هناك رقة في طريقة تناول الموت في فيلم السقا مات (1977) لصلاح أبو سيف، المأخوذ عن رواية بالاسم نفسه ليوسف السباعي، ويحكي عن المعلم شوشة السقا في قاهرة 1921، ما بعد ثورة 1919 التي نرى آثار تأييد زعيمها سعد زغلول على حوائط حي الحسينية.
ماتت آمنة زوجة المعلم شوشة منذ عشر سنوات، وله منها ابن هو سيد، الذي يساعده في عمله في إيصال المياه لبيوت الحي، بواسطة قِرَب جلد الماعز المحمولة على الظهر. من ضمن تلك البيوت السرايا الكبيرة بحديقتها التي تشبه الجنة، حيث تعرَّف على آمنة التي كانت تعمل هناك، وقامت بزراعة شجرة تمر حنة.
كان المعلم شوشة حريصًا على الشجرة، فأوكل لابنه سيد السقا الصغير ريها، فأصبحت امتدادًا لحياة الزوجة داخل حياة زوجها، وبمثابة الأم الغائبة للابن.
تحولات الكائن
تحول الموت إلى بطل من أبطال الفيلم، سواء في ذاكرة أبطاله أو في حاضرهم. تتغير النظرة إليه طوال الفيلم؛ ففي البداية يظهر في نظر المعلم شحاتة ككائن يخشاه لأنه خطف منه زوجته، ويحاول تلافيه وتلافي آثاره في حياته اليومية، إلى أن تشاء صدفة ضرورية أن يصادق المعلم شوشة، شحاتة أفندي، الحانوتي الذي يسير في الجنازات، دون أن يعرف مهنته.
يحمل شحاتة نظرة مختلفة للموت، بها جرأة المواجهة والنظر في عينيه مباشرةً دون وَجَل، كونه قريبًا منه ويتعامل معه يوميًا. فيتحول الموت في نظر المعلم شوشة، وبفضل شحاتة أفندي، إلى كائن جبان يمكن تحديه. ولكنَّ ذلك يتم بتضحية كبيرة؛ موت شحاتة أفندي نفسه.
ينتقل شحاتة أفندي، الهائم بلا بيت، للعيش في بيت المعلم شوشة، مع ابنه وحماته. يصبح شحاتة برمزيته جزءًا من روح البيت، ويتم التداخل بين الموت والحياة، ويكتمل هذا الجزء الناقص من صيرورة البيت، الذي اتسع مفهومه وأصبح يمثل الكون بشقيه: الحياة والموت. للمفارقة أيضًا، يختار الموت شحاتة أفندي، هذا الشخص الذي يتحداه، في الليلة نفسها التي حددها للقاءٍ غرامي مع مومس الحي عزيزة نوفل.
تلمح خيوط قانون ما يربط بين الأحداث، في الفيلم، والحياة، ويصنع هذه الصدف الضرورية، سواء لقاء النقيضين، شحاتة وشوشة، بالنسبة لنظرتهما للموت، وأيضًا في اختيار الموت للحظة وفاة شحاتة، الذي لا يخشاه، ويظهر كأنه متفوق عليه بجرأته هذه، التي تنهار عند حضوره.
ربما كان شحاتة أفندي متطرفًا في الاستخفاف بسلطة الموت، والمعلم شوشة كان متطرفًا أيضًا في خوفه منه. ولكن أين المكان العادل الذي نتعامل منه مع الموت؟
صديق يومي
تتبدل نظرة المعلم شوشة، بل تنقلب، بعد وفاة شحاتة. مُتلمِّسًا خطوات تجربته في الحياة، يكمل مسيرته كأحد السائرين في الجنازات، حتى يكتسب المناعة ضد الموت، وينظر في عينه كما علمه صديقه.
ولكنه لا يسير طويلًا في هذه الطريق، فهو في النهاية سقا يبيع الماء، رمز الحياة والاستمرار. وينهاه ابنه عن الاستمرار في هذه المهنة الشؤم، ويرجوه ألَّا يلبس مرة أخرى البدلة السوداء لشحاتة التي ترمز للموت. يستجيب المعلم شوشة، الذي بدأ يتلمس المكان النفسي الذي يتصالح فيه الموت مع الحياة داخله، ويتحول الموت من كائن جبان، إلى صديق يومي، غائب حاضر في الوقت نفسه.
ربما تأتي الرقة من أن الفيلم يخلو من مشاهد الموت العيني، ويكتفي بسرد ذكراه وأثره على حياة أبطاله، ليست هناك فجيعة، فموت الزوجة، وهو الحدث الرئيسي، حدث منذ زمن وما بقي هو مداواة هذا الألم ومحاولة التغلب عليه.
ثم يأتي مشهد موت شحاتة أفندي، المفاجئ والبسيط، في غرفته في بيت المعلم شوشة، ويظهر فيه كأنه نائم، ليجدد هذه الذكرى الماضية. لا يعرف شوشة بموته إلا عندما يهزه من كتفه فلا يرد عليه. نلحظ هنا هذا الحضور الاجتماعي للموت، الذي يحدث داخل البيت والحياة الجمعية، ويقف الله كطرف آخر لها.
ربما تأتي الرقة، أيضًا، من أن الرموز المستخدمة يغلب عليها الحياة والنمو لا الفناء: الماء ومهنة السقا وشجرة التمر حنة، والحياة الجماعية لأهل الحي. حتى الابن سيد كان يمثل خلود الطفولة التي لا تخاف من الموت وإن لم تدرك معناه كغياب دائم لصاحبه.
بوفاة شحاتة أفندي، يقترب الابن من مفهوم الموت، وتتجدد أيضًا ذكرى وفاة الأم، ولكنه هذه المرة يُفطم ويُودِّع الطفولة بفعل الموت الذي عايش تفاصيله. فهو لم يكن يملك سوى ذاكرة عن موت أمه، ولا غير، بجانب حزن أبيه المستمر، ويبدأ الخوف في السيطرة عليه، وينال المستقبل جزءًا من اهتمامه، لأنه يخشى موت أبيه.
ابن استثنائي
هذا الابن الاستثنائي هو أيضًا الذي يفسر العدل الإلهي بطريقته، لأنه لم يُدجَّن حياتيًا بعد، ويرى الحياة قبل أن يسود قانون القوة أو الملكية ليفصل بين الناس ويصنع الفوارق بينهم.
يبرر سيد سرقته للجوافة من السرايا بعد أن ينهاه أبوه عن هذا الفعل لأنه سرقة، وهنا أنقل من الرواية مدى فصاحة هذا الابن " أظن أن أخذ ما للغير إذا كنت في حاجة إليه أكثر منه لا تعتبر سرقة، إنها مساعدة منا لله في توزيع نعمه وإقرار العدالة". نتذكر سريعًا سعيد مهران والصحفي رؤوف علوان في اللص والكلاب.
ثقة شوشة في شحاتة تجعله يحب الموت أيضًا ويتمرن عليه وتصبح صداقتهما هي التجربة الحقيقية
أصحاب السرايا الذين لا يظهر أيُّهم طوال الفيلم لا يحتاجون إلى الجوافة. وربما ترمز السرايا نفسها للجنة الأرضية في ذاكرة الطفل، وكل ما يوجد بها متاع للجميع، قبل أن يقترف آدم الذنب ويأكل التفاحة ويطرد منها.
هل سيد هو آدم الحديث، الذي يعيد تكرار الذنب، ولكن هذه المرة يأخذ الأمر بالعصيان من القانون، وليس من الشيطان الذي وسوس لجده قديمًا؟
ربما اكتسب الابن سيد هذه البلاغة الاستثنائية كونه يمثل رمزًا أكبر منه، فهو ابن المرأة التي ماتت من أجله، والحياة التي خرجت من الموت، لذا يتحمل مسؤوليته الضمنية عن هذا الموت، وتحويله إلى حياة على يديه، كما أن بخروج آدم من الجنة تبدأ الحياة وتستمر على الأرض، فهو الذي يسقي شجرة التمر حنة ويعتني بها، ويتأملها ويناجيها، ويتحسسها، كأنه يرعى حياة أمه.
روابط يصنعها الموت
ربما تأتي الرقة أيضًا، من علاقات البنوة والتآخي التي تكونت بسبب الموت بين شحاتة وشوشة. هناك قوة ربط، وليس فصل فقط، يخلفها الموت وراءه.
يتقلد شحاتة أفندي المجرب للموت والحياة معًا، مكان الأب بالنسبة للمعلم شوشة الطفل أمام الموت، الذي لا يريد أن يفقد بكارته أمامه حتى لا يفقد حزنه على زوجته، فموت زوجته هو الذي يحميه من الموت، ويجعله يعيش في طفولة دائمة، ويدعمه بالرغم من الحزن.
ثقة شوشة في شحاتة تجعله يحب الموت أيضًا، ويتمرن عليه وتصبح صداقتهما هي التجربة الحقيقية بعد موت زوجته، بعد أن كان يعيش في حداد دائم كوقاية من مواجهته.
ليست الرقة الأوروبية
الرقة في السقا مات ليست الرقة الأوروبية في تناول الموت كما في فيلم الموت في البندقية (1971) للمخرج لوتشينو فيسكونتي عن رواية بنفس الاسم صدرت عام 1921 لتوماس مان.
يحدث الموت أمام الطبيعة، بوصفها الآخر، حيث يموت الشاعر الشيخ آشيتباخ في الرواية، الموسيقار في الفيلم، بأزمة قلبية على كرسيه أمام البحر، ويأتي موظفو الفندق ليحملوه لغرفته ميتًا.
ذهب آشيتباخ إلى فينيسيا للبعد عن الشهرة، واضطر إلى صبغ شعره الأبيض بالأسود ليبدو أكثر شبابًا. مع تصاعد الحر بدأت الصبغة السوداء تسيل على جبهته، من تحت القبعة، فهناك شيخوخة ترقد تحت جسده.
شبَّه النقاد هذا التناول للموت بشكل رمزي، كونه يعبِّر عن شيخوخة البرجوازية الألمانية، التي وفي طريقها للموت، تلبس قناعًا جماليًا بينما يصيبها العطب من الداخل.
زرياب الموسيقار الهائم
هناك أيضًا مشهد دال للموت، بطله الموسيقار الهائم زرياب في فيلم آيس كريم في جليم (1992) لخيري بشارة. يأتيه الموت على المقعد الخشبي وسط الحديقة العامة بعد لقاء غرامي، وبجواره زجاجة الخمر وحقيبة السفر، كأنه سينتقل للمكان الآخر مباشرة، بمجرد توديعه الحياة، فالموت هنا رحلة وليست نهاية.
يسلم زرياب كل ما يملك من نقود للمرأة، التي تستكثرها، لكنه لم يعد يحتاج لها. وتصعد روحه مع الموسيقى إلى حواف النخل الإفرنجي السامق وتتخلل تشابكات الشجر التي تظهر من خلفها أضواء النهار. يأتي الموت لزرياب بعد أن سدد ضريبة الحياة من المتعة، مثل شحاتة أفندي، وعلى النقيض من شوشة.
تعدل المرأة وضع جسده على المقعد الخشبي، كأنه في غفوة نوم. موت زرياب هنا به حس احتفالي بالفردانية، فالآخر الذي يعكس فَنَاء الذات هو الطبيعة، قريب من الموت المأساوي في فيلم ورواية الموت في البندقية. الموت هنا واقعة فردية، بعكس الموت في السقا مات الذي يعكس واقعة اجتماعية. الناس والمكان، ومن خلفهما الله، جميعها تضع الذات أو الفرد في معية وليس في مواجهة أو ندية، أو تحدٍّ.
الغياب والحضور يصنعان الرقة
الآخر بالنسبة للسقا مات ليس مرئيًا، كما في أشكال الموت الأخرى، لكنه حاضر، لا ملمس له أو صورة مادية يتجسد فيها، ولكنه حاضر. غياب وحضور هذا الآخر يشكلان هذه الرقة، ليست هناك وطأة مستمرة، فالفيلم سرد لمرحلة ما بعد الموت، حيث لم يبقَ من رحلة الحياة سوى خلود النفس وتناميها، فزمن فيلم السقا مات هو زمن الخلود المؤقت. المعلم شوشة أصبح قادرًا على قهر الموت، موت شحاتة الذي ابتلع موت آمنة فأصبح الموتان ذكرى بعيدة لا يريد أن ينساها، حتى لا ينسى جنته التي جاء منها، وإليها يعود.
شوشة الخائف كان أقوى من شحاتة الجريء، فالموت لا يريد إلا من يحترمه، ولا يحب من ينازعه سلطانه، حتى ولو بمجرد الرغبة. الحب والموت عادة ما يجتمعان، ولكنهما أيضًا أعداء الباطن وأصدقاء الظاهر.
أما زرياب، فماذا يأخذ الريح من البلاط، ماذا سيأخذ الموت منه؟ لم يعد هناك ما يمكن أن يمنحه له، لقد استنزف موته على التسكع، كان الموت لصيقًا بحياته من البداية مُقنَّعًا بقناع الزهد. جاء موته وسط الطبيعة شاعريًا ولكنه ليس في رقة خلود الحياة واستمراريتها في السقا مات. كنت أتخيل دومًا أن هذا الجسد الممدد على المقعد الخشبي سيتُرك هكذا في الحديقة الفارغة حتى يتعفن.
الموت يرفض أن يكون مجانيًا أو مُسلعًا أو مكانًا للحرب أو الندية، أو جزءًا منفصلًا عن الخالق. الموت في السقا مات عادل لأنه ذهب لمن تحداه، ووضع آخرَ مكانه، من سيرى قناع الصيرورة والخلود الذي يختفي وراءه، من لم يحوله بعد إلى سردية.