحكم وهو يكره يهود أمريكا؟ أم أنك تعتبر نفسك لك الحق أدبيا في تخيل ما تشاء؟"، ليجيب روث "بل تخيلت ما سيحدث لو أصبح ليندبيرج رئيسا للولايات المتحدة العام 1940، ربما لم يكن ليفعل أيا من هذه الأشياء، أنا مجرد كاتب كما تعلمين".
تعيد المحاورة سؤاله "كيف تخيلت شكل الحياة أسفل إدارة ليندبيرج؟"، ليرد "تخيلت أن ليندبيرج هزم روزفلت، وبالتالي نفذ البرامج لإرضاء دائرته من الانعزاليين، وأول شيء يفعله هو التوصل إلى تفاهم مع هتلر، وتم توسيع مجالات نفوذ هتلر ومن هم أشباهه لدينا".
كل هذا نشاهده من وجهة نظر "الطفل" فيليب روث، بطل الرواية والمسلسل. تنعكس أمام عينيه ردود فعل اليهود بينما هم يطاردون، ويتعرضون للازدراء من المجتمع ومن الوطن. أمه بيس، تحث زوجها هيرمان على الهجرة إلى كندا، ولكن هيرمان يتشبث بوطنه ويرفض السفر رغم كل الكراهية المتصاعدة حوله.
تصور الحلقتان الخامسة والسادسة تصاعد أعمال العنف ضد اليهود وحرق منازلهم، يقول روث في الحوار التلفزيوني إن أجواء الخوف التي في الكتاب انعكست على الناس في الوقت الحاضر، خلال فترة إدارة جورج بوش الابن وقت صدور الرواية. وحين سألته المحاورة عن الارتباط بين ظهور ليندبيرج في بزة الطيران، وبزة طيران بوش الابن التي ارتداها ذات مرة، أجاب روث بأن الناس تستخدم الكتب استخدامات متعددة، أو فيما معناه، الناس تتلقى الأعمال الإبداعية بأشكال مختلفة، وأنه ككاتب لا يمكنه التحكم فيما يصل للقراء، أو فيما يتلقونه من أفكار بينما يقرأون عملًا تاريخيًا كذلك.
مصادر
https://www.biography.com/historical-figure/charles-lindbergh
https://mimirbook.com/ar/2ca410f3a53