كانت رائحة الفلافل تتصاعد كل يوم في السادسة صباحًا، وتصل إلى غرفتي في الطابق السادس بالمستشفى بمجرد أن أفتح شباك الغرفة ليدخل الهواء الطبيعي. تتسرب الرائحة من مطعم في الأسفل، يستعير اسم المطعم الأشهر في الإسكندرية "محمد أحمد".
كانت الرائحة تستثيرني، لما تمثله كرمز للحياة الحرشة، وليست الحياة المعقمة التي تحيطني، كنت أتندر مع الممرضات بأن يأتين لي بمحلول "الفلافل" بدلًا من المحاليل التي كان يتغذى عليها جسمي طوال اليوم. تحولت الفلافل مع الزمن، إلى رمز جمعي متفق عليه، كإحدى علامات الصحة، والإقبال على الحياة. يوميًا كنت أحلم بمذاقها الذي تخزنه ذاكرتي.
وأنا صغير، كنت أذهب لبائع الفلافل في حي "زعربانة" القريب من حينا، صباح كل جمعة، لأشتري الإفطار المميز ليوم الراحة. أندس وسط زحمة المنتظرين أمام المحل، بينما صاحبه وولداه يشعلان النار تحت المقلاة، ويخرجان عجينة الفلافل من المطحنة المصنوعة من حجر الجرانيت، ويضعان صفيحة الماء الساخن على قدرة الفول.
أقف محدقًا في النار، وسط هذه الجماعة الصباحية من سيدات يلبسن قمصان نوم حمراء تحت أرواب باهتة، أو جلابيب سوداء، وأطفال ببيجامات كستور مخططة، لا يزال النوم يتلاعب في عيونهم. نتجمهر حول المحل منجذبين للدفء المنبعث من داخله في ذلك اليوم الشتوي الممطر. كان حيًا بسيطًا في تركيبة سكانه، أو ما يسمونه حيًا خدميًا، لا نلجأ إليه إلا لشراء مايلزم حينا.
ذلك الحي الخدمي، على العكس من التسمية، كان يحمل ثراءً في كل تفاصيل حياته ودفء جماعاته التي كنت أصادفها وأتوحد معها في صباحات الإجازة المرحة.
كان حجم حبة الفلافل صغيرًا وكرويًا، بالقياس إلى حجمها الآن، ويعبئها البائع في قراطيس من أوراق كراسات العام الدراسي الفائت. في طريقي للبيت، أغتنم حبة أو اثنتين أو ثلاث حبات ساخنة من القرطاس المشرب بالزيت. لم أتخلَّ عن هذه العادة حتى الآن، فعندما أذهب لشراء الفلافل أحجز لنفسي عدة حبات ساخنة أتناولها في الطريق، تحيةً للطفل الذي كنته ذات يوم، وللصحبة الإنسانية التي كنت أشاركها الدفء في الصباحات الشتوية.
***
النعناع أيضًا كان من رموز طفولتي، برائحته أو بالروح الكامنة فيه. كانت هناك زجاجة صغيرة خضراء في بيت جدتي مكتوب عليها "روح النعناع". عدة نقاط من تلك الروح السائلة، على نصف كوب ماء؛ هو الدواء الذي اخترعته لنفسي إثر إصابتي بأزمة ضيق تنفس مفاجئة. إيماني بتلك الروح أنقذني كثيًرا.
بينما أنا ممدد على الكنبة في بيت جدتي، كجثة، أخذت تلك الروح تتسلل إلى جسدي، حتى وصلت لرئتي لتنفخ فيها هواءً باردًا محملًا برائحة النعناع، حتى انتعشت الرئة وعادت إلى انتظامها في الشهيق والزفير.
مزية الرائحة أنها تخترق الزمن، وتدخل على الذاكرة مباشرة ولا تستدعي فقط المذاق ولكن تستدعي كل ما علق به من متعة وحكايات وجماعات إنسانية
في المستشفى، كانت مفردات كثيرة من الطفولة حاضرةً. لا أعرف هل هي صدفة، أم أن هناك خطة يرسمها اللاوعي حتى ينقذ ويمد ذلك الجسد الطريح بكل ما يحبه، ويؤثر فيه. أتت صديقة ببوكيه صغير من النعناع. قطفت منه عدة أعواد وضعتها بجانبي على الوسادة، حتى تصلني رائحتها وتهدئ من توتري.
قبل عملية الاستئصال، كنت أريد أن أصحب معي، في غرفة العمليات، عودًا من النعناع ظللت أفركه بين أصابعي، وأقربه من أنفي. كنت ألوذ بالروح القديمة التي أنقذتني، بكل مفردات الماضي التي ستنقلني للمستقبل.
***
قطعة الصابون التي كانت تأتي بها عاملة النظافة يوميًا في المستشفى، كانت برائحة المانجو. ورغم رخص ثمنها كنت أستمتع بغسيل وجهي بها. بالمصادفة جاءت صديقة لزيارتي في المستشفى وحملت قفصًا من المانجو، جعلت الغرفة تنتقل في لمح البصر إلى إحدى حقولها، كجزيرة "ألفونتين" وسط نيل أسوان، التي قضينا بها عدة أيام منذ سنوات، كنا نتحرك بين أشجار المانجو ورائحتها، وثمارها الساقطة على الأرض.
هذه الرائحة المستفزة في كمالها، التي تشي بقوة الحياة وعنفوانها الذي لا يقبل بأي نقصان، ملأت مكان المعدة المُستأصلة، وملأت روحي برائحة الحياة التي تأتي من الخارج. ربما أحببت مذاق ورائحة المانجو بسبب ذلك الكمال المستفز، لأنها تكشف نقصاننا وهشاشتنا. الغريب أننا لم نتخذ من الفاكهة، أو من النبات، أو من الحيوانات "آخر" لنا، انكببنا على داخلنا، وأصبح "الآخر"، هو من يشبهنا فقط، وليس من يختلف عنا، جذريًا، في المولد، وطرق العيش، والمصير.
***
أثناء مكوثي في المستشفى، كنت أتغذى على الروائح التي تخزنها الذاكرة للأطعمة التي تحمل رموزًا شديدة الصلة بالحياة. مزية الرائحة أنها تخترق الزمن، وتدخل على الذاكرة مباشرةً ولا تستدعي فقط المذاق ولكن تستدعي كل ما علق به من متعة وحكايات وجماعات إنسانية تعيش بداخلها وتنتظر أن تتحرر وتلحق بالحاضر، عبر التذكر والاستدعاء.
زارتني هذه الجماعات، عبر الرائحة، في غرفتي بالمستشفى، لتؤنسني طوال مكوثي هناك. كان الجسر مفتوحًا مع طفولتي، وكل من مر بها، وتوهجت حزم الذكريات، كل منها كانت تحمل دفعةً للمستقبل الذي يعبر من خلال مسارات الماضي، وللحياة التي تنتظرني في الخارج. أنقذتني الحياة وجماعاتها وأزمنتها المتعددة.
تشدنا حاسة الشم أكثر لطفولتنا، تنضج الحواس ولكن تظل مشدودة لزمن ولادتها، تقاوم الكبر والشيخوخة، أو الموت بشكل عام
كنت أستحضر روائح الأشياء بذاكرتي مباشرة، حتى من دون حضورها المادي. أعرض على ذاكرتي مجموعةً من الروائح أتسلى بها كأني في مسابقة للتذكر، مثلما كان يعزف موتسارت على الهواء مباشرة، من دون فرقة أو آلات، كان يسمع السيمفونية كاملة داخل عقله.
البقدونس، التفاح، الذرة المشوية، الفلافل، المانجو، النعناع، الشاي الكشري، الفستق، الكنافة، الجوافة، رائحة خميرة الزبادي الذي كانت أمي تصنعه في البيت، حتى رائحة صندوق تخزين الملابس الشتوية، عند لحظة فتحه، بعد مرور الصيف ودخول الشتاء.
تتحول الرائحة إلى جزء من الذاكرة يمكن استدعائه في لحظات انفلات الزمن أو انقلابه علينا، لتعيد لنا ما فقدناه، أو تتدخل لتملأ الفجوات التي يسببها مروره الخشن، في حال المرض، أو النسيان.
تأتي الذاكرة لتفتح مخازنها من الحيوات والحكايات والروائح، ومن يقف وراءها من جماعات، فالرائحة رمز للجماعات التي نشتاق للعيش معها، أو بعثها من الموت، لتعيش هي معنا في المستقبل، حتى وهي غائبة.
لا شيء يموت داخل الذاكرة، وكل شيء قابل للاستدعاء طالما الجسر مفتوح بين الحاضر والماضي، وطالما هناك رغبة في التدخل بإرادتنا في مسار تيار الزمن، مثلما فعل الراوي في رواية "البحث عن الزمن الضائع"، لمارسيل بروست.
***
تشدنا حاسة الشم أكثر لطفولتنا، تجعلنا أطفالًا ونحن نتذكر كل ما يحيط بهذه الطفولة، تنضج الحواس ولكن تظل مشدودةً لزمن ولادتها، تقاوم الكبر والشيخوخة، أو الموت بشكل عام.
علميًا، حاسة الشم هي الأكثر قدرة على استعادة الذكريات، بسبب قدرتها على التسلل والذهاب مباشرة حيث مناطق الذاكرة في الدماغ. ربما كل الحواس من دون مبالغة هي مرآة لكشف طفولتنا.
أتذكر مارسيل بروست في عمله "البحث عن الزمن الضائع"، عندما استعاد بطل الرواية وهو ممدد على السرير في الفندق، مذاق ورائحة حلوى "المادلين" المغموسة في الشاي، التي كان يتناولها في منزل عمته وهو طفل، فيتبدل الزمن، وينبعث، عبر الرائحة، ذلك الماضي بكل قوة. وهنا أيضًا يقاوم بروست ضياع الزمن ببعث الماضي، ليصير حاضرًا ومستقبلًا معًا.
مذاق تلك الحلوى، ورائحتها، أحيا في نفس الراوي ماضيًا كان اعتقد لسنوات أنه دُفن بين رماد الذاكرة. أعادته رائحة الحلوى إلى بيت عمته، ليحلّ ذلك المكان الذي كان يقضي فيه عطلاته الصيفية، محل رفة الفندق، ويحل زمن الطفولة محل زمن الشباب، والماضي محل الحاضر، والمستقبل معًا.
تلك الحلوى الشهيرة، سريعة التحضير، التي لها شكل الصدفة؛ تتكون من مواد في غاية البساطة: دقيق وبيض وسكر، وفانيليا وليمون مبشور، وبيكينج باودر، وزبدة. ربما الليمون المبشور، داخل نسيج العجينة، لعب دور المحفز الإضافي لالتقاط الماضي وتثبيته، فرائحة الليمون من الروائح النفاذة القادرة على التثبت في الذاكرة.
ولكن هذه الذاكرة أيضًا، القادرة على إيقاف عجلة الزمن، واستدعاء الماضي أمام الحاضر وتجميد المستقبل؛ هي كذلك هشة، ربما تدعمها الروائح وتقوِّي من وجودها، ولكنَّ هذا الوجود يعوم فوق بحيرة من النسيان المفاجئ، فالذاكرة في الأصل مجموعة من الخلايا العصبية القابلة للتلف والشيخوخة، وعندها تموت الأزمنة جميعًا داخل ظلام قشرة الدماغ، حيث تتواجد صور الحياة ومذاقاتها وروائحها الأثيرة.