في الثاني عشر من مايو/آيار من عام 2018 وفي مشهد بدا وكأنه في أحد الأفلام الهوليودية الصنع اعتلت 82 امرأة من العاملات في صناعة السينما سلالم مسرح الجراند تياترلوميير الذي يحتضن فعاليات مهرجان "كان" في نسخته الـ71 في وقفة احتجاجية أعلنَّ خلالها في بيان ثنائي اللغة قرأته بالإنجليزية الممثلة كيت بلانشيت، وبالفرنسية المخرجة أنييس فاردا، رفضهن ضآلة تمثيل النساء في تلك الدورة، وطالبن بوقف التمييز وإفساح المجال لمشاركة النساء.
نظم الوقفة تكتل المساواة بين الجنسين والمعروف بـ"5050×2020"، قوامها الممثلات اللاتي عرضت أفلامهن للمرة الأولى في مسابقة المهرجان وعددهن 82 امرأة في مقابل 1688 رجًلا.
لم يقتصر التمييز ضد النساء في عدد الأفلام المشاركة في المهرجان ولكن امتد إلى رئاسة لجنة التحكيم، إذ لم تشغلها إمرأة إلا 12 مرة فقط على مدار تاريخ المهرجان الممتد لـ 71 عامًا. فيما لم تحصل، حتى عام 2020، سوى امرأتين على جائزة السعفة الذهبية هما المخرجتان جين كامبيون أنييس فاردا.
تهدف الحركة إلى تحسين مكانة المرأة في صناعة السينما
نجحت الوقفة على السجادة الحمراء حينها في أن يُصبح مهرجان كان السينمائي الدولي من أول الموّقعين على ميثاق المساواة بين الجنسين "5050×2020" في عالم السينما وصناعة الأفلام والذي صدر في أعقاب الوقفة، ليصبح ملتزمًا بأن تصل نسبة تمثيل النساء في برامجه إلى 50% في دورة المهرجان الـ73 لعام 2020.
تكتل المساواة بين الجنسين هو حركة نسوية جماعية نشأت في عالم الفن السابع، تهدف إلى تحسين مكانة المرأة في صناعة السينما، قادها في البداية معهد الفيلم السويدي، ثم اجتاحت جميع أنحاء العالم، وجذبت دعم الممثلات المشهورات عالميًا مثل كيت بلانشيت.
وجاء الإعلان الرسمي عنها خلال ندوة عقدها معهد الفيلم السويدي على هامش فعاليات الدورة الـ69 لمهرجان كان السينمائي الدولي التي انعقدت في عام 2016، وشدد المشاركون، من بينهم وزير الثقافة السويدي ونظيره الفرنسي، على ضرورة العمل من أجل تحقيق المناصفة في قطاع صناعة الأفلام.
بحلول عام 2020، تشكل تكتل ضم 600 عضو وعضوة، من العاملات والعاملين بمجال صناعة الأفلام في فرنسا. تولى أعضاؤه صياغة ميثاق المساواة بين الجنسين "5050×2020".
الأول عربيًا
في الخامس من أكتوبر (تشرين الأول) 2019 أعلنت إدارة مهرجان القاهرة السينمائي الدولي التوقيع على ميثاق المساواة بين الجنسين 5050×2020، وبموجب هذا التوقيع أصبح المهرجان ملتزمًا بدءًا من دورته الـ42، التي أُقيمت في نوفمبر/تشرين الثاني 2020، بإعلان الإحصاءات المرتبطة بنسب مشاركة النساء في فريق البرمجة، ولجنة الاختيار، كما يلتزم المهرجان أيضًا بدءًا من العام التالي بإعلان نسبة الأفلام التي تقدمت من إخراج نساء، وعدد الأفلام التي اختارها المهرجان منها.
وصرح، آنذاك، محمد حفظي المؤلف والمنتج السينمائي ورئيس مهرجان القاهرة السينمائي في هذه الدورة بأن تمكين النساء الذي تسعى إليه بنود الميثاق متحقق بالفعل، مشيرًا إلى أن النساء يمثلن النسبة الأكبر من العاملين بالهيكل الإداري للمهرجان وفريق البرمجة.
أجرت المنصة بحثًا في محاولة للوصول إلى الأرقام والإحصاءات التي يفترض أن يعلنها مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، منذ توقيعه على الوثيقة، ولكن لم نعثر على أي منها، بالمخالفة للالتزام المفروض على المهرجانات الموقعة، من بينها مهرجان LES-ARCS film festival الذي التزام بنشر الإحصاءات.
بعد الحصول على الكتيبات الخاصة بدورات المهرجان التالية لتوقعيه على الوثيقة، رصدت المنصة أعداد النساء المشاركات من الدورة 42 إلى الدورة 45 لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي، لقراءة مدى التزام المهرجان خلال الأربع سنوات بتطبيق ميثاق المساواة.
أظهرت النتائج أن نسبة الأفلام التي أخرجتها نساء على مدار النسخ 42، 43، 44، 45 على التوالي هي 25.93%، 40.21%، 33.33%، 36.20%، أي تراوحت النسبة ما بين 25% إلى 40%، ولم تحقق النسبة المطلوبة.
بينما جاءت نسبة تمثيل النساء في لجان التحكيم؛ خلال الدورات ذاتها على التوالي؛ 48%، 56%، 60% و53%، بما يحقق النسبة المطلوبة ويزيد عليها كما حدث في الدورة الـ 44.
فيما بلغت نسبة النساء المكرمات بجائزة فاتن حمامة وإنجاز العمر في الدورات الأربع؛ 33.30%، 50%، 66.70%، لتأتي الدورة الأخيرة بنسبة 0.00%، إذ لم تكرم امرأة خلالها.
مفيش تمييز أوي
يعتبر محمد حفظي المنتج ورئيس مهرجان القاهرة السينمائي السابق أن توقيع المهرجان على الوثيقة خطوة إيجابية في حد ذاتها لكنها ليست شرطًا لتحقيق الهدف النهائي، مضيفًا لـ المنصة "الهدف من الميثاق إننا نعمل توعية ونلقي الضوء شوية على تكافؤ الفرص بين الجنسين، وده هياخد وقت لحد ما يتحقق سواء على مستوى مصر أو مهرجانات العالم".
فيما ترى أمل رمسيس المخرجة السينمائية ورئيسة مهرجان القاهرة الدولي لسينما المرأة لـ المنصة أن "الميثاق يقودنا لسؤال أكبر؛ إلى أي مدى ينعكس ذلك على صناعة السينما المصرية يتجاوز تحقيق المناصفة بمنظورها الكمي إلى الكيفي، ممكن أقولك مناصفة 50*50 لكن هل فعًلا صناعة السينما في مصر تدعم وجود الستات ووجهة نظرها في التعبير عن رؤية نقدية مختلفة للواقع الذى نعيشه؟!".
رغم أن حفظي هو من وقّع الوثيقة فإنه يعتقد أن "الصورة مش سودة ولا سيئة جدًا"، شارحًا فلسفة الميثاق بأنه "يؤكد على أهمية مراعاة تكافؤ الفرص بين الرجال والنساء على مستوى لجان الاختيار وبرمجة الأفلام، وده فعلًا حققناه في لجان المشاهدة والمبرمجين ولجان التحكيم".
يقلل حفظي من الأهمية التي تعكسها ضآلة تمثيل النساء في اللجنة الاستشارية العليا التي تراوحت بين 25%-33%، يقول "مش شرط يكون فيها مناصفة بين الرجال والنساء، الأهم تمثيلهن في لجان البرمجة وفرز الأفلام". أما أمل فتؤمن أن "عشان تتحقق لازم حاجات كتيرة في المجتمع تتغير".
يرى حفظي أن مصر تحظى بعدد كبير من العاملات في صناعة السينما "يمكن أعدادهن محدودة في مجالات كالتصوير، الديكور، هندسة الصوت، ولكن في الإخراج والتأليف نسبتهن كويسة جدًا بالمقارنة ببلاد أكثر تقدمًا في صناعة السينما زي أمريكا"، نافيًا وجود تمييز "مش شايف فيه تمييز أوي ضد المرأة في صناعة السينما"، مشيرًا إلى أن الأفلام التجارية الأخيرة من إخراج نساء.
بخلاف ما ترى أمل رمسيس من أن التمييز موجود لكنه لا يصدر عن وعي "هو المجتمع مش سامح للست؛ ولا إنها تعمل سينما أو فن ولا تشتغل الشغل اللى بتحبه أو يكون لها عائد اقتصادي مساوٍ للرجل".
وتولى محمد حفظي رئاسة مهرجان القاهرة السينمائي الدولي خلال أربع دورات من الدورة الـ40 وحتى الدورة الـ43، خلفه الفنان حسين فهمي خلال نُسختي المهرجان الـ44 والماضية الـ45.
تحديات أمام النساء
يعتقد حفظي أن في مجال السينما لا صوت يعلو فوق صوت الموهبة، يوضح "بصراحة الموهبة عندي أهم من المساواة، ومع إعطاء فرصة للموهوبين سواء رجال أو نساء، لو عندي مهرجان ونسبة الأفلام المقدمة للمشاركة 80% من إخراج رجال، ما عنديش مشكلة لإنها تستحق من وجهة نظر فنية وسيقع عليها الاختيار".
وتابع "لأن أصلًا نسبة الرجال اللى بتلتحق بالدراسة في معاهد السينما أكبر من النساء المتقدمات، عمومًا الوضع مش سيء، وإحنا حاولنا كمهرجان نعمل حاجة، وأتوقع عمومًا أن النساء هياخدوا فرص كويسة ف مختلف المجالات السينمائية مستقبلًا".
فيما تفسر رئيسة مهرجان القاهرة السينمائي للمرأة قلة عدد النساء في صناعة السينما، بالأدوار المنوطة بالمرأة تقول "كمخرجة مثًلا عندي طفلين ومسؤولياتهم كبيرة، وصناعة الفيلم للأسف في بلادنا غير مجدية ماديًا، لو مش بتعملي إعلانات ومسلسلات جنبها، مين في بلدنا كستات، تقدر تدخل مغامرة لإخراج فيلم روائي طويل لمدة 4 سنين مثًلا في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة بجانب مسؤولياتك الرعائية في الحمل وتربية الأطفال، النتيجة قلة عدد المخرجات، لو اتقدم لشركة إنتاج 10 مشاريع منهم 7 لمخرجين رجال ومشروعين لستات، أكيد هيختاروا عدد أكبر من الرجال".
من موقع المرأة العاملة في الصناعة ترى أمل رمسيس أن التحديات تتضاعف أمامها، فلدينا منظومة كاملة تضهد الستات، تقول "جزء منها في شكل الإنتاج، ونوعية الأفلام التي تُدعَم على مستوى صناعة السينما للستات؛ فيه نوع أفلام منتظر مننا كستات نعملها، وسردية ونظرة لنا كمخرجات في العالم العربي، مُنتظر إننا نحكيها على مستوى مصر أو خارجها، ولو فيلمي نجح في مهرجانات بره، هينجح في مصر والناس تسقف له؟!".
"كمخرجة ست مفتوح أمامي فرص إنتاج كثيرة، لو اتكلمت في مواضيع السوق عايزها، لكن السؤال هل ده فعًلا اللي عايزة أعمله؟، في المقابل هناك مخرجات نجحوا ومعروفين بالاسم الآن، لأنهم بيقدموا أفلام تجارية بتكرس للذكورية وقمع الستات" توضح أمل وجهة نظرها.
تتفق معها رنيم العفيفي رئيسة تحرير مجلة "ولها وجوه أخرى" النسوية ومُراجعة الأفلام من منظور جندري "عايزين تمكين حقيقي للنساء في صناعة السينما عبر سياسات واضحة سواء على مستوى المهرجانات أو ضغط الحركة النسوية في اتجاة دعم وتحقيق المساواة الجندرية داخل الإطارات الثقافية".
مش لازم كوتة
فيما يتبنى عصام زكريا المدير الفني لمهرجان القاهرة السينمائي في نسخته الـ45 موقفًا محايدًا من ميثاق 50*50 "أنا لا ضده ولا معاه، لكن هو كسياسة مؤقتة لا بأس بها، عشان تخلي الناس تنتبه شوية لمسألة التمثيل الجندري"، مؤكدًا أنه يهتم بشكل شخصي بالقضية "لكن بالنسبة لي كده كده واخد بالي ومهتم بالموضوع ومن غير ميثاق أو حاجة".
يدلل على ذلك بخبرته في إدارة مهرجان الإسماعيلية للأفلام التسجيلية في الفترة من 2017- 2024، يقول لـ المنصة "كان عندنا حضور نسائي كثيف، سواء على مستوى المخرجات أو لجان التحكيم نسبة ممكن توصل لـ80 و90%، من غير قصدية ولا كوتة مفروضة من خلال سياسة".
يوضح زكريا "مكناش بنعملها بشكل مفتعل ولكن بشكل طبيعي، ننحاز في اختيارنا للأفلام، للأصوات الجديدة والمعالجات والأفكار المختلفة".
بينما يضحك زكريا على ارتفاع نسبة تمثيل النساء في لجان تحكيم النسخة الـ45 لمهرجان القاهرة التي وصلت حسب الإحصائيات التي رصدتها المنصة إلى 53%، مُعلقًا "مش مقصودة برده، محسبنهاش".
يستدرك زكريا "لازم آخد بالي طبعًا من وجود نساء على مستوى لجان التحكيم أو إخراج الأفلام، وكان من بين الأربع أفلام المصرية المشاركة في المهرجان هذا العام ثلات لمخرجات، وفاز واحد منهم "دخل الربيع يضحك" للمخرجة منى عادل بـ4 جوائز.
يُكمل "الصعود القوي للمرأة العربية في مجال السينما، بيفرض نفسه من غير افتعال، فيه حركة ونهضة وميل متزايد من قبل نِساء شابات، للعمل في السينما، ككاتبات ومخرجات ومنتجات، خاصة بعيدًا عن السينما التجارية اللي غالبية الحضور فيها الذكوري".
متفقًا مع حفظي يُحكّم زكريا الموهبة كمعيار للاختيار "مش هاخد فيلم ضعيف عشان التمثيل الجندري، لازم المخرجة التي تشارك يكون عندها كفاءة ووجهة نظر".
يتفاءل زكريا بالوضع الحالي من موقعه كمدير لمهرجان القاهرة "أعتقد الأمور هتغيير على مستوى الصناعة سواء في المهرجانات أو في السينما التجارية يمكن بصعوبة شوية، ولكن التراكم خلاص بدأ، ومش هنبقي محتاجين للوثيقة".
من جانبها تقلل رنيم العفيفي من قيمة الوثيقة تقول لـ المنصة "فلسفة الوثيقة قائمة على إنها التزام أخلاقي طوعي يعني الجهة اللي بتُلزم نفسها ولو ماحصلش مفيش إجراءات تتاخد ضدها عشان تحاسبها".
تنتقد مُراجعة الأفلام من منظور جندري، عدم اهتمام المنظمات النسوية بالاشتباك مع السينما "المشكلة مرتبطة بالحركة النسوية المصرية ومدى اهتمامها ودمجها للمنظور النسوي في تقييم الصناعة بالكامل بما فيها المهرجانات، وحماية النساء داخل المجال السينمائي وصوًلا لطريقة ظهورهن على الشاشة".
تُعلق رنيم على الأرقام الذي رصدتها المنصة عبر أربع دورات للمهرجان إنها لا تعكس رؤية أو أجندة واضحة من مهرجان القاهرة السينمائي نحو الالتزام بوثيقة 5050 "مينفعش نبص على النسب بس، والالتزام بالوثيقة وتحقيقها مرتبط بسياسات أشمل مش تسكين أرقام وخلاص".
تتساءل رنيم "هل المهرجان يُوفر مساحة حقيقية لمشاركة النساء داخل الورش والندوات والفاعليات، لتكون أصواتهن مسموعة ، أم هن موجودات فقط كتمكين شكلي لمشاركة النساء، ولكن دون إتاحة فرصة للتعبير عن أنفسهن أو يجدن أنفسهن مجبرات للتصديق على مايقوله الرجال على المنصة؟".
وكحركة مكملة لـ ME TOO، تشير رنيم إلى حملة Time's Up movement، التي تهدف لتقديم الدعم القانوني للنساء العاملات فى المجال الفني اللاتي يتعرضن للتمييز في الأجور في صناعة السينما، وتروج Time's Up لنفسها فى المهرجانات والحفلات الكبرى مثل الأوسكار وجولدن جلوب، كأداة ضغط على المسؤولين عن الصناعة.
لا تجد النسوية المهتمة بالسينما صدى لمثل هذه الأدوات في مصر، داعية الحركة النسوية للوجود بفاعلية في التظاهرات السينمائية.