بدأت معرفتي بصديقتي العزيزة سمية رمضان (1951-2024) في منتصف التسعينيات. عند صدور كتابي خطوط الضعف 1995، كتبَتْ هي مقالًا عنه، مناصفةً، مع رواية هاجس موت للصديق الروائي عادل عصمت. بعدها لم نلتقِ في القاهرة سوى مرة أو اثنتين، ولكن صار هناك موعد مفتوح للقاءات مطولة في الإسكندرية، حيث يقع جاليري فراديس، الذي تديره سلوى زوجتي وأنا، أسفل العمارة التي تقطنها عائلة سمية في حي رشدي.
كل فترة أجدها وبدون موعد مسبق، تعبر أمام زجاج فاترينة الجاليري بمشيتها الخفيفة على الأرض، وتدلف من الباب بهدوء، لنبدأ جلسة هادئة في النقاش حول الأدب، أو ما يشغلها ويشغلني. كنا نتحدث تحت رعاية العائلة التي تسكن شقة واسعة في تلك العمارة المميزة معماريًا وطبقيًا، وكان لملاكها علاقة قربى بالفنان محمود مرسي.
كان هناك جانب طفولي يظهر بوضوح في شخصيتها، الهموم والتساؤلات القديمة التي لم تحل، ولن تحل، كعلاقة الفرد بالعائلة أو الجماعة، وهو لب روايتها أوراق النرجس التي صدرت عام 2001، ونالت عنها جائزة نجيب محفوظ.
محكمة رمزية
من مكاني في الجاليري كنت قريبًا من كواليس بطلة الرواية، والأرصفة الممتدة التي سارت عليها طفلة في طريقها إلى المدرسة، وسرت عليها أنا أيضًا، بعدها بعشر سنوات، حيث كنت أسكن في نقطة أبعد.
الرِواية شبه سيرة ذاتية لرَاوية تتذكر طفولتها، ثم سفرها إلى أيرلندا للحصول على الدكتوراه في الأدب، ثم عودتها. وخلال هذه المراحل العمرية تتناثر العديد من الذكريات التي تلخص علاقتها بمن حولها، وبنفسها.
طوال فصول الرواية القصيرة، هناك محكمة رمزية منصوبة لهذه المرأة/الطفلة، حتى قبل أن تأتي إلى الحياة، وهناك تهمة ألصقها بها المجتمع، ولا تجد سوى الذاكرة لتدفع بها هذه التهمة/الفخ المنصوب لها ولأي امرأة، إذ يتحول الفرد إلى مجني عليه، يعدم نفسه بنفسه، دون أن يدين المجتمع الذي كان سببًا في صياغة حياته.
تلعب "دادة آمنة" دور الذاكرة الجمعية خازنة الحكايات وتشكل الجزء الحيوي من لا وعي هذا البيت البرجوازي
هناك ذنب قدري موروث لهذه البطلة تصحبه مسؤولية أخلاقية موجهة تجاه أي خلل تلحظه فيمن حولها، مثل دادة آمنة، مربيتها، التي لم تتعلم وهربت مبكرًا من بيت العائلة في الصعيد، بحثًا عن حياة أفضل، حيث حط بها الرحال وسط هذا المنزل الذي تعيش فيه البطلة المعذبة بالأسئلة.
تمثل المربية الهامش الإنساني الذي يحتاج للتعاطف، فيحدث التماهي بينهما كهامشين يعيشان على هامش بيت برجوازي. فلقاؤهما ليس صدفة، ولكن يخضع لاحتياج متبادل، فآمنة تحتاج لمن يمنحها النظرة المنصفة لنفسها ورحلتها وذاكرتها الأسطورية، والبطلة أيضًا تحتاج من يحمل ذاكرة أصيلة وغير مزيفة، لتقف بجانبها في رحلة أسئلتها ومتاعبها النفسية وانهياراتها.
تلعب دادة آمنة دور الذاكرة الجمعية، خازنة الحكايات، وتشكل الجزء الحيوي من لا وعي هذا البيت البرجوازي، بكل ما تحمله من مخيلة أسطورية وحكمة، وقدريَّة، فتمنح البيت حكاياتها الأسطورية مقابل مخيلة عائلة البطلة المحافظة، ويحدث المزج بين الواقع والخيال.
ذاكرةُ آمنة
يتسرب الازدواج في أجزاء كثيرة من الرواية، لينشأ عالم الصراع/الخلاص، بين واقعٍ وآخر مضاد. هذا الصفاء في الصراع نجده أيضًا في ذات البطلة نفسها، حيث هناك أكثر من ذات، إحداهما تتكلم بصيغة المتكلم، وأخرى غائبة "هي". وهناك أيضًا إلحاح في استحضار المرآة التي تنظر فيها البطلة، لتفصل بين الذاتين.
يتبدى أيضًا صراع بين الوعي واللا وعي، عبر تدفق لا وعي البطلة طوال فصول الرواية. وهنا نجد نوعًا من التماهي أحيانًا بين الذاكرتين، للبطلة وآمنة، كأن البطلة تكتب عبر ذاكرة آمنة، أو تمنح لها وجودها كله لتكتب الرواية نيابة عنها، تكفيرًا عن رحلتها المعذبة في الحياة. فالكتابة أصبحت رمزَ الأضحية، تمنحها البطلة لآمنة تعويضًا عن خساراتها.
بجانب وظيفة أخرى للكتابة ستذكرها الراوية في مكان آخر، وهي الموت، فالكلمات تميت الآخر، بأن تحوله إلى حروف جامدة.
نُزل وسط نيل أسوان
كانت سمية تبحث عن مشروع، منقذ للحياة، خارج علاقتها بالتدريس الجامعي. في سنواتها الأخيرة، سافرت إلى أسوان واشترت أرضًا في جزيرة داخل النيل، وبنت نُزلًا للإقامة والكسب، وأرسلت لي صوره تدعوني أنا وسلوى لنقضي وقتًا هناك.
قامت برحلة في أعماق "كيمي"، اسم مصر القديمة، أو أعماق نفسها؛ لأن البطلة تحمل اسم تدليل "كيمي" بحثًا عن هذه الروح الأصيلة التي تحمل الوحدة/unity، أصل الوجود غير المتناقض وغير المزدوج.
هذا المشروع جرَّ عليها بعض المتاعب مع مَن ساعدها من أبناء المكان في إنشاء النزل، رغم سخائها في ما قدمته له بتنازلها عن جزء من الأرض، بالإضافة إلى مساعدته في تشييد نُزلٍ مجاور ليتكسَّب منه. ولم تنسَ دورها في مساعدة النساء هناك، ومحاولة تسويق أعمالهن اليدوية.
كان النُزل بموقعه وسط النيل، يشبه تمامًا تصورها عن مصر؛ المكان والزمان الملتحمان. ولكنها أيضًا لم تجد تلك الوحدة/unity، لا داخليًا ولا خارجيًا، وتعثر المشروع في تسويقه.
البلور المكسور
التشظي ركن أساسي من أوراق النرجس، فالرواية رحلة تشظٍّ لهذه الوحدة المفترضة.
ضمن ذكريات البطلة عن الطفولة، ذكرى مُدرِّسة الحساب التي هوت برأس الطفلة على زجاج ترابيزة السفرة البلوري عقابًا لها، وسببت شروخًا متشعبة لازمت صورتها ورمزيتها حياةَ البطلة وخيالها.
صار البلور المكسور جزءًا من صورة الذات المهشمة التي تحكي البطلة سيرتها، وينتقل هذا الرمز إلى أحد أشكال وحدته، عندما يلتئم في صورة الناقوس أو الجرس الزجاجي، الذي بدوره يشكل حاجزًا شفافًا يقف بينها وبين العالم من حولها، حيث ترى أمها، التي تعيش معها في حالة عدم وفاق، عبر هذا الجدار الشفاف.
وحده الأب الميت الذي نجا من عائلتها من رؤيته عبر حاجز، لأنهما كانا مندمجين تمامًا، ويعيش داخل جزء حميم من ذاكرتها.
ترى البصلة وتقشير طبقاتها كأنها ذات لا يمكن الوصول لجوهرها إلا عند نزع طبقة وراء الأخرى
تتذكر البطلة رواية الكاتبة الأمريكية سيلفيا بلاث الناقوس الزجاجي، التي تدون فيها البطلة ذات التسع عشرة سنةً مذكراتها عندما دعتها إلى نيويورك إحدى مجلات الموضة، بعد فوزها في إحدى المسابقات، كضيفة شرف لرئاسة تحريرها.
عندها تصاب بالاكتئاب من ضوضاء المدينة واتساعها وطرق العيش فيها، فتشعر بالعزلة وتعاني من حالة انهيار عصبي، وهو ما يصادف أيضًا بطلة أوراق النرجس عند سفرها إلى دبلن، ويمثل الناقوس الزجاجي للبطلتين تلك الشرنقة، التي تعطل نموهما وتمنع عنهما خوض تجربة الحياة.
تقشير الذات كالبصلة
هناك أيضًا تشظٍّ آخر ولكنه يسير في الرواية باتجاه اكتشاف الوحدة، عند لقائها بالأصدقاء ذات شمِّ نسيم، بعد عودتها من أيرلندا. ترى البصلة، وتقشير طبقاتها، كأنها ذات لا يمكن الوصول لجوهرها إلا عند نزع طبقة وراء الأخرى، لتكشف في النهاية عن هذا الجوهر الثانوي/الوحدة التي لا تقبل التجزيء، وليس قبلها انقسام أو تشظ. في كل مراحل تقشير الذات/البصلة هناك رحلة صعود وتسامٍ، والقبض على لحظة الاستنارة.
كل الكليات الصلبة تنحل في الرواية، وفي الرؤية، إلى جزئيات. ربما هنا تكمن مأساة الحياة للبطلة، أنها تسعى في سبيل هذا التجزيء، لتكشف الجوهر/الوحدة، وفي الوقت نفسه تريد جمعها في صورة، لأن التجزيء يُفقِد الذات هويتها/صورتها، ولكن هذا التجميع يشكل أيضًا حاجزًا بينها وبين الخارج.
كأن الحل كامن في منطقة وسطى بين الاثنين، بين التجزيء والتجميع، في تلك الأبنية النفسية غير المكتملة حيث يظل التفاعل قائمًا والنهايات مؤجلة بفعل هذا الجدل الداخلي.
الكتابة تأتي في الرواية كفعلِ تشظٍّ وانتهاكٍ وموتٍ لمن نكتب عنه، كما تذكر البطلة، سواء للآخر أو أي شيء، تحوله الكتابة إلى حروف ميتة. ففعل الكتابة يحمل تجزيئًا، أو هدمًا لهذه الوحدة التي هي الآخر، فالكلمات مثل البلور المكسور، ومن خلال هذا يحدث الانهيار الذاتي، لأننا بنينا صورتنا عن أنفسنا عبر صورة الآخر الذي يمنحنا التماسك، وبغياب وتجزيء الصورة يتحول الآخر إلى جثة عبر الكتابة عنه، ونحن أيضًا، فالكتابة تميت الآخرين، وتحجب العالم عن الذات، كأنها نسخة جديدة من الناقوس الزجاجي/ الشرنقة، الذي يعطل نمو الذات.
صندوق الخياطة
يلعب صندوق الخياطة، الذي كانت تستخدمه الأم ودادة آمنة ويحوي ذكريات ولفائف وخيوطًا، دور صندوق باندورا. داخل الصندوق يقبع هذا المقص الذي ضاع منه المسمار الذي يربط طرفيه قبل سفر البطلة. وبعد أن عادت، وجدته كما هو.
كان المقص مُعبرًا عن وحدة أخرى بين الزمان والمكان، اللذين ينتجان المعنى، وبضياع المسمار غاب المعنى، وحدث التيه النفسي والانفصال، بين الزمان والمكان داخل البطلة، وبسببه عانت أعراض الانهيار النفسي، عندما خرج اللا وعي بكل ذكرياته أثناء إقامتها في دبلن، في اتجاهات غير محسومة، بعد انفصال الزمان عن المكان.
في السفر تحرر اللا وعي، واستسلم الجسد الذي لم يتحمل هذه الحقيقة الغائبة عن الوحدة والوجود الأصلي، التي تجاوزتها تجربة الإنسان، ولم تتجاوزها تجربة الكاتبة بعد، وإن كانت في طريقها.
ولكن الأهم أنه تم استرداد الهوية الشخصية عبر هذا الانهيار الذي تعيشه الكاتبة في السفر، لأنه نزع الحاجز الزجاجي بينها وبين الخارج الاجتماعي. وأصبحت هناك إمكانية للقبول بصورة للعالم بين التشظي والوحدة، الأنا والمجموع، وكل التمثلات الثنائية المربكة لحياة الإنسان.
ربما عانت الكاتبة في الرواية تجربة التيه، ولكنه رسم لها إحداثيات جديدة، تحررت بها الأنا الداخلية، وأعاد لها موقعها بين الزمان والمكان.
يا بطل..
عندما علمت سمية بمرضي، كانت تُكثف مرورها عليَّ في الجاليري بعد أن نُقلِت للعمل في أكاديمية الفنون بالإسكندرية. أثناء خطوات العلاج، كانت تبعث لي برسائل لتطمئنَّ علي وتطمئنني، كانت تقول لي دائمًا "يا بطل"، وكانت الكلمة مشجعة.
بعد حوار لنا حول المشاعر التي تنتصب أمام أعيننا لحظة الإحساس بالخطر والدنو من الموت، ونقرأ منها مستقبلنا؛ أرسلت لي كتابًا للتعاليم الهرمسية، كانت ترى في أي تجربةِ ألمٍ وجهَها المخلص والمتجاوز، وخطوةً في سبيل الاقتراب من الروح الداخلية التي يجب أن نحفظ شعلة قنديلها ونمده بالزيت القديم، للحكمة والزهد والبحث عن الحقيقة.