منشور
الخميس 10 مارس 2022
- آخر تحديث
الخميس 10 مارس 2022
لطالما كانت مشروعات الطرق والكباري والأنفاق من أبرز الأنشطة الحيوية في مصر، سواء بدافع تحديث الحياة المدنية أو تيسير المرور في المناطق المزدحمة أو لربط الأحياء القديمة بالمدن الجديدة.
ولأن الغالب على هذه الاستثمارات هو الإنفاق الحكومي، إذ لا توجد شركة خاصة تبادر ببناء كوبري للمنفعة العامة، لذا فإن الحديث عن هذا النمط من المشروعات غالبًا ما يكتسب طابعًا سياسيًا، فعادة ما يحب المسؤولون أن يظهروا في وسائل الإعلام وهم يفتتحون مشروعات من هذا النوع، ويتزامن ظهورهم مع نشر بيانات عن إنجازات البنية الأساسية تشمل أرقامًا مليارية عن ما تم إنفاقه على شق الطرق وحفر الأنفاق وغيرها.
يهدف هذا الملف لأن يقدم قراءة مختلفة لتلك الأرقام المليارية عن زاوية "الإنجازات"، حيث يركز على الأثر الاجتماعي لهذه المشروعات، من المستفيد ومن تم تجاهله ومن المتضرر؟ هذه الأسئلة واجبة لأننا نتحدث عن إنفاق عام يجب أن يَطمَئن المجتمع إلى أنه يتسق مع أولوياته.
وما يزيد من أهمية السؤال عن الأثر الاجتماعي هو التطور اللافت في استثمارات البنية الأساسية المرتبطة بالنقل خلال الفترة الأخيرة، حيث تتحدث وزارة النقل على موقعها الرسمي عن تنفيذ طرق بتكلفة 127 مليار جنيه منذ 2014، وتخبرنا وزارة التخطيط أن قطاع النقل والتخزين يأتي على أولوية القطاعات الخدمية في خطة التنمية متوسطة الأجل فمن المتوقع أن يحظى بنحو 11% من الاستثمارات الكلية للخطة الممتدة بين 2019 -2022.
وإذا كان من الصعب أن نستخرج رقمًا محددًا لاستثمارات الطرق والكباري من الموازنة العامة، حيث تتشارك العديد من الجهات التابعة للدولة في تنفيذها، لكن يمكن أن ننظر مثلًا لاستثمارات الهيئة العامة للطرق والكباري منذ 2014 وسنلاحظ قفزات في قيمة الاستثمار في بعض السنوات.
ورغم أن التعويم ساهم بوضوح في تضخيم قيم هذا النوع من الاستثمارات، بسبب ارتفاع تكاليف الإنشاء بصفة عامة، كما يظهر من الشكل التالي، بدأت قيمة استثمارات الدولة في مجال النقل تقترب من المئة مليار جنيه سنويًا منذ 2017، لكن لا يمكن أن نعتبر انخفاض الجنيه هو العامل الوحيد، فقد تزامنت زيادة تكاليف الإنشاء مع اهتمام واضح من الدولة بالاستمرار في أعمال توسيع الطرق وبناء المحاور السريعة وغيرها.
هذه المقدمات تزيد من أهمية السؤال المطروح حول الشريحة المجتمعية الأكثر استفادة من تلك المشروعات، ولا يمكننا أن نقدم إجابة واحدة وسريعة عن هذا السؤال.
بداية لا يمكننا إنكار أن هذه المشروعات كانت مهمة للاقتصاد خلال الفترة الماضية، فهو إنفاق عام يساهم في تشغيل قطاعات عديدة وراءه؛ شركات المقاولات والإنشاءات والأعمال الهندسية ومصانع مواد البناء وغيرها، كما أنه يساهم في تيسير حركة المرور والبضائع ما يعني أثرًا إيجابيًا على تنشيط التنمية العقارية في مدن بعيدة أو على التنمية الصناعية ونقل السلع للأسواق، ومن الممكن أن تكون هذه الاستثمارات هي التي ساعدت قطاع النقل والتخزين على أن يحافظ على نمو قوي وثابت نسبيًا خلال الفترة الماضية التي شهدت العديد من الأزمات من أبرزها أزمة كورونا.
لكن من جهة أخرى، فإن الأثر التنموي لمشروعات البنية الأساسية قصير العمر، فهي لا تستمر في الإنتاج والتشغيل مثل الصناعة، كما أن طبيعة الوظائف التي توفرها عادة ما تكون وظائف رديئة؛ من حيث انخفاض قيمة أجور عمالة المقاولات وعدم توفير الحماية الاجتماعية لهم. وتشير دراسات إلى ارتباط زيادة العمل في الإنشاءات بزيادة الوظائف الرديئة، خاصة وأن نصيب هذا القطاع في التشغيل زاد من 8% في 2006 إلى 13% في 2018.
والحديث عن التنمية وأولويات الإنفاق يبدو شديد الأهمية، خاصة في ظل الضغوط الاجتماعية التي عانتها قطاعات واسعة مع برنامج "الإصلاح الاقتصادي"، فبحسب آخر بيانات جهاز الإحصاء ارتفعت معدلات الفقر خلال السنوات الأخيرة، ولم تنخفض إلى مستوى ما قبل الإصلاح.
وعلى صعيد الخدمات، فإننا نفتقد وجود دراسات تشرح لنا ما هو التصور الاجتماعي وراء تلك المشروعات، صحيح أن بعضها يهدف لخدمة مناطق تزيد فيها معدلات الفقر، مثل أعمال الطرق الواردة في برنامج تنمية الريف أو التي تربط الصعيد بالمناطق الحيوية والمشروع القومي لرصف الطرق المحلية داخل المحافظات، لكن من جهة أخرى تبدو بعض المشروعات الحيوية وكأنها مصممة لخدمة طبقات معينة دون الأخرى.
ففي غرب القاهرة استطاعت الدولة أن تُحيي مجتمعات جديدة في مناطق أكتوبر المختلفة، لكن التنقلات داخل ريف الجيزة لا تزال شديدة البدائية. بل إن هناك طرقًا سريعة تربط محافظات ببعضها لا تزال تفتقر إلى أبسط خدمات الدولة مثل الإنارة.
وفي شرق القاهرة تم تغيير ملامح أحياء كاملة في مدينة نصر ومصر الجديدة من أجل تحويلها لممرات سريعة تصل إلى العاصمة الإدارية الجديدة، وهو ما كان عامل إفقار لسكان في تلك الأحياء، والإفقار المقصود هنا ليس الدخل ولكن الحرمان من امتيازات مثل جودة البيئة وتهيئة الشوارع للتمشية، في مقابل رفع أسعار أمتار الشقق في العاصمة التي باتت في سنوات معدودة تتجاوز قيمة الشقق في تلك الأحياء القديمة.
هذه الشواهد وغيرها هي التي دفعت لتقديم هذا الملف، والذي يتناول بعض القضايا التي تعرضت لها الصحافة من قبل ولكنه يسعى لوضعها في إطار أوسع وأشمل، في محاولة لطرح السؤال الرئيسي عن الأثر الاجتماعي، أو على أقل تقدير التنبيه إلى أن هذا البعد غائب في خطاب الدولة.