تصميم سيف الدين أحمد، المنصة، 2025
الممثل المصري محمد رمضان

كأنه دفاع عن محمد رمضان

الحق العام في الجسد يكبح البارانويا

منشور السبت 10 مايو 2025

بدافع الغيرة على "الأخلاق"، استنكر وعاظ على المنابر سلوك الممثل محمد رمضان، وثار مواطنون طيبون على السوشيال ميديا، وهدّد محامون باللجوء إلى القضاء، وطالب البعض بإسقاط الجنسية المصرية عنه، بسبب ارتدائه زيًّا يوحي بالتشبه بالنساء، في عرض غنائي راقص بمهرجان كوتشيلا للموسيقى والفنون في ولاية كاليفورنيا الأمريكية، في أبريل/نيسان 2025.

مقاطع وصور منفّرة عبرت الأطلسي، تزامنًا مع رفع أسعار الوقود وما ترتب عليه من قفزات في أسعار السلع والخدمات. ثارت العاصفة، مثل سابقاتها، ثم انشغل الناس بقضية تحرش رجل عجوز بطفل. غدًا تشغلهم قضية حقيقية أو مفتعلة، وتنهض ستائر من غبار، للتعمية على رفع جديد للأسعار. ويبقى أصل المشكلة: الاستبداد وحرية الجسد.

ماذا لو أن محمد رمضان من أوروبا والدول المتقدمة، وقدّم العرض نفسه؟ ماذا لو أنه أمريكي وارتدى الثياب نفسها في المهرجان نفسه، أو في مهرجان بأستراليا؟ أغلب الظن ستكون الإجابة: لا شيء. هذه شعوب أوصلتها التجارب إلى الحكمة، واهتدت إلى حق الإنسان في جسده ما لم يقم بإيذاء غيره.

أما الإساءة إلى سراب اسمه العيب، والعدوان على السلام الاجتماعي، وتدمير الهوية الوطنية، فهو عبث يعشش في أدمغة المساكين، ولعله توجيه حكومي لئيم لإلهاء الناس؛ فيحتملون المهانة والاستبداد. أسهل ما يلجأ إليه المقهورون هو افتراس ضحايا يُسقِطون عليهم فوائض القهر؛ فيشعرون بالانتشاء بتحقيق نصر له صفة العمومية، وينامون مرتاحين. أضعف الضحايا: الجسد.

ماذا لو أن الذي قدّم العرض، وارتدى الثياب نفسها، ممثل أو مطرب مصري محدود الشهرة؟ الإجابة: لا شيء. نشوة السادية يحققها الشخصي لا الموضوعي، تستهدف الشهرةَ وتستكثر الثروة، مع التستر بالدفاع عن الهوية أو العقيدة.

لم يعترض شيخ على بيع أولاد حارتنا في مكتبة مدبولي حتى فاز نجيب محفوظ بجائزة نوبل عام 1988، وأشارت لها لجنة الأكاديمية السويدية للآداب في حيثيات منح الجائزة، ضمن أربعة أعمال لمحفوظ. فثار كارهو الفرح وأعداء البشر، رفضًا للجائزة لا لرواية أصبحت جزءًا من عناوين كتب تفترسها: أولاد حارتنا فيها قولان لمحمد جلال كشك، وكلمتنا في الرد على أولاد حارتنا لعبد الحميد كشك. والكشكان ليسا أخوين.

عكارة الهزائم

محمد رمضان يستعد لأحد المشاهد في مسلسل "جعفر العمدة"

الشهرة المفاجئة جنّنت رمضان. مسكين مَن تصيبه سهام شهرة طاغية لا يستطيع استيعابها. يلزمه مختصٌّ نفسيٌّ ينصحه ويوجّهه، يكبح هوسه بأنه فوق الحياة، فوق الناس، يثير في نفسه قلقًا وشكوكًا ورغبة في تطوير أدواته. لم أكن أبالي به. تابعته على فترات متقطعة، رأيته محظوظًا قياسًا إلى موهبته المتواضعة.

ثم انتبهت إلى طبيعة شهرته مصادفة، ليلة تكريمه في افتتاح مهرجان الأقصر للسينما الإفريقية (2023)، رأيت حشودًا من الصغار أمام معبد الأقصر ينتظرون خروجه. سمعت صبيًّا لم يستطع بلوغ البوابة يناديه، وهو يعرف أن رمضان لن يسمعه "بنحبك يا أسطورة". أدهشتني معرفة طفل بهذا اللفظ. ثم عرفت أنه كان عنوان مسلسل تليفزيوني رمضاني.

في 2011 كان مخرج صديق يبحث عن ممثل شاب تختصر ملامحه ميراث البؤس والفقر. اقترحت عليه ولدًا شارك في فيلم احكي يا شهرزاد (2009). رفض بحجة أنه "مرطرط في المسلسلات". هناك ممثلون يجيدون الأدوار القصيرة، فإذا صاروا أبطالًا أفسدت النجومية طموحهم إلى التجديد.

وفي الدورة الأولى لمهرجان الأقصر للسينما الإفريقية (2012)، أُدرج فيلم الخروج من القاهرة (2011) للمخرج هشام عيسوي في المسابقة. وفي يوم عرضه، تبيّن عدم حصوله على تصريح بالعرض، ولو للنقاد ولجنة التحكيم.

الرقيب خائف، يخشى أن يمنحه تصريحًا، ولا يجرؤ على إعلان المنع. تعمَّد أن يتركه في مساحة ضبابية لا تدينه أمام المهرجان، وأمام سلطة يخشى أن يغضبها بموافقته على عرض فيلم يرتبط فيه شاب مسلم بفتاة مسيحية. ليست مجرد علاقة، بل أزمة اجتماعية تدفع الشاب للهجرة السرية إلى الشاطئ الأوروبي، والفتاة تصرّ على بقائه في مصر.

فيلم الخروج من القاهرة أول بطولة لرمضان، وآخر دور فيه اجتهاد ينطلق من طموح البداية. في العام التالي انهار السدّ، فبدأ انقلاب عبده موتة (2012) وقلب الأسد (2013). يُحدث انهيار السدود عكارة تختلط فيها الرمال والطمي والمخلفات البلاستيكية، وتهيم أسماك تنعدم قدرتها على الرؤية وتفادي الشِراك.

في انعطافات التحول، تصيب الشعوبَ عكارةٌ تؤدي إلى ضعف القدرة على التمييز، والانحياز إلى الرداءة، في عمى جزئي قد يستهلك جيلًا. في اختلالات الانفتاح، وتخلي الدولة عن التزاماتها الاجتماعية والصحية والتربوية، صعدت نادية الجندي، وتسلحت بلقب "نجمة الجماهير". بعد عقدين أفاق الجمهور، واسترد وعيه واستطاع الفرز. وفي عكارة انعطافتين حادتين، بعد فشل الثورة، صعد محمد رمضان.

كل زمن يختار بطلًا شعبيًا يشبهه. صعود الحلم بالعدل بعد يوليو 1952 اختار فريد شوقي. وتجسّد انهيار الحلم نفسه، وسيادة الفهلوة للتحايل على الوحوش، في عادل إمام. محمد رمضان ثالث نموذج من هذا النوع في تاريخ السينما المصرية.

لحظة مرتبكة اختارته نجمًا شعبيًا، مبكرًا، في عُمر أصغر من سابقَيْه، قبل اكتمال نضج فني وتحقق ذكاء وبصيرة تنبهه إلى أن السقوط وارد. الجمهور وحش، قد ينفض رأسه من آثار العكارة، ويستعيد عقله، ويعيد الاختيار. الإنسان الناضج يستعد لحمْل أعباء المصادفات. فعلها عماد حمدي، بعد أن حملته مصادفة عام 1945، من وظيفة متواضعة في بنك مصر إلى الشاشة، بطلًا لفيلم السوق السوداء للمخرج كامل التلمساني.

يمكن للممثل أن يرتدي ثياب امرأة أو هلاهيل بهلوان ويأتي بأمور خارجة عن القانون في حدود الدور

الجمهور لا يمنح ممثلًا شيكًا على بياض. المحبة تكافئ الإمتاع والمؤانسة بتجسيد الأشواق الإنسانية على الشاشة. أضربُ مثالين أولهما جزئي محدود ذو دلالة؛ في حياة نور الشريف كان التليفزيون يذيع أحد أفلامه. في صالون الحلاقة، تابعت الحوار كلما توقف الحلاق الشاب عن الثرثرة. قال نور الشريف لصديقه باستنكار إنه يدير شركة "مش صالون حلاقة"، فلم يحتمل الحلاق ما اعتبره سخرية، وانتفض وكاد المقص ينغرس في رأسي، وقال "وماله صالون الحلاقة يا محمد يا جابر يا ابن الـ...؟". سبَّ النجمَ، وذكر اسمه القديم الذي تخلّى عنه.

المثال الثاني يخصّ الممثل طلعت زكريا. في برنامج تليفزيوني، مساء موقعة الجمل 2 فبراير/شباط 2011، قال إن شباب التحرير يدخنون الحشيش، ويمارسون الجنس في الميدان. وأضاف مناقضًا نفسه أن الذين في الميدان من الإخوان، وليسوا ثوارًا.

لم يتأخر عقاب الجمهور، أريد أن أبالغ فأقول "الشعب"، الذي قرر مقاطعته. وعرض فيلمه الفيل في المنديل (2011) في صمت. فشل تمامًا. ولو صدق دعاة الفضيلة لتبنوا حملة لمقاطعة أعمال رمضان، بعد تحميله خطايًا تدهور الأخلاق، وانتشار البلطجة. تلك من نتائج الإحباط لفشل الثورة. لا يستطيع ممثل نشْر الرذائل في أعماله إلا في مجتمع هشّ، تُعميه العكارة عن الرؤية. لعلهم يحسدونه؛ فيستسهلون إسقاط الأخطاء عليه.

سحرته الشهرة

في البدء، قبل الكاميرا، كانت شهوة الميكروفون. استبدّت بزعماء وأشباه زعماء وممثلين مسرحيين بالذات. ثم اتضح أن الكثيرين ممن فاتتهم غنائم التمثيل مهووسون بالأضواء. من المهووسين محامٍ يفتعل أزمات لتستضيفه الفضائيات، حتى إنه اتهم الممثلة عبير صبري بتحقير الأديان؛ لخلعها الحجاب. كبار النفوس والعقول لا يشعرون بالجوع إلى الشهرة، ويستعلون على ثمارها.

الكبار وحدهم من لا يصيبهم هذا الضعف الذي يحتاج إلى مجاهدة. والبعض يعلن الزهد ثم يضعف. الزهد سلوك يحمل الزاهدين إلى العزوف عن إعلانه. في رصيف22 قبل سنتين ونصف، قلت في مقال إن يوسف زيدان لم يحتمل الصيام الإعلامي أسبوعًا أو أسبوعين، وكثّف الأنشطة للتعويض. مبروك عطية أيضًا لم يصمد إلا ثلاثة أيام، ليلتين بالحساب الفندقي.

من المفارقات أن أدافع عن رمز الافتعال والفجاجة. هو حرّ. يحميه ويحمي غيره من الفنانين قانونٌ خاص يتيح الظهور على المسرح، وأمام الكاميرا، تبعًا لمنطق الدراما. لا يُحاسَبون على لباس أو أداء محكوم بحدود المسرح. وانتقال هذه المفردات إلى الشارع يُخضعها للقانون العام.

يمكن للممثل أن يرتدي ثياب امرأة أو هلاهيل بهلوان، ويأتي بأمور خارجة على القانون تبلغ درجة القتل، في حدود الأداء. في مشاهد تُقتل فيها حيوانات برية أو منزلية، يحرص صناع الدراما على تأكيد عدم تعرّض أي حيوان لأذى أثناء التصوير. وبالإيهام يرى الجمهور خلاف ذلك.

محمد رمضان سحرته الشهرة. هؤلاء المجانين يقتلهم الصمت والتجاهل. في أوروبا والدول المتقدمة، إذا ضايق العقلاءَ سلوك نجم، ولو كان جون سينا، رفعوا شعار "خلّيها تاكله". متى نجرّب هذه القاعدة، بدلًا من التكفير الوطني والأخلاقي؟