السينما دوت كوم
سميحة أيوب في أحد مشاهد فيلم أرض النفاق (1968)، إخراج فطين عبد الوهاب

سميحة أيوب.. حورية البحار حبيسة المصباح

صوتها الرخيم يُصدِّر القوة والسلطة والحكمة.. وحين يريد، يكون مغناجًا ساحرًا

منشور السبت 7 يونيو 2025

في حوار تليفزيوني أجرته قبل خمس سنوات مع الإعلامي محمود سعد من داخل أروقة المسرح القومي، الذي كانت تسميه بيتها، بدت سميحة أيوب راضية عن حياتها وسعيدة. تخلو كلماتها من المرارة أو الندم حتى وهي تتحدث عن أسوأ لحظات حياتها. فمعاناتها قطرة في محيط ما قد يعانيه الكثيرون، وتردف "الحمد لله إنني عشت عصري".

تلخِّص سميحة مسيرة حياتها في كلمتين، ثم تستطرد شارحةً أنها كانت محظوظة لأنها تتلمذت على يد كبار الصنعة، وعملت معهم، وكُرِّمت من قِبَلهم. كلمتان تُذكِّران بعنوان فيلم جان لوك جودار Vivre sa vie/عاشت حياتها (1962)، رغم الفارق الهائل بين حياة نانا القصيرة، بطلة الفيلم التعيسة، وحياة سميحة أيوب المديدة، المجيدة.

بدأت سميحة أيوب التمثيل وهي ابنة 14 عامًا عام 1947، عندما ظهرت في فيلم المتشردة مع المخرج محمد عبد الجواد. تفتَّح وعيها، إذن، في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، الذي شهد النكبة ثم ثورة يوليو 1952 والعدوان الثلاثي، ثم النكسة، فانتصار أكتوبر، وكل ما جاء بعد ذلك من انهيار منتظم مستدام.

شهدت هذه العقود صعود المسرح والسينما ومجد الإذاعة وظهور التليفزيون في نهضة فنية وأدبية شاملة، قصمت ظهرها النكسة. تلاها ظهور جيل الستينيات في الأدب ثم جيل الثمانينيات في السينما والصعود الثابت للدراما التليفزيونية، مع تراجع المسرح بشكل منتظم.

كان من حظ سميحة أيوب، التي ولدت لتقف على الخشبة، أنها عاشت وتألقت في العصر الذهبي للمسرح المصري من بداية الخمسينيات وحتى منتصف السبعينيات، الفترة التي قدمت خلالها معظم وأهم أعمالها التي لم يصور معظمها أو فقدت شرائطه، ما يحتاج إلى بحثٍ للعثور على ما بقي منها وترميمه.

ومع ذلك، كثير من أعمالها المسرحية صورت، وشهدت عصر التليفزيون، بعكس أجيال المسرح التي سبقتها ولم توثق أعمالهم الكاميرا.

https://www.youtube.com/watch?v=nY1UlPddNGw

بنت من شبرا تملك العالم

وُلدَت وتربت سميحة أيوب في حي شبرا، فاكتست بروح الحي العصري، متفتح العقل متعدد الثقافات. لم تجد صعوبة كبيرة في احتراف التمثيل، الذي كان حتى سنوات قليلة سابقة مهنة سيئة السمعة. في سن الرابعة عشر احتضنتها الدولة بإدراجها في معهد التمثيل، ضمن خطة لتشجيع الفتيات على دخول مجال الفن، بفضل مكتشفها جورج أبيض وأستاذها زكي طليمات. وخصصت لها، أسوة بزميلاتها الأكبر سنًا، ستة جنيهات شهريًا.

يبدو المشهد وكأن مصر كانت تبحث عن سميحة أيوب. ربما ليس هي بالتحديد، ولكن المواهب في شتى المجالات.

احتفظت حتى نهاية حياتها بروح بنت شبرا المرحة الساخرة الصريحة، وحتى بمفرداتها القديمة الطريفة. في هذه الأحياء الشعبية والبرجوازية في آنٍ، ولدت تقريبًا معظم المواهب المصرية في شتى المجالات. كانت الطبقة الوسطى في ذروة صعودها وتشعر أن بإمكانها امتلاك العالم أو تغييره.

في حوارها مع محمود سعد تقول إن أسعد لحظات حياتها كانت "وأنا واقفة على المسرح بحس إن أنا ممتلكة العالم". ليست لحظات الحب أو الزواج أو الأطفال أو الجوائز والتكريمات، هذه ذكَرَتها لاحقًا، ولكنها شردت متذكرةً أوقات وقوفها على المسرح، ترى العيون تحدق فيها في الظلام كنجوم في سماء مظلمة، وتشعر بأنفاس الجمهور القادمة من الصالة.

على مدار ثمانية عقود، قدمت سميحة أيوب حوالي 170 مسرحية، وما يقرب من خمسين فيلمًا وأكثر من مئة مسلسل، وظلت تعمل حتى التسعين. ورغم أن هذه القدرات تنم عن شخصية قوية متفردة، لكن ليس من المستبعد أن تكون أيضًا واحدة من صفات العصر الذي عاشته.

العمل، بالنسبة لهؤلاء، هدف وليس وسيلة لأشياء أخرى. ومن يتتبع مسيرة معظم فناني جيلها يمكنه أن يلاحظ تقديسهم لقيمة العمل في حد ذاته. أما المال والإعلانات والعقارات والعلاقات فتأتي في مرتبة متأخرة، وأحيانًا متأخرة جدًا، في حياتهم.

بنت المأساة

تعرضت سميحة لتجربة شخصية بالغة السوء في بداية حياتها عندما تزوجت محسن سرحان، الذي كان ممثلًا ونجمًا معروفًا، ورجلًا شرقيًا رجعيًا. حَبَسها ومنعها من العمل، ولم تفلت منه إلا بصعوبة بالغة. لكن التجربة تركت فيها جرحًا عميقًا وعلَّمتها أن الحرية ليست منحة بل لها ثمن، وأن عليها أن تضع عملها أولوية على أي شيء آخر، وأحيانًا بشكل مبالغ فيه، حتى أدى إدمانها العمل إلى انهيار زواجها من محمود مرسي، حب حياتها الأكبر، كما يتبين في مذكراتها وحواراتها الأخيرة.

تملك سميحة أيوب صوت حورية بحر، تلك التي تنادي البحارة فيلقون بأنفسهم إلى التهلكة

المدهش بالنسبة لنا الآن، قدر الصراحة التي تتحدث بها عن حياتها الشخصية، وهي ليست وحدها بالمناسبة، فهذه، أيضًا، إحدى صفات عصرها. ويكفي أن نقرأ مذكرات يوسف وهبي أو نجيب الريحاني أو تحية كاريوكا وغيرهم من نجوم تلك الفترة، لنلمس الفارق بين براءة الصدق في اعترافات هؤلاء النجوم، ومستنقع الكذب والادعاء الذي نعيش فيه الآن.

لا أقصد أنهم كانوا ملائكة لم تعرف الشرور طريقها إليهم، ولكن كانت حياتهم أكثر شفافية. ببساطة، تروي سميحة في مذكراتها وحواراتها حتى قصص الغيرة والحسد بين زملاء المهنة، وما تعرّضت له أحيانًا من محاولات الإيذاء، وبالأسماء. وعلى عكس المتوقع، تُكسِبها هذه الصراحة مزيدًا من الإنسانية، لأنها تخلو من المرارة أو الخبث، وتحمل نبرة هادئة لامرأة اقتربت من محطتها الأخيرة ولم يعد لديها ما تخجل منه.

من سوفوكليس إلى سارتر

النقلة التي شهدها المسرح المصري مع بداية الخمسينيات، كان من سماتها الابتعاد عن النصوص الميلودرامية  المقتبسة عن الفرنسية غالبًا، وشكسبير أحيانًا، والاستعانة بالنصوص المباشرة لكلاسيكيات المسرح الإغريقي والأوروبي والحديث، من سوفوكليس وإيسخولوس إلى تشيكوف، مرورًا براسين وإبسن وحتى الكتاب المعاصرين.

من يصدق أن أسماءً مثل الفرنسي جان بول سارتر والألماني فريدريش دورينمات شاهدا أعمالهما على المسرح المصري، الذي كان يقتبس من مؤلفين كبار مثل الأمريكي تينيسي ويليامز  والإيطالي لويجي بيراندللو والألماني بيرتولت بريخت.

كان من سمات هذه الفترة أيضًا الاعتماد على المؤلفين المصريين، ليس فقط توفيق الحكيم، ولكنْ أسماء صاعدة مثل يوسف إدريس ونعمان عاشور وألفريد فرج وعبد الرحمن الشرقاوي وسعد الدين وهبة، وآخرين. وجسدت سميحة أيوب مسرحيات لكل هؤلاء، وغيرهم.

ربما يكفي أن يعيش المرء وسط هذه النصوص والأسماء كل يوم، يحفظ مقاطعها ويرددها على خشبة المسرح كل ليلة، لكي يشعر، فعلًا، أنه يمتلك العالم.

حورية البحر

أبرز ما يميز سميحة أيوب كممثلة؛ صوتها العميق الرخيم القادر، حين يريد، أن يُصدِّر القوة والسلطة والحكمة، وأن يكون، حين يريد، مغناجًا، يُصدِّر الدلال والإغراء والدلع والرقة. هذا الصوت الذي أسر المصريين في المسلسل الإذاعي "سمارة" كما لم يفعل بهم صوت آخر، ربما إلا زوزو نبيل في "ألف ليلة" وسميرة عبد العزيز في "قال الفيلسوف". بعض من هذه الفتنة نجدها في شخصية سوسو التي تؤديها في مسرحية "سكة السلامة".

تملك سميحة أيوب صوت سيرانة/siren، حورية بحر، تلك التي تنادي البحارة فيلقون بأنفسهم إلى التهلكة. من المؤكد أن جمهور المسرح كان يشعر بقوة وفتنة هذا الصوت أكثر من جمهور أي وسيط آخر.

محطات عديدة

دخَلت إلى التليفزيون من باب المسرح العالمي والسهرات الدرامية شبه المسرحية، ولكن مع التراجع الدؤوب للمسرح، خاصة الناطق بالفصحى، اتجهت إلى الدراما التليفزيونية التي صارت متنفسها، مع قليل من الأدوار السينمائية هنا وهناك.

على عكس المسرح الذي كانت تنفرد فيه بالبطولات، لم تسنح لها فرص لعب بطولات أو أدوار كبيرة في التليفزيون أو السينما إلا فيما ندر. بشكل ما، ورغم كثرة هذه الأعمال، تبدو هنا كالجني المحبوس داخل مصباح.

ومثل معظم أبناء وبنات جيلها، أدركت سميحة أيوب مبكرًا أهمية الصحافة وضرورة كسب ود الصحفيين. مدَّت جسورًا من الود و"الكرم" معهم، ما أتاح لها حضورًا دائمًا في الذاكرة والمجال العام، وتواجدًا في الأعمال التليفزيونية والسينمائية.

وبوعي أبناء وبنات جيلها، ختمت سنوات حياتها الطويلة الحافلة بالظهور في العديد من الحوارات والوثائقيات، كما لو أنها أدركت أهمية "توثيق" سرديتها ومحطات حياتها قبل الرحيل.