مؤخرًا، بتُّ أفكر كثيرًا في المستقبلية بالأدب العربي؛ وأعني بها الرواية أو القصة القصيرة التي تتصور المستقبل البعيد عقودًا أو قرونًا عن لحظتنا الحالية، وهو من أكثر أنماط الحكي رواجًا في الأدب الإنجليزي الحديث، من كلاسيكيات مثل 1984 إلى عالم جديد شجاع وفهرنهايت 451، أو حتى السلاسل الشبابية مثل ألعاب الجوع ودايفرجنت. لكن الروايات المستقبلية لا تقتصر على السرد الكابوسي الديستوبي، إنما يسعى بعضها لإعادة تخيل التاريخ، بالتالي خلق تصورات عن احتمالات مستقبل بديل ممكنة. ولعل أشهر نماذج هذا النمط في الفن المعاصر هو تيار الأفرومستقبلية/afrofuturism.
في جوهره، يسعى الأفرومستقبلية لإعادة تصور السرديات النمطية عن الجسد الأسود، ويستخدم الخيالَ العلمي والمستقبلي لاستكشاف تجربة الإنسان الإفريقي بتخيل مسارات تاريخية مغايرة لم يُختطف ويُستعبد فيها الملايين من أبناء القارة. حظي هذا التيار برواج واسع، خاصة مع النجاح المدوي لفيلم النمر الأسود (2018)، الذي يتخيل إفريقيا غير مستعمَرة، كما يتجلى ذلك في موسيقى فنانين مثل صن را وجانيل موناي، وكذلك في رواية أقرباء الشهيرة لأوكتافيا بتلر.
أما في الأدب العربي الحديث، ما زالت المستقبلية تيارًا ناشئًا بلا منتج غزير. عندما يتسلل بعض الكتاب نحوها، نجد انجرافًا ساحقًا، ومفهومًا، باتجاه الديستوبيا؛ عالم خرب مدمر ينزُّ بشاعةً في توقع منطقي لما يخبِّئه المستقبل كامتداد للحاضر.
شهدنا ذلك من يوتوبيا أحمد خالد توفيق إلى عطارد محمد ربيع أو الطابور لبسمة عبد العزيز. ومؤخرًا، المجموعة القصصية باللغة الإنجليزية مصر +100 من تحرير أحمد ناجي، وحوت قصصًا كابوسيةً عن مستقبل مصر بعد 100 عام من ثورة يناير، بأقلام بلال فضل ومحمد خير وأحمد الفخراني وغيرهم.
استمتعت للغاية بأغلب تلك الروايات وسردها المحكم، وبناء عالمها الغامق بتفاصيل دقيقة تنقلك لأحشائه بين الصفحات. مصر عزة سلطان التي باتت أكبر مُصدِّر لأعضاء المصريين في العالم حتى صار هذا تعريف سياحتها الطبية، أو مصر محمد خير التي تحول فيها الفعل الثوري إلى مقاطعة خلفة الأطفال في هذا البلد حتى بات الإقدام على فعل الأبوة أو الأمومة جرمًا مجتمعيًا يُنبذ مرتكبه، أو مصر أحمد الفخراني التي يتحول فيها الزعيم المخلص إلى إله معبود ترجف الأطراف لذكره ويُذبح الكافرون به.
لكن ما شكل مصر غير الديستوبية؟ إن شطحنا بخيالنا ورسمناها، فكيف سيكون شكل خطوطها؟
لا أحلام بعد المصلب
تحضرني كثيرًا ذكرى أحد أيام السجن في سنتي الثالثة معتقلًا سياسيًا. كنت محشورًا على فرشتي في زنزانتي بسجن وادي النطرون بين صديقيَّ أيمن وتوحة. ثلاثتنا محكومون بالسجن 15 عامًا بتهمة التجمهر، وثلاثتنا رُفض نقضنا. أي: حكمنا نهائي، بات، غير قابل للطعن عليه. لم يعد هناك مخرج في الأفق، بل سجن لا ينتهي.
"هو عم علي مش ناوي يروح ويحل المصلب بقى؟"، سألت أيمن ليلةً بعد أن انحشر ثلاثتنا للنوم على فِرَش عرض الواحدة منها 30 سنتيمترًا، بينما نتبادل نظرات الشوق نحو فرشة الرجل النائم في الزاوية مسافة زميلين عن بقعتنا.
في تلك الليلة أدركت أنني عندما تجرأت على الحلم، لم أرَ شيئًا يتجاوز المصلب
المصلب هو الفرشة التي تقبع في زاوية الزنزانة مقابل الباب، في مكان استراتيجي يحمي ساكنه من جلبة الأقدام في الزنزانة، ويمنحه حائطًا إضافيًا لتعليق شُنطَهِ أو إسناد ظهره. يحمل المصلب أعلى مكانة في الزنزانة، ويخصص للسجين الذي قضى أطول مدة فيها.
أمضيت أنا وتوحة وأيمن شهورًا نتسلق طبقات فرش الزنزانة. بدأنا بالقرب من دورة المياه، متحملين ركلات عشوائية على الوجه وفرشات مبللة من الأقدام الرطبة، ثم انتقلنا تدريجيًا إلى الجانب المقابل للباب. في النهاية، استقررنا قبل المصلب الثمين وعم علي الذي لا يرحل أبدًا. لم يكن مُرجَّحًا أن يرى عم علي، الذي حُكم عليه بالسجن المؤبد، الحرية قريبًا.
"ياااه"، تنهد أيمن ثم قال؛ "تخيل". سمحنا لأنفسنا بالسرحان في رفاهية وجود حائط جانبي كامل لنستند عليه، مع مساحة كافية لتعليق حقائبنا، وفرشة نائية عن الحمام. ضحكنا بصوت عالٍ حتى سبَّنا جيراننا النائمون.
تتألق تلك الليلة بين ذكرياتي. أتذكر كيف استندت برأسي على البطانية المطوية التي استخدمتها وسادةً، حاشرًا شبشبي كدعامة لرقبتي الملووحة. أتذكر، بالتحديد، الغصة في حلقي عندما تباطأت ضحكاتنا لتتحول إلى زفرات متقطعة عالية مثل آخر خطوات بعد أن تعبر الأقدام خط النهاية في سباق. أتذكر، لأنه في تلك الليلة أدركت أنني عندما تجرأت على الحلم، لم أرَ شيئًا يتجاوز المصلب.
صرنا غير قادرين في مصر على رؤية ما وراء المصلب، حتى في خيالنا؟ أباتت الديستوبيا نهاية الأفق؟ أبات منتهى آمالنا داخل الجحيم حائطًا عابرًا نسند عليه ظهورنا إلى أن يُسحب منا؟
كرات ملساء بلا حواس
أعود كثيرًا هذه الأيام إلى إحدى الروايات الديستوبية؛ عطارد (2014)، بالأخص شخصية زهرة.
في السرد، يتخيل محمد ربيع مصر ما بعد الثورة في عام 2025 عالمًا مدمرًا يعيش أعقاب هزيمة شنعاء، تشيع فيه المذابح والتنكيل ليس فقط من الحكومة، بل أيضًا يأكل الشعب بعضه. تظهر زهرة طفلةً صغيرةً تُركت تنتظر والدها الذي لم يصل أبدًا لأخذها من المدرسة.
بدلاً من ذلك، وُكِّل أمرها إلى إنسال؛ الشخص الذي يشعر بواجب البحث عن والد زهرة المفقود. بمرور الوقت، يزداد اقتناع إنسال بأن والد زهرة وقع ضحية لإحدى مجازر الدولة. يومًا بعد يوم، يحمل إنسال زهرة من مشرحة إلى أخرى، يتنقل بين بحر من الأجساد المشوهة، حتى تتعرف زهرة في النهاية على وجه والدها بين إحدى تلك الجثث.
محملاً بعبء هذا الاكتشاف، يواجه إنسال المهمة الصعبة للعناية بزهرة. لكن ذات صباح، يستيقظ على مفاجأة صادمة: بدأت شفتا زهرة بالانغلاق بلا تفسير، كما لو كانتا حافتي جرح يلتئم ببطء.
بينما يكافح إنسال لفهم تلك الظاهرة المرعبة، تزداد صحة زهرة سوءًا. يقف الأطباء عاجزين، غير قادرين على تشخيص مرضها مع تزايد غرابة حالتها. مع الوقت، تختفي حواف أذنيها حتى تترك ثقوبًا يبدأ الجلد ينمو فوقها. يتحرك جفناها ببطء نحو بعضهما البعض، مُغلقَين عينيها أيضًا. تصبح زهرة كرةً ملساءَ كاملةً بلا حواس.
يقول الأطباء إنَّ مرض زهرة وإنْ لم يكن مفهومًا، فهو ليس مستغربًا. إن طبَّعنا مع أهوال مصر كواقع نعيشه ويعيشنا، يصبح اندثار الحواس الذي حدث لزهرة استجابة حتمية.
يشغلني كلام الأطباء في الرواية هذه الأيام. أتأمل كيف لم تعد الديستوبيا حتى في مكانها في الأفق، بل على الأعتاب. بكل الغرائبية والعجائبية التي تحويها تلك الأعمال، يبدو عالمها الكابوسي غير بعيد بذاك القدر عن واقعنا الحالي، بل تطور طبيعي لما نسير نحوه بخطى وئيدة.
اليوم في مصر: عاصمة إدارية جديدة تعكس الطموحات الإمبراطورية لنظامنا العسكري، تضم أطول مبنى في إفريقيا، هرمًا كريستاليًا، وقصرًا رئاسيًا على شكل قرص واسع مستوحى من الآلهة المصرية القديمة، بالإضافة إلى مجمع عسكري شاسع يُعرف بالأوكتاجون. مصر موازية للنخبة الحاكمة، بينما يظل العامة المتضورون جوعًا خارج الأسوار.
تتعرض القرافة التاريخية في القاهرة للتدمير المنهجي، حيث يُكسح الموتى من القبور والأضرحة لإنشاء طرق جديدة. نقلت ملكية مساحات شاسعة من الأراضي، بما في ذلك المواقع التاريخية والحدائق العامة، إلى الجيش لتعبيدها وإنشاء جسور وطرق ومقاهٍ ومحطات وقود. تحول حي مصر الجديدة، الذي كان مليئًا بالأشجار، إلى متاهة خرسانية من الجسور والطرق السريعة.
هكذا فقد السرد الكابوسي طابعه المستقبلي. أليست يوتوبيا أحمد خالد توفيق مخطوطةَ ما صار عاصمة اليوم الإدارية الجديدة؟ ألا يقف جحافل المصريين اليوم أفواجًا في الطابور أمام بوابة بسمة عبد العزيز التي لا تفتح أبدًا ليختم لهم بالحياة يومًا بعد يوم؟ بعد كل تلك المجازر التي شهدناها وعشرات الآلاف من المختطفين في غياهب السجون لأكثر من عقد من الزمان، أيرتفع حاجب أيّ منا إذا ما بدأت حواسنا في الانكماش والضمور حتى نصبح كرات مسطحة تهرب من العذاب كزهرة محمد ربيع؟
لذة قلب الموازين
في مجموعة مصر +100 القصصية التي ذكرتها في أول المقال، لفتت انتباهي قصة أحمد ناجي "متحف الإنسان الأبيض بطنطا" التي ختمت الكتاب. كانت قصة ناجي الوحيدة التي حادت عن نمط الحكي الكابوسي داخل مصر، واتسعت لتعيد تخيل نظام عالمي جديد لسنا فيه بالقاع.
ربما يكون أكثر الأفعال ثورية اليوم أن نسعى نحو المصلب
تتخيل القصة مستقبلًا يقود فيه تنظيم يسمى "الكرامة" ثورة جذرية لإعادة تشكيل العالم العربي وإذابة الحدود الوطنية، لخلق سوق موحدة ونظام ضريبي لا مركزي. يؤدي هذا التصور إلى "نصف عقد الدم"، وهي حقبة من الثورة سمتها الأساسية الإطاحة برؤوس ممالك الخليج كالعدو الأهم المشترك، وتقود بعد نجاحها لإنشاء اتحاد عربي جديد يمزج بين الرأسمالية الليبرالية و"الوسطيين" الإسلاميين.
يجعل هذا النظام الجديد المنطقة العربية لاعبًا عالميًا رئيسيًا، في الوقت الذي يؤدي فيه صعود القومية اليمينية في الغرب وإنكار تغير المناخ من قِبل قادة مثل الرئيسة الأمريكية إيفانكا ترامب إلى انهيار الغرب. يصبح العالم العربي الجديد ملاذًا للمثقفين الغربيين الهاربين من الاضطرابات البيئية والأيديولوجية، جاعلًا إياهم أقلية مهمشة.
ربما هي ديستوبيا من نوع جديد، وجدت في نفسي نهمًا لأقرأ رواية كاملة عن النظام الذي تقترحه. أن أستمتع بلذة قلب الموازين وتخيل واقع آخر ممكن بكل صراعاته الجديدة وكوابيسه المتحورة بصعود عالمنا العربي خارج حدود التخيل الاستعماري لمنطقتنا كساحة حروب أبدية، صحراء همجية محصورة في صراع لا ينتهي، غير قادرة على التعلم.
هل صار أكثر الأفعال ثوريةً اليوم هو القدرة على الخيال الراديكالي؟ كيف نصطدم بوسخ الواقع من حولنا ثم نرى ما بعد تجاوزه، حتى وإن استحالَ بأيٍّ حسابٍ واقعيٍّ؟ هل هناك احتمال للتحرر أبدًا إن لم نكن قادرين على تخيل هيئته؟ ما شكل الخط الذي إذا مددناه يصل بنا إلى مستقبل أكثر إشراقًا؟
والأهم، ما شكل هذا الإشراق الذي نرغب في التنعم بنوره؟ كيف يمكننا، من خلال كتابة بدائلَ متخيلةٍ، أن نشتبك مع تجليات البؤس التي تبدو مفروضة علينا كخيار وحيد؟ ما العالم الذي سيعيد لزهرة البصر؟ ما شكل مؤسساته، جيشه، شرطته أو عدمها، نظم إدارته، التي تنبع من واقعه المعقد، تعليمه، صحته؟ ما شكل صداماته، صدوعه غير القابلة للرأب، وما شكل الرأب لو شطحنا وتخيلناه؟ كيف تُفرغ سجونه، وكيف نحول دون امتلائها مرة أخرى؟ ما شكل مصر غير محكومة من عسكر أو طائفيين؟ إذا كنا عاجزين عن تخطي فوهات البنادق الناغزة في صدورنا، هل أصبحنا عاجزين حتى في أعتى أحلامنا عن تخيل احتمالية التخطي؟
ربما يكون أكثر الأفعال ثورية اليوم أن نسعى نحو المصلب، نعم، مع تخيل إمكانية ما سواه: واقع لا حاجة لمصلب فيه، تنتمي لنا فيه كل الحوائط ومفاتيح الأبواب.