اختتم مجلس النواب دور الانعقاد الثالث في 11 يوليو/تموز الجاري، وكنا نعتاد في مثل هذه الأيام المشاهد الاحتفالية وسط الأعضاء والصحفيين والتقاط الصور الجماعية التذكارية، بعد أكثر من تسعة أشهر من العمل، يبدأ بعدها النواب إجازتهم البرلمانية التي تنتهي أول أكتوبر/تشرين الأول.
ولكن ختام الثلاثاء الماضي كان مختلفًا، الجميع يتحدث عن عودة الانعقاد في أكتوبر المقبل، ولكن هذه المرة في مبنى مجلس النواب بالعاصمة الإدارية الجديدة، لتكون بذلك المرة الأولى التي يخرج فيها ممثلو الشعب من مبناهم التاريخي إلى آخر في شرق القاهرة، يبعد 60 كيلومترًا عن وسطها.
الحديث عن انتقال المجلس للعاصمة الإدارية ليس رسميًا حتى الآن، لكن الشواهد والمؤشرات تؤكد ذلك، خاصة بعد انتقال مجلس الوزراء وعدد من الوزارات، وانتشار هاشتاج #عام_الانتقال على الصفحات المرتبطة بالعاصمة الإدارية، مع بعض التكهنات بعقد الجلسة الافتتاحية فقط في العاصمة الإدارية، بينما يستكمل المجلس باقي الجلسات في مبناه التاريخي.
أرتبطُ بالأماكن وأتعلق بجدرانها وأحفظ ذكرياتها، فالمبنى الذي دخلته عام 2015 حفرت فيه ذكريات مع أصدقاء ونواب، وشهدتُ فيه أحداثًا كبيرة وأيامًا ثقيلة. قضيت ساعات طويلة وسهرات لتغطية جلسات استماع تعديلات الدستور، وقبلها اتفاقية رسم الحدود البحرية بين مصر والسعودية التي انتقلت بموجبها السيادة على جزيرتي تيران وصنافير للمملكة. وسجلتُ دموع النائبات على أبواب مكتب رئيس المجلس، حينها، علي عبد العال. كما وثقت غضب المعارضة ومحاولاتها المستمرة لوقف قوانين عدوها تراجعًا عن الديمقراطية، ورصدتُ استقالات وإسقاط عضويات.
ثماني سنوات بين جدران المجلس المهيب، حصدتُ خلالها صداقات متينة بين زملائي الصحفيين، ونواب الأغلبية والمعارضة، والعاملين في المجلس الذي قضى أغلبهم أكثر من نصف أعمارهم في ذلك المبنى التاريخي.
هيبة التاريخ
دخولي الأول للمبنى كان في 2015 قبل انعقاد مجلس النواب، في تلك الفترة كان المكان يستضيف اللجنة العليا للإصلاح التشريعي، التي صدر قانونها في 2014 من خلال الرئيس المؤقت حينها عدلي منصور. الغرض من اللجنة كان إعداد وبحث ودراسة مشروعات القوانين والقرارات الجمهورية، وقرارات رئيس مجلس الوزراء اللازم إصدارها أو تعديلها لمراجعتها وتطويرها، والتنسيق بينها وبين التشريعات المختلفة لضمان عدم تناقضها أو غموضها، والعمل على ضبطها وتوحيدها وتبسيطها ومسايرتها لحاجة المجتمع، وملاءمتها للسياسة العامة للدولة وأهدافها القومية التي يحددها الدستور.
المبنى له هيبة، طوال فترة وجودك تخبرك جدرانه وأعمدته ومقتنياته بحكايات وقصص عن تاريخ المكان الذي شهد كتابة دستور 1923، ومعارك برلمانية تاريخية من قبل 1952، وحتى الآن.
كان الاجتماع الأول لمجلس شورى النواب عام 1866 برئاسة إسماعيل باشا راغب في القلعة، ثم تحول مبنى وزارة الأشغال الذي بُني عام 1878 مقرًا لمجلس النواب منذ ديسمبر/كانون الثاني 1881، وحتى اليوم.
تعكس أسماء بعض قاعات المبنى الرئيسي والمباني الملحقة به وقائعَ وأحداثًا تاريخية؛ فقاعة الدستور التي تقع في نطاق الجزء المخصص لمجلس الشيوخ اليوم، هي القاعة التي شهدت اجتماعات كتابة دستور 1923، بينما تحمل قاعة الاجتماعات الكبرى اسم قاعة 25/30 في إشارة لتحرك المصريين في 25 يناير و30 يونيو.
أما القاعة المستديرة ذات القبة البيضاء الشهيرة فتتكون من طابقين بكل منهما شرفة، كانت منهما واحدة للصحافة، قبل تخصيص مركز إعلامي للصحفيين ينقل وقائع الجلسات لهم عبر دائرة تليفزيونية.
تزين الجدران الخارجية للقاعة المستديرة صور رؤساء المجالس النيابية السابقين، بدءًا من إسماعيل راغب باشا وحتى رئيس مجلس النواب الحالي، حنفي جبالي، بينما يظهر رئيس مجلس الشعب السابق، خلال فترة حكم الإخوان المسلمين، سعد الكتاتني في صورة باهتة مقارنة برؤساء المجالس الآخرين.
أما متحف البرلمان فلن تمل من تفقدك لمحتوياته ووجودك بين مقتنياته؛ ينقسم لقاعتين، الأولى تتصدرها العربة الملكية التي أهداها إمبراطور فرنسا للخديو إسماعيل، وكرسي العرش، وصور ومجسمات تاريخية.
أما القاعة الثانية، فخلال تجولي للمرة الأولى فيها استوقفني كتيب أزرق يوثق أيام ثورة 25 يناير بدءًا من اليوم الأول للمظاهرات، وجمعة الغضب، وخطابات مبارك خلال أيام الاعتصام. ثم إعلان التنحي، وصور للاحتفال بسقوط النظام فى ميدان التحرير، وصورة لمبارك وراء القضبان خلال الجلسة الأولى لمحاكمته. كما وثق أحداث محمد محمود، وأحداث مجلس الوزراء. واكتفى بوضع صورة لحريق المجمع العلمي، توقفت بعدها الأحداث، بينما لا تزال هناك مساحات وصفحات خالية، ربما يأتي من يضيف إليها لاحقًا.
كابوس الانتقال
التعلق بالمكان وتفاصيله يضع حاجزًا أمام تقبل الأماكن الجديدة، ويتجسد القلق في هيئة تساؤلات متلاحقة. هل يخصصون أوتوبيسات لنقل الصحفيين والموظفين؟ كيف سأقطع مسافة تزيد عن 85 كيلومترًا يوميًا؟ هل تحتمل فقراتي القطنية والعنقية؟ هل سيارتي المتوسطة ستحتمل؟ كيف أقضي أربع ساعات على الأقل في الطريق ذهابًا وإيابًا، وهل أعود مؤهلة نفسيًا وبدنيًا لممارسة مهام الأمومة؟
موقفي كصحفية ليس الغامض الوحيد، فلا أختلف كثيرًا عن موظفي المجلس أنفسهم الذين لم يجدوا إجابات عن الأسئلة ذاتها حتى الآن، لا يعرفون كيف يذهبون أو يتعاملون مع ساعات العمل الطويلة أيام الجلسات، ومتطلبات عائلاتهم ومدارس أبنائهم. الكابوس يلاحقنا جميعًا، نحن الذين نسكن في الطرف الآخر من العالم.
محاولة فاشلة لنقل التاريخ
في يونيو/حزيران، أعلنت شركة المقاولون العرب انتهاء تنفيذ مبنى المجلس في العاصمة الجديدة، والذي يقع على مساحة 126 ألف متر مربع، ويتكون من مبنى رئيسي، وآخر للخدمات، وأسوار وطرق داخلية ومساحات خضراء.
حاولت الشركة محاكاة بعضًا من طراز المبنى التاريخي، فصممت له قبة مشابهة لقبته البيضاء.
لم أحظ حتى الآن بزيارة ميدانية للمبنى الجديد، لكن مطالعة الصور على موقع "المقاولون العرب" تنبئ بالفرق بين ما مضى وما هو آت.
يحمل المبنى التاريخي بطرازه المعماري الذي جمع بين الفن الأوروبي والإسلامي، في تفاصيله وفنياته قيمة مجلس النواب كأول مؤسسة تشريعية في الشرق الأوسط. أما المبنى الجديد، فلا تختلف طرقاته عن طرقات الفنادق التي يغطي جدرانها الرخام اللامع ووحدات الإضاءة الفندقية، فخامة تليق بالفنادق البراقة. ورغم عناصر الإبهار والإنفاق العالي، يبدو من الصور فشل محاولات التصميم في إضافة هيبة على المبنى الذي تكلف نحو 5 مليارات جنيه.
الانتقال من المباني التاريخية دائمًا ما يثير القلق بشأن مصير التاريخ العمراني، خاصة مع السلطة الحالية، التي تتجه لسياسات البيع أحيانًا، والهدم أحيانًا أخرى. لكن وزيرة التخطيط هالة السعيد قالت في مداخلة هاتفية مع الإعلامي عمرو أديب في يونيو/حزيران الماضي "نقوم حاليًّا بحصر المقرات القديمة للوزارات بعد الانتقال للعاصمة الإدارية، لأن هناك جهات ترغب في الحصول عليها مثل التحكيم العربي الذي طلب الحصول على مبنى مجلس الشورى".
يُذكر أن مبنى مجلس الشورى هو أحد المباني التاريخية في نفس المكان الذي يقع فيه مجلس النواب. أما مبنى مجلس النواب نفسه، فقالت الوزيرة أنه سيتحول إلى متحف، وهو ليس ضمن الفكرة الاستثمارية.
تحول الانتقال للعاصمة الإدارية إلى كابوس يلاحقني يوميًا. فمع كل بوست لزملائي عن رحلتهم العصيبة من منازلهم لمقر مجلس الوزراء في العاصمة الجديدة، تداهمني آلام المعدة، وتساؤلات لا تنتهي عن كيف نذهب للعاصمة، وحزن على ذكرياتي، وقلق على مصير المبنى التاريخي.