
تأمّلات حول مشهد تسليم الأسيرات
يعتبر مشهد تسليم الأسيرات الإسرائيليات الثلاث للصليب الأحمر، يوم 19 يناير/كانون الثاني الماضي، ضمن صفقة وقف الحرب على غزة، من المشاهد الدالة التي تتقاطع داخلها العديد من المشاعر والصور والدلالات.
ربما للوهلة الأولى، عند رؤية المشهد، مع حضور هذه الحشود الكثيفة من جنود كتائب القسام بملابسهم العسكرية وبنادقهم ولثمهم؛ يتضح أن الغرض من إخراج المشهد بهذه الصورة، من طرف حماس، استعراض القوة وتصدير فكرة الانتصار أمام هذا الآخر الذي يشاهده سواء على شاشات العالم، وأيضًا، وهذا هو الأهم، أمام الآخر/العدو.
الآخر الذي يتشكل تبعًا لدرجة عميقة من القرب، المجازي أو المادي، هو الصديق، الذي يعتبر جزءًا، وامتدادًا لهذه الأنا الفلسطينية، وهو أيضًا العدو، الذي يهدد هذه الأنا. وهذا الاستعراض يحمل رسالة مباشرة له، على أن حماس، التي تمثّل هذه الأنا الفلسطينية، داخل هذا المشهد، لا تزال باقية، حتى بعد كل التداعيات التي أتت بها 7 أكتوبر.
وداع ضمني
بجانب استعراض القوة وتثبيت المكانة، هناك عدة صور أخرى يشف عنها المشهد، لها دلالة رسمية، منها أن حضور هذه القوة العسكرية بهذه الكثافة والشكل كان بغرض تأمين وحماية الأسيرات الثلاث عند تسليمهن، كجزء من حضور لدولة غير مرئية لم يظهر منها إلا هذه القوة العسكرية.
ولكن يطفو مشهد آخر، فوق هذه المشاهد، له حس الوداع العاطفي. بجانب فضول الفرجة، من قِبل الحاضرين، هناك مظاهر وداع تتسرب من طرف هذه الحشود الفلسطينية للأسيرات الثلاث.
تلمح رغبة من الأطفال والشباب والكبار المحتشدين في تلك الساحة، التي أصبحت مكان التمثيل للعقل الجمعي الفلسطيني، بعد تدمير كل المراكز داخل المدينة التي تم إبادتها؛ في إلقاء نظرة أخيرة على الفتيات ورفع أيديهم لهن بالتحية، كوداع ضمني مفتوح.
كان الحاضرون في حالة يوفوريا وهياج جمعيين، وصيحات التكبير في صباحية الأعياد تحيط بالمشهد من كل جانب، بينما عدسات الموبايلات مشرعة في كل الاتجاهات، تسجل اللحظة من عدة زوايا.
تذكرني هذه الكاميرات بثورة يناير، التي أصبح كل من حضرها يملك أرشيفًا فوتوغرافيًا شخصيًا لها، يعكس زاويته في الرؤية، وربما لن تكتمل الصورة إلا بأن يتجمع كل هؤلاء، مرة أخرى، ويلصقون صورهم ببعضها البعض.
ما بين موقفي الوداع ورغبة الاستبقاء تظهر خريطة التقسيم المجازية/النفسية ويظهر تعقيد هذا المشهد المفتوح أمام كل الاحتمالات
بينما هناك آخرون من الحشد تسّلقوا الهيكل الحديدي لأحد الإعلانات الكبيرة، اعتلى جنود القسام سطح عربات الصليب الأحمر رافعين شعار النصر، ليفسحوا الطريق لها، بينما الجموع يضيِّقون المسافة التي تسير فيها عربة الأسيرات، محاولين أن يلمسوها بأطراف أصابعهم؛ كأنهم يلمسون هذا الجسد البعيد الذي أصبح فجأة قريبًا، بدون رهبة أو خوف. الجسد الذي كان يعيش بينهم لخمسة عشر شهرًا تحت قصف القنابل، ثم أصبح فجأة على وشك التلاشي. أستشعر رغبة بالاستبقاء لهذا الزمن الذي قضينه بينهم.
ما بين موقفي الوداع ورغبة الاستبقاء تظهر خريطة التقسيم المجازية/النفسية، ويظهر تعقيد هذا المشهد المفتوح أمام كل الاحتمالات، والذي يطرح تناقضات عدة، ويدخِل العاطفة المستحيلة إلى مجال السياسة من أوسع الأبواب.
ذكرني مشهد الحشود التي تحوط سيارة الأسيرات، بسنوات الابتدائي والإعدادي عندما كنا نخرج نحن تلاميذ المدارس الحكومية لنصطف لساعات على جانبي الطريق الرئيسي لنشاهد مواكب الرؤساء، وعند اقتراب العربة المستهدفة تحدث حالة يوفوريا وهياج وخروج عن الصف غير متوقعة ليقترب الحشد من هذه الدائرة المحرمة، حيث يقبع رئيس الدولة بمفرده أو مع ضيفه، ليلمس العربة كنسخة من جسد الرئيس، القريب/البعيد في آن، القابع في عمق المشهد.
حكى لي أحد الباعة، أنه في يوم ما أثناء مرور موكب الزعيم عبد الناصر، عندما اقترب منه الموكب، من شدّة فرحه ووقع المفاجأة، طوح ببضاعته، التي تمثل رأسماله، كلها في الهواء، فوق رؤوس الحشد، ليلمس كصوفي مسّه الوجد جسد الزعيم في خياله.
نديَّة عادلة
ربما هناك حس خفي بالانجذاب المضطرب بين الحشود والفتيات الثلاث الأسيرات، بالرغم من تاريخ العداوة والصراع، وسنوات الاحتلال. ربما هذا الانجذاب أحد الحلول المستحيلة للقضية، الحل الذي تلجأ له عادة الأفلام التي تناولت تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي لإيجاد أرض عاطفية له يتم من خلالها التسوية، مثل فيلم Hanna k لكوستا جافراس، أو تلك الأرض العاطفية التي لجأ لها الشاعر محمود درويش الذي كتب في إحدى قصائده المبكرة عن ريتا حبيبته اليهودية "بين ريتا وعيوني بندقية"، فقد كان تاريخ الحب بين عينيه وعيني ريتا حبيبته، أسبق من حضور البندقية، حتى ولو وُلدَ بعدها، فالحب له الأسبقية لأنه يمد في عمر الحياة.
لا شك أن الآخر اليهودي/الإسرائيلي له تأثير على الأنا الفلسطينية، يمتلك جاذبية ما داخل هذه الدائرة المغلقة من الصراع، فهو ليس فقط العدو، ولكنه المحتل القريب في المسافة، الذي يشغل الأرض نفسها. والتغلب عليه، أو الندية معه، بالحب مثلًا، مكان لإثبات الذات والثقة فيها بالنسبة للفلسطيني، فالانجذاب اللاشعوري لهذا الآخر طبيعي، مثل الرابطة المعقدة بين المستعمِر والمستعمَر.
في حالة التسليم التي جرت في العام الماضي، ظهر بوضوح فرح الأسيرات، فقد أظهرن صورة جديدة من لاشعورهن تجاه الفلسطينين، كن فرحات بالنجاة، وربما أيضًا فرحات بلمس هذا الجسد الفلسطيني المجازي عبر هذه المسافة القريبة، وحرصهن على صورتهن داخل عين الآخر الفلسطيني.
لا أنسى إحدى أسيرات العام الماضي التي كانت تسير على عكاز معدني وكادت تبكي عند إطلاق سراحها، مشهد وداع حار، عكَسَ تمامًا السياق الذي يجري فيه التسليم والقوى النفسية التي تتحكم فيه.
ربما وجود الطرفين داخل مكان الأسر، وجهًا لوجه، سمح بسريان المشاعر في اتجاه غير متوقع. ربما لأن ظروف القوى داخل هذا المكان الرمزي تغيّرت، أو منحت الفلسطينيين، للمرة الأولى، السبق، في ألّا يشغلوا المكان الأضعف، في العلاقة مع هذا الآخر، فعاد ميزان القوى ليفرّق المشاعر العادلة ومن خلفها تولدت مشاعر الوداع تلك، وهي مشاعر عادلة لا يتبادلها إلا الأنداد.
الندية أعادت وفتحت مسارًا لمثل هذه المشاعر. سواء التي رأيناها في العام الماضي، أو عند عملية تسليم الأسيرات الثلاث الأخيرة. ربما هذا التداخل، مع توفّر الندية، يعيد تاريخ ما قبل تحول هذا الآخر/الجار اليهودي إلى حركة استعمارية قبل عام 1948، وهي إحدى طبقات المشهد الذي ظهر على الملأ أمام الشاشات.
خصوصية مشهد تسليم الشهادات
نصل لمشهد تسليمهم الشهادات الخاصة بتعلم اللغة العربية الذي يحمل طابعًا رسميًا، وبالطبع هناك رغبة في هذا، فهو اعتراف ضمني بأن هذا العدو المحتل/الآخر أو من ينتمي لمعسكره، أصبح جزءًا من نسيج اللغة التي تشارك في تشكيل الأنا والهوية الفلسطينية، فاللغة مدخل لفهم الآخر/العدو. ربما هناك صبغة دينية في طقس تعليمهم اللغة العربية، أو ربما رغبة مضمرة، بجانب معرفة الآخر، في هدايته بمنحه مفتاح تلك اللغة المقدسة.
مهما حدث من تبسيط وارتجال في مشهد تسليم الشهادات، المعد سلفًا، الذي تم والأسيرات الثلاث داخل العربة التي على وشك الرحيل؛ يظل المشهد يحمل هذا الطابع الرسمي، كأنه يحدث بين مندوبين لبلدين، يسلّم كل منهما للآخر وثيقة معاهدة طويلة الأجل. فالجنود يقدمون من ناحيتهم هذه الوثيقة المكتوبة، بينما الأسيرات بقبولهن هذه الوثيقة والهدايا المصاحبة لها، ينُبن عن آخرين، كمسار جانبي واستثنائي للقبول والتفاهم المستقبلي.
غزة مكان التمثيل الآن
أصبحت غزة مكان التمثيل، وتوليد الدلالات المتعددة، بعد أن تم إبادتها، وصارت أرضًا فضاء كأرض الميعاد التي يبدأ فيها من جديد كتابة التاريخ، والتي ينتظرها العديد من الرسالات، والأنبياء الحق، أوالكذبة، والمخططات المشبوهة، فهذا الخراب وهذه الإبادة اللتين تعرضت لهما، يعكسان صورة المستقبل، لبناء غزة الجديدة.
لا توجد قوة عالمية الآن يمكنها أن تمنح المصداقية أو حق التمثيل لأحد، إلا قوة الحد الأقصى للفعل والمعنى كما حدث في غزة. حتى ولو كان هذا الشعب لا يملك شيئًا، فحزنه وألمه وتعرضه للفناء، هو ما يملكه ليقف به أمام المستقبل ومخططاته، وصراعاته.
ربما القوة الوحيدة الآن هي البحث عن الاستحالة، كما ردد جيفارا يومًا ما، وسط نقاء سريرة الفعل الثوري في الستينيات: "كونوا واقعيين.. واطلبوا المستحيل". داخل هذا المستحيل ينتظر الحق.
ربما الشعب الفلسطيني لم يتعرض، بشكل مباشر، لفناء يساوي ما فعلته القنبلة الذرية في هيروشيما ونجازاكي، ولكن طوال هذا التاريخ من الاستعمار، والاستعلاء، والاستيلاء على الأرض، والاستبعاد، والتقتيل، وتقليص حقه في العودة، صنع في المخيلة الجمعية صوت هذا الانفجار، وربما أشد. وأصبحنا جميعا نراه، بل ونسمعه.
هذه البقعة من الأرض لن تعود مكانًا هادئًا بعد الآن، لقد تحركت الأعماق من تحتها واستُثيرت طبقات التاريخ المخزون والمتراكم حول الهيكل المُعذَّب لفلسطين المحتلة في صورة غزة.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.