بعد ثلاثة عقود من العمل السينمائي المكثف وصولًا للحظة عرض إسكندرية.. ليه؟ عام 1978، كان من المعتاد أن تثير بعض أفلام يوسف شاهين ضجة أو رفضًا أو مشاكل رقابية، وهو ما أوقعه في أزمات ومنعطفات حادة، دفعته، ضمن عوامل أخرى، لتأسيس شركته الخاصة؛ "أفلام مصر العالمية - يوسف شاهين وشركاه"، ولطريق الإنتاج المشترك مع الجزائر، أول السبعينيات.
لا نعرف هل توقع شاهين أن يُثير فيلمه الجديد كل ما أثاره من ضجيج وحملات رافضة، لدرجة المطالبة بمنعه عربيًا، تحت يافطة اتهام فضفاضة بالترويج لمبادرة السادات للصلح والتطبيع مع إسرائيل، لكننا نعلم أن رد فعله في الدفاع عن "إسكندرية.. ليه؟" جاء سريعًا.
التسامح المرفوض
يؤسس شاهين منذ اللقطات الأولى لفيلمه لما سيطوره خلاله؛ التناقض بين عالمين خلال النصف الأول من الأربعينيات؛ عالم الإسكندرية بألوانها الزاهية وبحرها وأهلها وزوارها، وعالم آخر يحيط بها ويهددها كمدينة للتعايش والتسامح، يحضر بمادة أرشيفية بالأبيض والأسود، لنزاعات العالم وحروبه وخرابه وعنفه العنصري.
تحدثت في مقالين سابقين عن رؤية شاهين وغيره للإسكندرية. لكن ما يعنيني هنا فلسطين كما حضرت في فيلمه، وفي الضجيج الذي أعقب عرضه الافتتاحي في مهرجان قرطاج بتونس، والأصوات التي اعتبرت أن الوقت غير ملائم لمثل هذه الأفلام. ففي عالم عربي يمتاز بالصراع والصخب، لا يجوز الحديث عن التسامح.
يحكي "إسكندرية.. ليه؟" عن مدينة تتعايش فيها شخصيات من إثنيات وثقافات ومذاهب مختلفة، من بينها اليهود، الذين سبب ظهورهم قدرًا لا بأس به من الضجيج حول الفيلم، وكان من ضمن العوامل التي جعلت جهات سياسية وسلطوية عربية تهاجمه وتخشاه وتمنعه، وإن لم تصرح بعضها بوضوح بأسباب قلقها الحقيقي منه.
بعد عرضه الافتتاحي، تتصاعد سريعًا حملة ضد شاهين وفيلمه(1)، وتمنعه سوريا والعراق، السوقان الأساسيان اللتان يعتمد عليهما شاهين بعد السوق المصرية لتسويق أفلامه والاستمرار في الإنتاج. وإن كان العراق اشتراه، لكنه لم يُعرض فيه، ولم يدفع مقابل حقوقه. وتسحب الجزائر، المنتج المشترك بنصف ميزانية الفيلم، اسمها من على التترات خلال هذه الضجة، وتتوقف علاقة الشراكة مع شاهين بعدها(2).
لكن بقية القصة المثيرة هي دخول شاهين بنشاط في حملة صحفية مضادة للدفاع عن فيلمه سياسيًا، وليس فنيًا، واستعانته بالثورة الفلسطينية في بيروت لإنقاذ فيلمه وسمعته ومساره في لحظة تهديد حقيقي، وكأنه يقول للفلسطينيين "هذا الفيلم يخصكم".
لا وجود لمعسكرات عقائدية ثابتة في "إسكندرية.. ليه؟"، بينما كان العالم العربي وقت عرض الفيلم متصارعًا ومقسمًا لمعسكرات متواجهة، مطلوب أن تكون الخطوط الفاصلة بينها واضحة لا يتم تجاوزها. ليصبح غياب هذه الحدود الفاصلة، سينمائيًا، سببًا يجعل الفيلم غير مريح بشكل عام. لكن "إسكندرية.. ليه؟" تضمن عدة قنابل "صغيرة" أقلقت أطرافًا متعددة، أضيفت إلى هذا السبب الفضفاض.
من بين هذه القنابل أنواع الحب الحاضرة في الفيلم. فبالإضافة لعلاقة الحب بين المصري/الشيوعي/المسلم إبراهيم/أحمد زكي والمصرية/اليهودية سارة/نجلاء فتحي، التي أقلقت كثيرين، لدرجة التعبير أحيانًا عن الاستياء من أن الرجل المسلم أسود البشرة، وكأن لون الجلد إهانة لشخص أو لهوية. هناك أيضًا علاقة الحب المثلية بين الأرستقراطي عادل/أحمد محرز والضابط البريطاني، التي يمجدها شاهين منذ تترات الفيلم بأن يعطيها عنوان "اللقاء".
لا يمكن لشاهين أبدًا أن يتجاهل الحب، سواء في الأفلام أو الحوارات، أو الرؤية السياسية. وفي معرض دفاعه عن فيلمه، يربط بطريقته بين السياسة والحب، فيقول إن "الوطنيين البرجوازيين" انزعجوا من قصة الحب المثلية، ويضيف أن هذه القصة تحديدًا "أنشودة للحب عامة، الحب بلا حدود. بلا سجون يفرضها البشر على بعضهم البعض".
أحب نجومك يا كابتن
لم تشِر الدوائر الرسمية في سوريا والعراق والجزائر صراحةً للعلاقة المثلية في سياق رفضها للفيلم، بل ركزت على ما أزعجها أكثر من أي شيء آخر؛ الصورة الهزلية الكاريكاتيرية التي قُدِّم بها الضباط الوطنيون المتعاونون مع النازية، الذين يحلمون باغتيال تشرشل، ويلجؤون للعنف الفردي في مواجهة الاحتلال البريطاني. والمفترض أن المقصود بهم مجموعة الضباط الأحرار.
رأت دوائر الحكم العربية العسكرية، التي كانت كل منها تقدم نفسها في السبعينيات كامتداد لمشروع عبد الناصر، أن سذاجة الضباط في فيلم شاهين تمسهم، وأنها بتأثير من خصمهم وقتها، السادات. ولم ينتبهوا إلى أن السادات نفسه مقدم في الفيلم في صورة غاية في الكاريكاتيرية، في شخصية الضابط التي يجسدها عبد العزيز مخيون.
بالرغم من تمجيد الفيلم لمدينة التعايش والتسامح، فإن شاهين يستدعي العنف والصراع لداخل الإسكندرية، ولا يحصره خارج حدودها في صراع الحلفاء والمحور في العلمين. يتسلل العنف للمدينة على يد الضباط المصريين، وهؤلاء الذين يصطادون الجنود في أوقات لهوهم بعنف ودموية داخل الكباريه، وخلال القصف الجوي الواقع على الإسكندرية، بينما تغني الراقصة، نعيمة الصغير، "أحب نجومك يا كابتن.. وأموت في نجومك يا كابتن.. يا كابتن.. يا كابتن.. آه يا كابتن!".
عاتب الوزير العراقي طارق عزيز يوسف شاهين لأنه أظهر شخصية يهودية تتمتع "بأستاذية" على الآخرين
لكنَّ العالم العربي في نهايات السبعينيات، بعد بداية الحرب الأهلية اللبنانية ومجزرة تل الزعتر ومبادرة السادات الأمريكية/الإسرائيلية، كان عالَم المعسكرات المتناقضة التي لا تسمح أيٌّ منها بهذا النقد أو السخرية من الكباتن/الضباط. يدفع ذلك شاهين للهجوم المضاد، فيشير لما يسميه بـ"فاشية البرجوازية العسكرية"، ويُشهِر أنه كان ناصريًا، وما زال يحب عبد الناصر، لكنه يرى أن الناصرية وزمن الخمسينيات انتهيا، ويرفض أن يحلم بمشروع ثورة ناصرية جديدة.
يقول شاهين "بعد عبد الناصر، ما هي القوة الموحدة التي تمنعنا من الاستمرار في التدهور والتفتت؟ هناك قطيعة في العالم العربي يلزمها قوة كبيرة تعيد التوحيد، ولا يبدو لي أن هناك قوة أخرى بهذا الحجم غير الثورة الفلسطينية". يستدعي بتصريحه الطرف الأضعف سلطويًا، لكنه الأقوى أخلاقيًا وتأثيرًا ثوريًا وقتها، كمواجهٍ وقائدٍ لمشروع ما، لن تُعبَّر عنه أو تقوده أنظمة سوريا والعراق أو غيرها، كما لا يمكن له أن يُصبغ بالصبغة الساداتية المعادية للفلسطينيين.
اليهودي صهيوني بالضرورة
عاتب الوزير العراقي طارق عزيز، الذي كان للمفارقة من الأقلية المسيحية، يوسف شاهين، لأنه أظهر شخصية يهودية تتمتع "بأستاذية" على الآخرين، قاصدًا شخصية القائد الشيوعي هنري سورييل، التي جسدها يوسف وهبي. يحكم عزيز ضمنيًا على الأقليات بأن عليها البقاء في الصفوف الخلفية.
إنْ كانت صورة الضباط الأحرار في الفيلم أزعجت أطرافًا متعددة، فإنَّ الأكثر إزعاجًا كان شكل العائلة اليهودية السكندريّة التي تنقسم خلال الأحداث، أو للدقة؛ تقسمها الأحداث. تهرب العائلة من الإسكندرية مع اقتراب الجيوش النازية. وبعد محطة مؤقتة في جنوب إفريقيا، يذهب الأب هنري سورييل والابن ديفيد لإسرائيل. ومن إسرائيل يذهب ديفيد، الصديق السابق ليحيى/محسن محيي الدين، الذي يجسد يوسف شاهين شابًا، لدراسة العلوم العسكرية في الولايات المتحدة ليصبح عسكريًا إسرائيليًا محترفًا.
يقبل الأب العجوز، الرافض أصلًا للعنصرية والعنف، والمنبه مبكرًا إلى أن فلسطين ستصبح أرضًا للصراعات بدلًا من أن تكون رمزًا للتعايش، بالبقاء في إسرائيل. لكن الابنة، سارة، تعود للإسكندرية بدافع الحب، ولأنها ترفض المشروع الصهيوني، لتؤكد صحة نبوءة أبيها المبكرة "النازي انتهى.. لكن في فلسطين ابتدت معارك هاتقعد 100 سنة". وطارق عزيز هنا، مثل مسؤولين عرب آخرين، عبروا صراحة عن اعتزازهم بشاهين، إلا أنهم انزعجوا من إظهار شخصيات يهودية غير صهيونية، فهذا أيضًا ليس وقته.
ربما سبَّبت شخصية هنري سورييل، واختيار شاهين لاسمها، ضيقًا لقطاعات من اليسار الشيوعي المصري والعربي، لسببين. أولهما أنه لا يوجد في تاريخ الشيوعيين المصريين قائد يهودي هاجر إلى إسرائيل أو انحاز لها. وثانيهما لأن اسم الشخصية جاء شبيهًا باسم شخصية حقيقية؛ هنري كورييل مؤسس إحدى المنظمات الشيوعية المهمة في الأربعينيات، الذي أثيرت حوله الكثير من علامات الاستفهام، وشكوك في علاقاتٍ ما ربطته بإسرائيل، حتى اغتياله في باريس سنة إنتاج الفيلم.
لم يفلح شاهين في إلغاء منع عرض الفيلم، لكن دفاعه عن الفلسطينيين وجائزة برلين منحاه شرعية الطرح
وإنْ لم يكن ذهاب سورييل لإسرائيل مريحًا لأطراف عربية كثيرة، فالفعل النقيض؛ عودة سارة للإسكندرية، لم يكن مريحًا بدوره. وهنا يبدأ شاهين في الهجوم مستعينًا بمشروع الثورة الفلسطينية، بعد أن شاهد عرفات وقيادات فلسطينية أخرى الفيلم في بيروت، وأعربوا علانية عن إعجابهم به، وعن أن إسكندرية التعايش والسلام في الأربعينيات نموذجٌ لمشروعهم، وأن الواحة التي يصورها شاهين، سواء عبر فيلمه، أو في كلامه عن مشروع الدولة العلمانية الديمقراطية، تشكل جوهر مشروع الثورة الفلسطينية.
يقول شاهين إن "'إسكندرية.. ليه؟' نافذة صغيرة مفتوحة على هذه الدولة التي يحلم بها الفلسطينيون". ويتابع في موقع آخر "موقف الثورة الفلسطينية من الفيلم يؤكد لي أنني لم أخطئ. عندما شاهدوا الفيلم لمسوا أنه يعبر عن أسس مبادئهم الثورية، هذا هو المهم بالنسبة إلي، أن يكون هناك من يعرف أن اليهودي شيء والصهيوني شيء آخر".
وبينما يميز شاهين موقف الثورة الفلسطينية الذي يتبناه، عن الخطين السائدين عربيًا في لحظة إنتاج فيلمه؛ السادات في مقابل جبهة الرفض، يؤكد على أن حظه الجيد، حسب تعبيره، يدفعه لرفض الخطين. بل يصف خط السادات بأنه "ينطلق من معطيات هزيلة جدًا وجاهلة جدًا. لا تقود إلى ما تصبو إليه الثورة الفلسطينية". لكنه لا يساوم مع الخط الآخر، خط جبهة الرفض، أو ما سُمي لاحقًا بجبهة الممانعة، فيصفها بأنها تقود للفاشية.
المدهش أن شاهين، الممجد للحب والتسامح والتعايش، يصل في نقده الصريح لجبهة الرفض، لأن يشير لتعاملها النفعي مع الثورة الفلسطينية، بناءً على مصالحها، دون دعم توجهات تلك الثورة ومشروعها الأساسي فيما يخص السلاح. فيستهجن أن تُرسل بعض الدول العربية للفلسطينيين الكلاشينكوف حين يتلاءم ذلك مع مصالح الأنظمة، أو أن يعطوها صواريخ "سام 2" بشرط أن يكون استخدامها بناء على مصالح هذه الأنظمة.
الرقابة من أجل الرقابة
لم يُسفر دفاع شاهين عن موقفه السياسي، وهجومه المضاد على أنظمة "الرفض"، وانحياز الثورة الفلسطينية لفيلمه، عن التراجع عن قرار منع الفيلم في العراق وسوريا. لكن دفاع الفلسطينيين عن الفيلم، وجائزة مهرجان برلين، منحا المخرج شرعية الطرح، وإمكانية الاستمرار في إنتاج الأفلام باستقلالية عن الدوائر الرسمية المصرية والعربية.
المثير للدهشة، وربما للضحك، أن الفيلم عُرض في لبنان، لكن بعد أن قطعت الرقابة اللبنانية أجزاءً من بعض المشاهد، وليس المشاهد كاملة، ومن ضمنها المشهد الأخير من الفيلم. ومن هنا تنبع الدهشة، فالرقيب اللبناني قطع أجزاءً من مشهد غالبًا لم يفهمه، مثل أغلب جمهور شاهين الذين لم يفهموه، لدرجة اضطرار شاهين لتفسيره لاحقًا بكلماته.
يصل يحيى الشاب في المشهد الأخير من "إسكندرية.. ليه؟" لمرفأ نيويورك، يجد على السفينة مجموعة من اليهود وهم يصلون. ينظر لتمثال الحرية، فيتحول وجه التمثال لوجه امرأة مُفزعة بأسنان محطمة، تنظر للشاب يحيى وتضحك له باستهزاء. فيفسر شاهين المشهد بأن تمثال الحرية يسخر من يحيى الذي لم يكن يدرك أن لهؤلاء الأولوية قبله في أمريكا.
هاجس الأنا والآخر في أمريكا لن يفارق شاهين في عدد من أفلامه التالية، من بينها حدوتة مصرية، الفيلم الذي ترك العمل عليه عدة أيام، ليسافر إلى لبنان ضمن وفد من الفنانين المصريين، لإشهار تضامنهم مع الثورة الفلسطينية المحاصرة في بيروت 1982، مثلما تضامنت هي معه قبلها بسنوات قليلة.
(2) هناك نسخ من الفيلم تحمل اسم الإذاعة والتليفزيون الجزائري كمشارك في الإنتاج، بينما توجد نسخ أخرى لا تحمل هذه الإشارة. ولا تشير شركة أفلام مصر العالمية على موقعها لأي مُنتِج آخر للفيلم سواها.