تصميم: أحمد بلال- المنصة
يوسف شاهين وتوفيق صالح

السلطة تلاحق مثقفها.. ابنا فيكتوريا كوليدج في المنفى

ملامح سريعة من رحلة توفيق صالح وآخرين

منشور الثلاثاء 1 أغسطس 2023

"مطرود من مصر بشكل مؤدب".


من دمشق التي ما زال يتخبط فيها بين عدد من المشاريع المجهضة، وتهرب المسؤولين عن قطاع السينما السورية من الوعود التي قطعوها معه، يرسل توفيق صالح أكثر من رسالة للناقد سمير فريد يعبر فيها عن ألمه بسبب موت عبد الناصر، وقلقه على ما ستؤول إليه الأحوال في مصر والمنطقة بعد موته. للدرجة التي فرضت عليه، وبسبب مرضه بالقلب، أن يلازم بيته للراحة بضعة أيام.

الزعيم المتقمص لدور الأب، المترفع عن القمع المباشر، والمفوض لسلطة ممارسة القمع في الثقافة والفنون لبعض مثقفيه/موظفيه، يغيب، تاركًا بعض تفاصيله التي سيرددها كثيرون بعده. لم ينقذ عبد الناصر توفيق صالح من المنفى مثلما أنقذ يوسف شاهين، الذي سيحكي كثيرًا كيف أن عبد الناصر أرسل إليه مع محمد حسنين هيكل والوزير ثروت عكاشة دعوة للعودة من منفاه الاختياري، الذي لجأ إليه هربًا مما أسماه بالبيروقراطية.

موضوعنا هنا تحديدًا هو فكرة "اللعنة" والمنفى، والحظوظ المتباينة للنجاة منهما بناء على السمات الشخصية، ومفارقة أن اثنين من أهم المخرجين عبر التاريخ الطويل للسينما المصرية، توفيق صالح ويوسف شاهين، ولدا في العام نفسه، 1926، ودرسا في المدرسة ذاتها، فيكتوريا كوليدج بالإسكندرية، واضُطرا لمغادرة البلاد خلال فترة ما من حياتهما، وإن اختلفت ظروف المنفى الاختياري أو الإجباري لكل منهما. الأول إلى سوريا ثم العراق خلال أكثر من عشر سنوات بداية من 1970 وصولًا لبدايات الثمانينيات، والثاني إلى لبنان بين 1964 و1966.

اللقاء

غير لقاءاتهما الشخصية التي لا نعرف عنها شيئًا، كان للاثنين لقاءات معلنة محملة بالمعاني. فتوفيق صالح يظهر في فيلم يوسف شاهين إسكندرية كمان وكمان (1989)، ليلعب دوره الحقيقي في الحياة كمخرج، وباسمه الحقيقي، بالرغم من أنه يحمل في السيناريو اسم "كامل". بينما يلعب شاهين دوره كـ"يحيي الإسكندراني".

يشارك كلاهما في إضراب واعتصام السينمائيين المصريين المعروف بـحركة جموع الفنانين (1987). ويحرص شاهين على تقديم توفيق صالح في الفيلم باعتباره الأقرب إليه من بين المعتصمين والسينمائيين، يتفقان في الآراء، ويتحدثان باللسان نفسه فيما يخص السياسة والموقف العام.

قبل ذلك بأعوام طويلة، أثناء غياب شاهين عن مصر بعد فيلمه فجر يوم جديد، نظمت مجلة الكواكب في مارس/آذار 1965، ندوة لمناقشته. ودعت إليها بعضًا من فريقه، وعددًا من النقاد والمفكرين من بينهم يوسف فرنسيس، محمود أمين العالم، رجاء النقاش، وأيضًا توفيق صالح. اتفق الحاضرون من غير فريق الفيلم على عدم الإعجاب به، والهجوم عليه وعلى مخرجه بطرق مختلفة ولأسباب مختلفة. ليصبح الوحيد المدافع عنه من خارج صانعيه هو توفيق صالح.

ففي مواجهة وصفه بأنه فيلم فاشل، يطرح تساؤلًا عن كيف يكون فاشلًا إذا كان بعض الحضور قد فهموا موضوعه! وكيف يصفونه بالغموض إن كانوا فهموا مقصده! ويضيف "الفيلم ده محاولة جادة لعمل فن تشكيلي في السينما، والحاجة القيمة في الفيلم أن المخرج حاول استخدام الحركة واللون للتعبير التشكيلي في السينما. وأنا أتمنى أن تتاح لي فرصة أن أعمل حاجة زي دي". حسبما قال في الندوة التي نظمتها ونشرت وقائعها المجلة.

إعجاب توفيق صالح بسينما يوسف شاهين، والتعبير عن ذلك الإعجاب علانية، فيما يبدو على غير عادته في التعبير العلني عن الإعجاب، يتكرر خلال رحلة المنفى حين يصف شاهين، بمناسبة فيلم الاختيار، بأنه أفضل مخرجي السينما في مصر حاليًا، والوحيد القادر على تطوير نفسه من فيلم لآخر.

أتذكر لقاءً في التليفزيون المصري مع يوسف شاهين في مطار القاهرة، عائدًا من مهرجان كان عام 1997 بعد فوزه بالسعفة الذهبية التكريمية. سألته المحاورة سؤالًا غير معتاد، مَن مِن المخرجين يود أن يشاهد له فيلمًا جديدًا؟ أتذكر جيدًا إجابته، قال: توفيق صالح، مضيفًا أن جيلهما تعلم من صالح صناعة الفيلم السياسي.

لكن المثير للانتباه أن شاهين قدم دعوة على الهواء مباشرة لتوفيق صالح كي يعود للعمل، وأن يتشاركا في إخراج فيلم، وإن لم يتمكنا من استكماله بسبب تقدم أعمارهما، فليستكمله خالد يوسف، الواقف لحظتها خلف شاهين.

أخرج شاهين بعد ذلك اللقاء، وبمفرده، ثلاثة أفلام قصيرة، وثلاثة طويلة، هي الآخر، وسكوت ح نصور، وإسكندرية نيويورك، واشترك مع خالد يوسف في إخراج هي فوضي قبل وفاته في 2008. بينما لم يقدم توفيق صالح أي فيلم منذ عودته من العراق بداية الثمانينيات، وحتى وفاته في 2013.

اللعنة تطل برأسها

لا نعرف لماذا لم ينتج شاهين فيلمًا لتوفيق صالح بينما كان ينتج لآخرين. لكننا نعرف عن هذه الاتهامات التي لاحقت صالح في الصحافة من حين لآخر، أنه مخرج كسول وغير راغب في العمل. وكأنها استمرارية للعنة صلاح أبو سيف التي تحدثت عنها في المقال السابق، بل استعادة لشبح هذه اللعنة نفسها، مثل المقال الطويل الذي كتبه الناقد إبراهيم العريس في جريدة الحياة، عام 2007 على ما أذكر، وبدا كتشهير بتوفيق صالح دون مناسبة، مكررًا الاتهامات نفسها، وفنده المخرج في عدد لاحق، موضحًا أن كثير مما يقوله إبراهيم العريس مختلق تمامًا.

استعادة الشبح كانت دقيقة في هذه الحالة، فبينما يقوم صلاح أبو سيف بالتشهير بتوفيق صالح بأنه لا يرغب في العمل، ولا يكتب شيئًا من السيناريو الجديد الذي طلب كتابته لـ"بين القصرين"، وأنه يؤخر إنتاج القطاع العام السينمائي، كان توفيق صالح يعرض أمام مجموعة الوسطاء بينه وبين أبو سيف تتابع الفيلم ومشاهد كاملة منه، بمساعدة ثلاثة من طلاب معهد السينما آنذاك، رفض أبو سيف أن يمنح كل منهم مكافأة عشرة جنيهات نظير عملهم.

خطأ شاهين هو تصوره أنه اكتسب حقًا في النقد نتيجة المكانة التي حققها بفيلم "الناصر صلاح الدين"

تتوالى خطابات توفيق صالح لسمير فريد، وتُنشر لاحقًا في كتاب، بينما لا تُنشر الخطابات التي وجهها الناقد له لسبب غير معلوم. لكنها خطابات تستمر لسنين، يحكي فيها صالح عن معاناته بين دمشق وبغداد، عن ذلك الفيلم الذي كان يُعده مع سعد الله ونوس وتوقف لأسباب سياسية، عن تعنت الموظفين والسياسيين وبالاسم، وعن حاجته الشديدة للمال، والأهم، عن عمله لفيلم "المخدوعون"، دون أن يدرك المسؤولون عن قطاع السينما السورية قيمته إلا بالصدفة، بل نيتهم ألّا يعرضوه لتصورهم أنه فيلم رديء، وصولًا للحظة أن يُطلب الفيلم من مهرجاني كان وقرطاج، فيكتسب أهميته لديهم.

من الصعوبة حصر أسباب خروج توفيق صالح من مصر، أو "الطرد بشكل مؤدب"، في مشاكل "المتمردون" أو مشاكل أفلام أخرى، لأنها تمتد إلى نوع السينما التي كان يريد تقديمها، والتي يسميها شاهين بالسينما السياسية، بكل المؤشرات الكثيرة في تاريخ الفترة الناصرية، وبعدها، أن السلطة وموظفيها المخلصين لم يكونوا على استعداد للسماح بها، وإن أكد علي أبو شادي العكس، مثلما أشرت في المقال السابق.

يختار توفيق صالح سوريا وبعدها العراق. وهو اختيار غير موفق غالبًا، فحين يقرر الفنان أو المثقف الخروج للمنفى المؤقت، وبشكل مُعلن، ليس عليه أن يختار بلدانًا تحكمها أنظمة على خصومة مع نظامه، إن أراد العمل بعد عودته من المنفى.

لا يقع يوسف شاهين في ذلك الخطأ، يذهب إلى لبنان حين كان يُروج له كسويسرا الشرق، وغالبًا دون إشهار الرحيل باعتباره منفى. فبينما يقدم في بيروت فيلمه فجر يوم جديد، يتلقى دعوة من الأخوين رحباني لعمل أول فيلم تقوم ببطولته فيروز. فتكون النتيجة بياع الخواتم، عن المسرحية التي تحمل الاسم نفسه؛ فيلم ينتسب لعالم الرحابنة، أكثر من انتسابه لعالم يوسف شاهين.

لم يكن شاهين أيامها ممن يتورطون في الأحاديث الواضحة مثل توفيق صالح. وإن تورط فيها تجنب ذكر الأسماء، واكتفى بإشهار ضيقه من البيروقراطية، قبل أن يهاجم سياسات السادات صراحة في نهايات السبعينيات. على عكس الوضوح الذي انتهجه توفيق صالح في حالة صلاح أبو سيف، وفي حالة خطاباته لسمير فريد المتمتع بعلاقات وثيقة مع كثيرين ممن ترد أسمائهم في تلك الخطابات، التي توقفت بانقطاع العلاقة بينهما نهائيًا.

إن كان خطأ توفيق صالح هو الصدامية والوضوح وذكر الأسماء، الذي لا يقع فيه شاهين بسبب دهاءه وحرصه ومهارته في التعامل مع السوق، فسيكون خطأ شاهين المفترض، هو تصوره أنه اكتسب حقًا في النقد وطرح الأسئلة نتيجة المكانة التي حققها بفيلم الناصر صلاح الدين. وربما لهذا اختلفت مصائرهما.

سؤال مغادرة شاهين لا يحتاج لكثير من التخمينات، يتضح من متابعة وقراءة تاريخه، فبعد الناصر صلاح الدين ينفذ فيلم فجر يوم جديد، متحدثًا عن ديمقراطية غائبة، ومجتمع منقسم، وطبقات قديمة لم تختف، وعن سيطرة المنتسبين للنظام القديم على الصحافة، بالتوازي مع ضيقه من الدولة والسوفييت، خلال بداية تصويره لتحويل مجري النهر في سياق مشروع السد العالي (1964)، كجزء من مشروع "غدًا تبدأ الحياة"، الذي سيتحول إلى فيلمين، الأول النيل والحياة الذي سُيرفض من جهتي الإنتاج، والثاني الناس والنيل الذي لن يرضيهم ولن يرضي شاهين، وهما الفيلمان اللذان سيستكملهما بعد عودته.

صورة الزعيم

لنتوقف سريعًا أمام صورة الأب/الزعيم في فيلمين من أفلام مخرجي فيكتوريا كوليدج، والاختلاف بينهما؛ في الناصر صلاح الدين نجد صلاح الدين الأيوبي معادلًا دراميًا لناصر، موحد العرب، أكثر العرب نبلًا، وسينتصر بفضل دهاءه وتخطيطه. لكن الزعيم، أو الأب، هو الدكتور عزيز في المتمردون لتوفيق صالح، صاحب النوايا الطيبة، المتمرد، لكنه يفتقد للبوصلة السياسية الصحيحة، للمشروع الواضح، لضروريات بناء مجتمع جديد، وحتى من قبل هزيمته المدوية يوم 5 يونيو/حزيران 1967.

أشرت في المقال السابق للخلاف بين صلاح أبو سيف وتوفيق صالح بسبب مشروع فيلم بين القصرين بدايات الستينيات، الذي كان غالبًا العثرة الأولي المحددة للكثير من مسار توفيق صالح اللاحق. اللعنة لم تزل، بل أضيفت إليها مفارقة جديدة؛ فبعد عودته من العراق مطرودًا، ظل صالح مدانًا في بعض الأوساط لإخراجه فيلم الأيام الطويلة في العراق، عن فترة من حياة صدام حسين، بعد عشرة أعوام يطارد فيها أي احتمالية لإخراج فيلم جديد.

بينما لم تدن نفس الأوساط صلاح أبو سيف، غزير الانتاج، لإخراجه لنفس النظام، وبعد توفيق صالح بسنة، فيلم القادسية (1981)، كدعاية لحرب النظام العراقي ضد إيران في بدايتها، وتصويرها كحرب حتمية وضرورية. والفيلمان من إنتاج نفس الجهة، مؤسسة السينما العراقية.