منشور
الاثنين 21 أغسطس 2023
- آخر تحديث
الاثنين 21 أغسطس 2023
على مدار أكثر من أربع سنوات اتبعت الحكومة سياسات وإجراءات تُغير وجه وطبيعة عاصمة مصر، ما بين شق طرق وتوسيع أخرى وبناء كباري، وتوسعت السلطة في العام الأخير وشحنت طاقتها لتنفيذ خططها التي طالت مقابر تراثية في القاهرة التاريخية.
في المقابل لم يتطرق مجلس النواب بأي شكل لمناقشة هذه السياسات، رغم محاولات بعض أعضائه دفع الحكومة لإعادة دراسة هذه الخطط، والبحث عن وسائل أخرى لتوسعة الطرق بعيدًا عن الهدم والإزالة، خاصة بعدما طالت الجرافات المقابر التي في القاهرة، وكادت تهدم مقبرة عميد الأدب العربي طه حسين، بينما تبقى مقابر الأديب يحيى حقي وشاعر النيل حافظ إبراهيم في انتظار البلدوزر، أو تغيير رأي صانع القرار.
يقضي النواب إجازتهم البرلمانية القانونية منذ منتصف يوليو/تموز حتى الأول من أكتوبر/تشرين الأول، ومع بدء الإجازة تدخل عشرات من طلبات الإحاطة ثقبًا أسودًا لا تخرج منه، فيما نقلت المنصة تقريرًا مدعومًا بالصور عن بدء حملة جديدة لإزالة مقابر في منطقة جبانات الإمام الشافعي، وبدء وضع العلامات الزرقاء على الأحواش التي تستعد الحكومة لهدمها.
تعود السلطة مرة أخرى لممارسة مهمتها المفضلة في تنفيذ سياسات تُحذر منها أحزاب المعارضة والمثقفون والآثاريون ومستخدمو السوشيال ميديا، لكن الحكومة التي اتخذت هدنة من هدم الجبانات خلال الأشهر القليلة الماضية على خلفية الاعتراضات وتشكيل لجنة وزارية لدراسة الأمر، تعود مرة أخرى بالبلدوزر والجرافات لانتزاع قرافات تمثل جزءًا من تاريخ وتراث القاهرة.
طلبات الإحاطة في الثقب الأسود
تنظم اللائحة الداخلية لمجلس النواب، كيفية تقديم طلب الإحاطة الذي يعد أحد الأدوات الرقابية الأكثر استخدامًا من جانب النواب، وتنص المادة 212 على أنه "لكل عضو أن يقدم طلب إحاطة إلى رئيس مجلس الوزراء، أو أحد نوابه، أو أحد الوزراء، أو نوابهم، يحيطه علمًا بأمر له أهمية عامة ويكون داخلًا في اختصاص من يوجه إليه..."، وتنص المادة 213 على أن "يبلغ رئيس المجلس طلب الإحاطة إلى من وُجه إليه خلال ثلاثين يومًا من تقديمه. ويُدرج مكتب المجلس طلبات الإحاطة التي يتم تبليغها في جدول أعمال الجلسة التالية لانقضاء سبعة أيام على إبلاغها بحسب أهمية الأمور التي تتضمنها وخطورتها".
لم نرَ تطبيق اللائحة في عشرات طلبات الإحاطة التي لم تطرح للنقاش سواء في الجلسات العامة، أو في اللجان النوعية المختصة، في موضوعات مختلفة، وليس فقط في قضية هدم المقابر التاريخية، التي كانت محل اهتمام عدد محدود من أعضاء مجلس النواب، فعلى خطورة ممارسات الحكومة وتأثيرها على الطابع الثقافي والحضاري للقاهرة، كانت التحركات معدودة، مثل الطلبات التي تقدمت بها النائبة فاطمة سليم، عضو المجلس عن حزب الإصلاح والتنمية، والنائبة مها عبد الناصر، عضو المجلس عن الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي.
تقدمت سليم في يونيو/حزيران الماضي بطلب إحاطة لرئيس مجلس الوزراء، ووزير السياحة والآثار بشأن شروع الحكومة في إزالة عدد من المقابر الأثرية لمواصلة جهود تطوير البنية التحتية، وأشارت إلى مشروع محور الفردوس بالقاهرة ومساره الذي يتداخل مع عدد كبير من المقابر، ومطالبة أصحابها بنقل رفات ذويهم لمناطق أخرى.
واعتبرت سليم أن "المشكلة ليست في نقل قبور المواطنين، بل إن المنطقة التي يمر منها المحور هي منطقة تراثية ذات طبيعة فريدة"، موضحة أن "القرافة الكبرى تعود إلى عصر الفتح العربي الإسلامي وتتزامن مع تأسيس الفسطاط، أي قبل تأسيس القاهرة ذاتها بما يزيد عن ثلاثة قرون".
واستعرضت في الطلب التاريخ المتراكم للمقابر التي لا تخلو من روايات تصل لألف عام، من تقلبات العصور والبشر، بين مقابر الخلفاء والسلاطين مرورًا بالأمراء والحرافيش، إلى الأسرة العلوية والباشوات والبكوات، وليس انتهاء بآل البيت والمتصوفين. وذهبت سليم إلى طرح الاستفادة على المستوى السياحي من المقابر التاريخية وتحويلها لمزارات سياحية بدلًا من هدمها.
وأوضحت أن من بين المقابر المقرر إزالتها قبر محمد راتب باشا ساردار الجيش المصري في عهد الخديو إسماعيل، وقبر الأمير يوسف كمال ولي عهد مصر الأسبق، وقبر الشاعر ووزير الحربية محمود سامي البارودي، وقبر شاعر النيل حافظ إبراهيم.
كانت النائبة مها عبد الناصر، تقدمت بطلب إحاطة خاص بهدم مقبرة شاعر النيل، في مايو/أيار الماضي، موجه لكل من رئيس مجلس الوزراء، ووزيرة الثقافة ووزير النقل والمواصلات ووزير التنمية المحلية، بشأن إقدام محافظة القاهرة على هدم وإزالة المقبرة.
وطالبت الحكومة بالوقف الفوري لأي قرار يخص هدم مقبرة حافظ إبراهيم، أو أي مقبرة تمثل قيمة تراثية أو حضارية أو ثقافية لأي سبب كان، ودعت لإعادة دراسة تلك القرارات مع عرض الدراسات والقرارات على البرلمان لإبداء الرأي فيها، لاتصالها بشكل مباشر بالتراث الثقافي والأدبي للدولة المصرية.
انتهى الفصل التشريعي السابق دون مناقشة لطلب الإحاطة وبالطبع عدم طرح الاستجواب
استخدمت عبد الناصر مبرر المنفعة العامة لإزالة المقابر التاريخية الذي تستغله الدولة لتبرير الهدم، واعتبرت أن المنفعة العامة من أركانها الحفاظ على التراث والهوية الثقافية، وتخليد وتعظيم الإرث الأدبي لرموز مصر، وهو الأمر الذي لا تستطيع الحكومة استيعابه أو تقديره بأي شكل من الأشكال.
كما تقدمت بطلب إحاطة آخر في مايو الماضي أيضًا بشأن هدم مقبرة الأديب يحيى حقي، وتهديدات مماثلة لمقابر الإمام الشافعي والسيدة نفيسة.
البداية من 2020
تحركات النواب في دور الانعقاد المنتهي ليست الوحيدة، وكانت البداية من الفصل التشريعي السابق في 2020، من خلال طلب إحاطة واستجواب لم ير النور بالطبع، قدمته النائبة السابقة داليا يوسف بالتزامن مع خطط الحكومة في هدم المقابر من أجل الطرق. ووجهت الاستجواب إلى وزير الآثار، ووزير الأوقاف، ووزير الري والموارد المائية، ووزير التنمية المحلية، ووزير الإسكان، واعتبرت أن الهدم مخالف لأحكام الدستور المصري، ويخالف أحكام وفتاوى الشريعة الإسلامية، ويمثل انتهاكًا لحقوق الإنسان بالمخالفة للمواثيق الولية، وينتهك حرمة الموتى.
النائب السابق، أكمل قرطام، رئيس حزب المحافظين، تقدم بطلب إحاطة في العام نفسه موجه إلى وزير السياحة والآثار، ووزير التنمية المحلية بشأن حقيقة ما نشرته بعض المواقع الإخبارية حول هدم مقابر المماليك الأثرية ضمن مشروع محور الفردوس.
وانتهى الفصل التشريعي السابق دون مناقشة لطلب الإحاطة، وبالطبع عدم طرح الاستجواب، ونفذت الحكومة مخططاتها، وانتهت ثلاثة أدوار من انعقاد المجلس الجديد واستمرت نفس السياسات في تجاهل الأدوات الرقابية المرتبطة بهذا النوع من المشروعات.
أربع سنوات بتحركات محدودة لبعض النواب المعارضين، وصمت نواب الأغلبية، وإصرار من المسؤولين عن إدارة المجلس في تجاهل الأدوات الرقابية وتعطيل مناقشتها، لتبقى جرافات الحكومة وأصحاب القرار بعيدًا عن المساءلة، أو على أقل تقدير محاولات الإثناء عن الاستمرار في هذه السياسات.