تصميم: أحمد بلال- المنصة
هشام سليم

إبراهيم المدبولي: الحالم بالقمر والناجي الوحيد من المجزرة

منشور الثلاثاء 27 سبتمبر 2022

في سبتمبر/ أيلول 2018 حكى لي الصحفي والمفكر الراحل هاني شكر الله، بينما ندخل بصحبة عايدة الكاشف لقاعة السينما لمشاهدة النسخة المرممة من فيلم عودة الابن الضال (1976)، عن المرة الأولى التي شاهده فيها في مكتب يوسف شاهين قبل أن ينتهي العمل على النسخة النهائية من شريط الصوت. استدعى شاهين عبر يسري نصر الله بعضًا من قيادات الحركة الطلابية اليسارية في السبعينيات، كي يكونوا أول مشاهدي فيلمه، وليستمع لآرائهم.

بحكاية هاني تلك، تحققت لحظة سحرية قصيرة بالتقاء عدة أجيال في منطقة متخيلة؛ يوسف شاهين وصلاح جاهين مثقفا جيل الخمسينيات وصانعا الفيلم، وهاني المنتمي لجيل السبعينيات، وأنا المنتمي لجيل التسعينيات، وعايدة الكاشف التي تنتمي لحقبة الألفين، فيما كان أبوها رضوان الكاشف، طالب الفلسفة والمخرج السينمائي لاحقًا، من ضمن هؤلاء الطلاب الحاضرين للعرض في مكتب شاهين.

تقع هزيمة 1967 وينهار مشروع التنمية والاستقلال، فيصاب جيل شاهين وجاهين بصدمة، فهو الجيل الذي آمن بالمشروع وخدمه بإخلاص ثقافيًا ودعائيًا، فيكتشفون فجأة أنهم خُدعوا. يدخل صلاح جاهين في اكتئابه الطويل، ويكتب أعذب قصائده وأكثرها حزنًا. ويفتتح يوسف شاهين مرحلة جديدة من مساره السينمائي الطويل، مرحلة المخرج المجروح والغاضب والباحث عن طرق جديدة للتعبير عما يشغله ويغضبه. فيقدم عددًا من الأفلام القصيرة، وبعض الأفلام الطويلة، بالترتيب الأرض (1969)، الاختيار (1970)، العصفور (1972)، وينهيها بـ عودة الابن الضال (1976)، قبل أن يدخل مع إسكندرية ليه..؟! (1978) المرحلة الذاتية المباشرة.

يتحول موضوع علاقة المثقف بالسلطة لهَمٍّ أساسيٍّ من هموم شاهين في مرحلة الغضب، فنجد في الأفلام الأربعة تنويعات على تلك العلاقة وإشكالياتها، ويكون من الطبيعي أن يختتمها باجتماعه مع صلاح جاهين لكتابة قصة وسيناريو عودة الابن الضال، وأن يضعا ذاتهما، كمثقفين متمردين آمنا بحلم مشترك، وشاهدا انهياره، في شخصية "علي" (أحمد محرز). بينما يتجسد جيل هاني شكر الله وطلاب السبعينيات رمزيًا في شخصية إبراهيم، المتمرد الجديد، الحالم بالسفر والصعود للقمر، وأن يكون عالم فضاء.

لم يهتم شاهين في تقديري بأن يتأمل طلاب الجامعة شخصية "علي" المهزوم في الفيلم، فهم يعرفون النموذج في الواقع، بل سعى إلى أن يتأملوا أنفسهم مجسدين في شخصيتي إبراهيم وتفيدة، أن يتماهوا معهما، وأن يلتفتوا لكيف يقتلون الأب رمزيًا، ويواجهون السلطة ثقافيًا وسياسيًا على الشاشة.

حضور الطلاب لعرض خاص للفيلم في مكتب مخرجه لم يكن التحية الأولى التي يوجهها شاهين لهم، سبقها اختياره لأغنية "مصر يا مه يا بهية"، للشيخ إمام عيسى وأحمد فؤاد نجم، كأغنية أساسية لفيلم "العصفور"، في الوقت الذي كان فيه الثنائي الغنائي صوت الحركة الطلابية الأبرز، وكانت التحية الثالثة أن يكون إبراهيم محورًا للفيلم.

الشاب إبراهيم الذي يجسده هشام سليم ليس البطل الأوحد، يتجنب البناء الدرامي فكرة البطل الفرد، له أبطال متعددون هو أحدهم، لكنه الشخصية المحور التي يلتقي عندها صراع جميع الأطراف الأخرى. فهو الحلم، المستقبل، والوحيد الذي لم يتلوث من عائلة توصف بأنها "عيلة معفنة ريحتها فاحت"، والناجي الوحيد من مجزرتها التدميرية الأخيرة.

يعلم شاهين أن بين يديه ممثل شاب موهوب، وسيم، يملك كاريزما، فيقدمه على التيترات الأولى باعتباره "وجه المستقبل"، كعادته في الاحتفاء بكل ممثل جديد يتوقع له النجاح والصعود. يعرف المتفرجون هشام سليم طفلًا في فيلم إمبراطورية ميم قبل عودة الابن الضال. لكنه طفل من بين كثيرين، ولأنه طفل لا نعرف إن كان سيصبح ممثلًا موهوبًا أم لا. لكن هشام سليم في فيلم شاهين لم يعد ذلك الطفل، كبر ليصبح هذا الشاب المتمرد، الُمحب، البريء، الرومانسي، الأقرب لعائلة حبيبته المتواضعة من عائلته الغنية، الحالم بالصعود للقمر، ليحقق ما عجزت عن تحقيقه الأجيال الأقدم.

أغنية مفترق الطريق


يُنتج عودة الابن الضال، الذي يمكننا اعتباره قراءة يوسف شاهين وصلاح جاهين الأوضح لإخفاقهما، وللنهاية المأساوية لزمنهما، في وقت التحولات الساداتية الكبرى؛ خلال مرحلة تكريس الهزيمة والانفتاح وبداية القرب المصري الرسمي من إسرائيل. وتدور أحداثه خلال الأسابيع القليلة التي سبقت وتلت موت عبد الناصر، أي بالتزامن مع اللحظة التاريخية التي مهدت للخراب الساداتي اللاحق.

يخرج علي من السجن ليجد نفسه في جنازة الزعيم. كان يتصور أن الرئيس سيستدعيه كي يستمع إليه ساعة من الزمن، كان يرسل إليه خطابات من سجنه، مثلما فعل في الحقيقة مثقفون آخرون، متصورين أن ناصر زميلهم، وأن هناك سوء تفاهم ممكن حله. لكنه خرج ليجده مات، فيخرج كمثقف ينتمي لحقبتي الخمسينيات والستينيات من عزلته/ سجنه، يتحرر جزئيًا من علاقة التبعية التي ربطته بالسلطة، يعود إلى ناسه الذين وعدهم قبل اثني عشر سنة أن يحضر إليهم لبن العصفور. لكنه يعود خائبًا ومهزومًا، لا يعرف هؤلاء الجدد؛ إبراهيم وتفيدة رمزي الجيل الجديد، وعلاقته بالعمال أصدقائه، المفترض انتمائه السابق لهم، تحولت لعلاقة فاترة.

ما زال علي متمردًا بدرجة ما على أهله، وعلى أبيه مثقف ما قبل عبد الناصر، لكنه يحاول التصالح والتعايش معهم، ومع هذا الطرف الآخر، العدو في المنزل؛ طلبة، الذي كان طالبًا في الكلية الحربية، رمز بواقي السلطة العسكرية، ومغتصب حبيبته القديمة فاطمة.

في لحظة التعقيد والتحول منتصف السبعينيات يظهر ذلك الوجه الجديد هشام سليم. يملك مقومات النجومية، بانتمائه لاسم صالح سليم، وبموهبته، والكاريزما والوسامة السابق الإشارة إليهما. لكن الأهم أنه يظهر ببطاقة تقديم مخرج مثل شاهين في فيلم من أهم أفلامه، وفي شخصية شكلت بعض ملامح الصورة الذهنية المتخيلة التي نحتفظ بها عنه، وأهمها النبل والترفع وبأنه يشبهنا، حتى في اندفاعاتنا.

يختفي لسنوات، ليعود في منتصف الثمانينيات بعد أن تغير الزمن، وتغيرت المتطلبات الجسدية والنفسية للنجم، وتغيرت أيضًا السينما. يعود بأدوار ثانية في أفلام كثيرة لن نتذكر أسماءها، وربما لن نتذكر إن كنا شاهدناها أصلًا أم لًا. لكنه خلال تلك الرحلة، يتاح له أحيانًا أن يقدم بعضًا من ملامح إبراهيم القديم، سواءً في السينما أو في التليفزيون.

في مسلسل الراية البيضا هو هشام أنيس، أحد أقرب الشخصيات من الدكتور مفيد أبو الغار، وأحد أهم المدافعين عن الفيلا في مواجهة الفساد والابتذال.

وفي ليالي الحلمية يسافر في الرحلة العكسية لأخيه علي. فعلي يبدأ كمراهق ملتزم، متمسك بالقيم والأخلاقيات، طيب وجدع وابن نموذجي للحارة "العكاشية" الطيبة والدافئة. بينما عادل هو المراهق الذي ينتمي إلى أمه نازك السلحدار، غني ومستهتر. لكنه يتحول، يذهب في الرحلة العكسية لعلي. يتحول ذلك الأخير، بسبب صدماته وسجنه، إلى رجل أعمال فاسد، يقترب عادل لملامحنا أكثر فأكثر. يمتلك النبل والتفهم والهدوء، يرتبط بسيدة فلسطينية على خلفية الانتفاضة الأولى، ويتقبل بتحضر تعقيدات علاقتهما، ولا يتخلى عن صورة "المثقف العادي".

وهشام سليم هو أيضًا رمز المستقبل، وإن كان في دور شديد الصغر في فيلم لاحق لشاهين. ففي إسكندرية كمان وكمان (1989)، يقدم هو ويسرا شخصيتي الممثلين الشابين، شديدي الحماس في اعتصام نقابة السينمائيين دفاعًا عن الديمقراطية، وعن مستقبلهما، وعن الصناعة التي كانت تنهار وقتها.

بالعودة إلى تلك اللحظة السحرية في عام 2018، هاني شكر الله الكهل، وقبل وفاته بشهور، لم يعد يرى نفسه في إبراهيم، من المرجح أن يكون رأى إبراهيم مجسدًا في نماذج أخرى معنا في قاعة العرض، أولئك الشباب والشابات الكثيرين المرددين لكلمات أوبريت الشارع لنا بصوت عال داخل القاعة، بينما الشارع في الخارج ملك لعربات الشرطة والجيش. فشخصية إبراهيم تحولت مع الزمن لرمز لكل المنتمين للأجيال الجديدة الحالمين بالحرية والانطلاق.

خلال الحوار الذي أعقب عرض الفيلم وقف هاني ليتحدث، وليذكرنا بأن صلاح جاهين بعث لأصدقائه من الشيوعيين المسجونين مطلع الستينيات في السجون الناصرية قصيدة غنوة برمهات "ملعون في كل كتاب يا داء السكوت.. ملعون في كل كتاب يا داء الخرس.. الصمت قضبان منسوجين عنكبوت.. يتشندلوا الخيالة فيه بالفرس".

كان هاني تصالح غالبًا في تلك اللحظة مع إخفاق جيل اليساريين السابق لجيله، وتبعية بعضهم لعبد الناصر، وتصديق البعض الآخر للمشروع المنهار والتصاقهم به بعد خروجهم من السجن، وسكوتهم على تهميش وعقاب زملائهم المتمسكين برفض النظام وباستقلاليتهم عنه. وكان تصالحًا مع فشل جيله هو؛ جيل الحركة اليسارية السبعينية، في الصعود للقمر.

وكان إبراهيم طلبة المدبولي، أو هشام سليم، الناجي الوحيد من المذبحة؛ تصالح بدوره، فيما يبدو، مع هزيمته، مع حقيقة أنه لن يصبح نجمًا سينمائيًا، لم ولن يصعد للقمر، فاكتفى بأدوار فيما هو متاح، بشرط ألا تُسقطه في مطب الابتذال والمواقف الملتبسة.

اكتفى بمحاولة الاستمرار، وقوفًا في الظل بعيدًا عن الأضواء اللامعة، إن تركوه. بينما جيل عايدة الكاشف وجيلي، وأجيال أخرى، كنا نحاول ساعتها التصالح مع الهزيمة، وأن نتصالح مع حقيقة أننا أبناء كل المهزومين السابقين، ورثتهم في ذلك التماهي مع إبراهيم، وتصورنا يومًا أننا أكثر شطارة منهم وسنهزم "طلبة المدبولي" ونصعد للقمر.

لم تتحقق نبوءة يوسف شاهين لهشام سليم بأن يصبح وجه المستقبل بالمعني السينمائي أو التجاري، أن يصبح نجمًا. لكنه تحول لنجم من نوع آخر، أصبح الممثل الذي نحبه ونحترمه ويشعرنا بالثقة والراحة، وحين نراه نشعر أنه يشبهنا. وفي لحظة رحيله نحزن بمثل صدقه حين يحزن، ونستعيد نبل وأحلام إبراهيم المدبولي، واستقامة عادل البدري، وكأن الشخصيتان التحمتا به للأبد.

تأتي آخر جملة حوار نسمعها في فيلم عودة الابن الضال على لسان الجد محمد المدبولي (محمود المليجي) "ماتبصش وراك يا إبراهيم.. إنسانا.. روح". يتوقف إبراهيم وتفيدة عن النظر للوراء، للجد المجروح، وللمجزرة، وللانهيار. يقفان فوق عربة اللوري، يوجهان نظراتهما لفجر يوم جديد. بينما يعيد الأراجوز/ الراوي، مع هذا الأراجوز الطفل، وريثه واستمراريته، الحدوتة. لا نعرف إن كانت إعادة لنفس المأساة، أم ستكون حكاية جديدة بها بعض الفرح والتحقق.