تصميم أحمد بلال، المنصة، 2025
السيناريست الراحل بشير الديك

بشير الديك.. للقمر وجهان أجملهما المثقف المهموم

منشور الأربعاء 22 يناير 2025

كما مات سيبويه وفي نفسه شيء من "حتى"، مات بشير الديك وفي نفسه أحلام، ومشاريع تمنى رؤيتها وتأكد له أنه لن ينجزها، منها تحويل رواية ماركيز مئة عام من العزلة إلى فيلم سينمائي. توفي الديك في 31 ديسمبر/كانون الأول 2024 عن ثمانين عامًا، ورصيد تتفاوت أهميته. لكنه حَظِي بتسامح عمومي يسقط أعمالًا تجارية من قائمة تحتفظ بوجهه المضيء، فللقمر وجهان، ولا تكتمل آدمية المبدع إلا بضعفه، واضطراره إلى أعمال لزوم تمشية الحال. هكذا يمكن استيعاب إخراج صلاح أبو سيف لفيلم وسقطت في بحر العسل، فننساه ونتذكر الفتوة وشباب امرأة والسقا مات. وكذلك نغفر لهنري بركات صاحب دعاء الكروان والحرام إخراج أفلامًا مثل العسكري شبراوي.

كلما قابلت بشير الديك منذ عام 2009، مازحته بأن بيتي كاد يحترق بسببه. اتهام لا أملك دليلًا عليه، ولن يصدقني أحد؛ فالرجل الذي قدَّم أعمالًا لها أماكن في القلب لا يشعل الحرائق، ولا طاقة له بإيذاء أحد، ويؤثِر السلامة، ويبتعد عن اللغط، ويستعلي على الصغائر، ويمتاز عن معظم السينمائيين بثقافة عميقة لا يتباهى بها، ويدعم أصدقاءه في مشاريعَ تُنسب إلى غيره، لا يعنيه حشد سيرته الذاتية بعناوين الأعمال، وإنما إنقاذ أصدقائه، وتصادف أن كان عاطف الطيب أحدهم. وإذا كان لجيل الثمانينيات الذي اصطُلح على تسميته بتيار الواقعية الجديدة من معلّم، فهو بشير، كاتب الأفلام المهمة خصوصًا للطيب ومحمد خان.

العضوي والمحترف

فارس يحرز آخر وأجمل أهدافه، مشهد النهاية من فيلم الحريف (1983)، إخراج محمد خان

لبشير نسختان. الفنان الواعي الملتزم بالمعنى الجرامشي، والمحترف. الأول صائغ اللؤلؤ، يعمل على مهل، يصوغ حوارًا موجزًا عميقًا، مشحونًا يخلو من الترهل، يسهل تمييزه، ونسبته إلى كاتبه، أيًا كان المخرج، في أفلام منها الرغبة وموعد على العشاء وطائر على الطريق والحريف لمحمد خان، وسواق الأتوبيس وناجي العلي وضد الحكومة لعاطف الطيب، وكذلك الهروب (1991) المنسوب إلى مصطفى محرم. لم أصارحه بأنني أكاد أشعر بروح اللص والكلاب تحت جلد الهروب الذي أعاد هو كتابته. التفاصيل سجلها أحمد شوقي عبد الفتاح، في حياة مصطفى محرم، في كتاب بشير الديك جدل الواقع والحياة، بمناسبة تكريم بشير في المهرجان القومي للسينما عام 2010.

كان بشير محلًا لثقة عاطف الطيب، يسند إليه قراءة سيناريوهات أفلامه كلها. رأى بشير إعادة كتابة الهروب، وفقًا للرؤية "البشيرية"، ووافق الطيب والمنتج مدحت الشريف، على أن ينال أجره كاملًا، "وقد طلب عاطف الطيب أن يكتب على الشريط اسم بشير إلا أن الأخير رفض وحلف بالطلاق أنه لن يقبل بذلك، لأنه سمع أن مصطفى محرم زعلان". وفي قائمة أعمال بشير وضع أحمد شوقي عبد الفتاح فيلم الهروب بين فيلمي شبكة الموت وعصر القوة لنادر جلال وبطولة نادية الجندي. لم تكن الأفلام التجارية نزوة، لعلها انتحار بطيء يعكس الوجه الآخر لليأس من صناعة تضيق بمحبيها؛ ولهذا تكرر إعلانه أنه سيعتزل السينما.

لم ننتبه إلى الاضطرار كاعتراض على سوء الأحوال، واستسهلنا الإدانة. هناك من أدانوا صلاح جاهين لكتابته سيناريو وأغاني خلي بالك من زوزو. بشير كان يخطف رجله إلى نجمة الجماهير، ثم يعود إلى أرضه، وقد أمَّن ما يضمن كتابة عمل كبير عابر للأزمنة. الأفلام التجارية تُزيّت التروس؛ لإنتاج ما يبقى.

فنانٌ مثله طاقةٌ كبرى لم تستوعبها السينما. فقد أخرج فيلمي الطوفان وسكة سفر. وله أيضًا وجه ثالث، هو التمثيل، لكن حذفه المونتاج. في كتابه عن محمد خان، يقول الناقد أحمد يوسف إن في موعد على العشاء مشهدًا تقابل فيه سعاد حسني صديقتها القديمة وزوجها بشير الديك وأطفالهما. ولا وجود للمشهد في النسخة النهائية.

القضايا المصيرية تظهر معدن الفنان المثقف. في أبريل/نيسان 1999، نشر بشير في مجلة الفن السابع دراسة عنوانها "الأمير المصري وحكاية اليهود... معنا!" يفند فيها الرؤية التوراتية التي استند إليها فيلم أمير من مصر. كتابة رصينة أثبت في نهايتها قائمة مراجع تشمل ثمانية كتب وموسوعات عربية وأجنبية. تؤكد الدراسة أنه مهموم وموجوع، يحذر من "الهجمة البربرية" التي تستهدف تشويه التاريخ، ويدعو إلى التصدي لها بأفلام ذات عمق فني، وليست دعائية. وسجل أن مخرج قائمة شندلر ستيفن سبيلبرج، بحماسته لإنتاج الفيلم، ينفذ وصية أمه التي قالت في تصريح صحفي "أهديت لكم نبيًا يحمل الكاميرا في يد والتوراة في اليد الأخرى".

لم أتواصل معه بعد عرض مسلسل الملكة كليوباترا في نتفليكس؛ المنصة الأكثر انتشارًا، المنتجة لأفلام ومسلسلات ذات جاذبية عالية، وتحظى بمشاهدة كونية. كان بشير الديك يأسى على رأسماليين من رجال المال لا الأعمال، السينما بالنسبة إليهم نزوة، برستيج. وقد ينتجون عملًا أو اثنين، ثم يبحثون عن الربح في مجال آخر. السينما كصناعة لا يعيبها أن تستهدف الربح، لكن الأفلام ليست مجرد حكايات، هي نسج من أفكار ورؤى جمالية تتضافر فيها الكلمة والصوت والألوان. وقد ظل بشير يراهن على حلم إخراج فيلم الرسوم المتحركة الفارس والأميرة. طال الانتظار وتعطل الإنتاج، إلى أن شاهدنا الفيلم في مهرجان الجونة عام 2019.

رحلة في شارع فيصل

عشرون عامًا من الانتظار، والرهان على إنجاز أول فيلم رسوم متحركة عربي. ذكر الممثل عبد الرحمن أبو زهرة أنه سجل صوته في الفارس والأميرة قبل 17 سنة، ومن المشاركين بأصواتهم أمينة رزق التي توفيت عام 2003. لعل تأخر الفيلم عطّل بشير عن مشاريع أخرى. روح الفنان طفل حرون وعنيد، لا مساومة، لا شيء أو كل شيء. لم ينشغل بشير، في سنواته الأخيرة، إلا بهذا الفيلم. وحين وضعتُ الطعام على نار هادئة جدًا، في صيف 2009، لم أتخيل أن يعطلني بشير الديك. نزلت بعد منتصف الليل من الدور العاشر، لآتي بعلاج من صيدلية في أول شارع فيصل، وخرجت بسرعة لأجده أمامي.

أنهيت الكلام بشكره على مصادفة اللقاء وعلى التوصيلة وذهني منصرف إلى البوتاجاز

بعد السلام، وكل سنة وأنت طيب التي يتبادل المصريون ترديدها بدون مناسبة كلما التقوا، عرض عليّ الركوب في سيارته حتى محطة مدكور في شارع فيصل. هناك شكرته، وطلبت أن يتوقف لأكمل طريقي إلى منطقة الطوابق. قال إن كلامنا لم ينتهِ، وإنه حزين على ضياع صيحته ورجائه رجال الأعمال، عام 1999 حين عرض فيلم أمير من مصر، أن يتحمسوا لأعمال عربية تحتاج إلى منتجين مغامرين. اكتفينا بمقالات استنكار لمغالطات الفيلم، كتبها واستهلكها الرافضون للفيلم، ثم ذهبوا إلى بيوتهم مطمئنين إلى إبراء الذمة بأداء هذا الواجب. كيف نلوم المخرج اليهودي، في حين يصب الألوف من خطباء الجمعة لعناتهم على رمسيس الثاني، زاعمين أنه "فرعون الخروج"؟

أنفي تأثّر المصريين الطيبين بخطب من هذا النوع الكاره لمصر، في العادة يأتون إلى الصلاة في أوقات بينية، قبيل نهاية الخطبة ومع إقامة الصلاة. اتضح موقفهم من تاريخهم في أغسطس/آب 2006، ليلة نقل تمثال رمسيس من الميدان، ميدان رمسيس. رأيتهم يبكون لحظة تحرك التمثال في منتصف الليل، ودّعوه بما يليق بملك جعل للبلاد هيبة تعيد أمجاد تحتمس الثالث العظيم. وتابعوا رحلته إلى المنفى، حتى صباح اليوم التالي. سألني: فيلم الفارس والأميرة يتكلف مليوني دولار، هل هذا كثير؟ لم ينتظر إجابتي، وتمنيت له التوفيق، إذ وصلنا إلى الطوابق. واقترحت عليه أن أبقى في سيارته حتى أول فتحة، عند شارع "سهل حمزة".

عدنا ووصلنا إلى ناصية شارع العريش، واستعجلتُ النزول وعبور شارع فيصل، للصعود إلى الطعام الصامد فوق شعلة البوتاجاز، كأنها سبرتاية، فاستبقاني وسألني ماذا أكتب؟ شكا من افتقار الإبداع العربي إلى أعمال تضاف إلى مصاف الكلاسيكيات. قلت له إن الأدب العظيم نصيبه قليل في السينما. ضربت مثلًا برواية مئة عام من العزلة، وسألته لماذا لا يفكر في رواية وليام فوكنر الصخب والعنف القريبة من الأجواء المصرية، بعد تجربته في فيلم الرغبة عن رواية جاتسبي العظيم؟ قال إنه شاهد فيلمًا عن شخصية "بنجي" المعتوه، منتزعًا من رواية فوكنر. أما رواية ماركيز فالتصدي لها صعب، تحتاج إلى إنتاج وكاتب ومخرج من طراز خاص.

أنهيت الكلام بشكره على مصادفة اللقاء، وعلى التوصيلة، وذهني منصرف إلى البوتاجاز، وأخاف على البيت من حريق. اتفقنا على لقاء قريب، وعبرت الشارع بقفزات أسقطت الفارس والأميرة، وسبيلبرج، وسكوت فيتزجيرالد، وفوكنر، وماركيز. دفعت الباب، وأخذت نفسًا عميقًا وقد شاط الطعام، فلا عشاء الليلة، وحمدت الله الذي جنّبني الحريق. وبعد شهور اتصلت ببشير الديك، قال إنه ترك شارع فيصل. حكيت له ما جرى، وضحكنا. وفي مرضه الأخير عرضت نتفليكس مسلسل مئة عام من العزلة، ولا أظنه شاهده في مواجهة الألم، وأسرته تواجه تعنّتا من إدارة المستشفى. وودعنا فارس الجيل وفيلسوفه في اليوم الأخير من عام 2024.