منذ عرف الإنسان التقويم صار عنده تاريخ وحضارة، وهذا حَسن، لكنَّ غير الحسن أنه لم يعد قادرًا على حذف يوم من التقويم الذي ارتضاه لأيامه. لو افترضنا أنَّ هذا ممكن، لحذفنا يوم 25 يناير من الرزنامة واسترحنا.
لم يعد هناك شيء يجمع الشعوب المصرية بقدر ما تجمعها الرغبة في حذف 25 يناير من ذاكرتها. لكنَّ هذه الرغبة في النسيان لا تزيد الذكرى إلا رسوخًا عامًا بعد عام. لا يحمل اليوم إلا مضاعفة مشاعر القلق والحزن واليأس والأمل والشماتة لدى الشعوب المصرية المتكارهة.
كلُّ شعور من هذه المشاعر يخص شعبًا من الشعوب المصرية دون غيره، بعد ضياع فرصة جمع المصريين حول فكرة أو هدف أو مشاعر. القلق لا يفارق المنتصرين طوال أيامهم ولياليهم، يترجمونه طوال العام في شكل تحذيرات "إن ما حدث في 25 يناير لن يتكرر أبدًا" أو "إن البلاد التي تقع لا تقوم ثانية بسهولة"، كما يترجمونه في شكل مشروعات خرقاء هاجسها الأمن لا التنمية، ويترجمونه في أيام الذكرى بشكل استنفار أمني.
في المقابل، يتجدد أمل شعب الإخوان، حليف المنتصرين الذي انقلب عدوًا. أمل وتربص بسبب ما يراه من إخفاق لم يعد ينكره المنتصرون الذين يطالبون الشعوب المصرية بالصبر. ويرى في 25 يناير فرصة لثورة لها هدف جديد واضح ومعلن؛ هو الأخذ بالثأر وربما عودة المهدي المنتظر محمد مرسي ليملأ الأرض عدلًا بعد أن امتلأت جورًا. وكأن التاريخ لم يخصص لمصر غير 25 يناير يومًا للتغيير أو للثأر، أو للفوضى، حسب التسمية المعتمدة لذلك اليوم لدى كل شعب أو فصيل!
وأما الشماتة فنراها في عيون عشاق الاستبداد العاقل والفساد المنظم والنهب على مهل، أنصار مبارك "الحسين الذي تعرض للخيانة"، وفي تصورهم أنَّ ما نعيشه من ضيق وغموض مصير ليس سوى العقاب الإلهي للشعوب المصرية التي هتفت تطلب العيش والحرية والعدالة الاجتماعية، التي كانت موجودة، والحق يقال، في حدودها الدنيا.
الشيء الوحيد الذي يجمع الشعوب المصرية هو غياب طعم الفرح. حتى المنتصر لا يستطيع الادعاء بأنه سعيد
ويبقى الحزن الصامت من نصيب أبناء 25 يناير الذين اهتزت قلوبهم لرياح الأمل خلال 18 يومًا، أحسوا فيها بأنهم قادرون على تغيير وجه الحياة واستعادة مصر للمصريين باستعادة وجه العدالة المفقود. بعضهم قطع دراسته في الخارج وعاد، لأن مصر ستغدو بلدًا تصلح للعيش. شعب 25 يناير أو من تبقى منه هو الشعب الوحيد المغيب، لأنَّ بقية الشعوب لا تريده.
أغلبية صامتة وأقليات صاخبة
وبين كل هذه الأقليات الصغيرة، هناك شعب الأغلبية الصامتة الذي ثار بعد أن توهم نجاح الثورة، ورقص أمام اللجان عندما انغلق بابها، وارتضى كرتونة الزيت والرز بديلًا للحلم. ذلك الشعب العريض عرضة لكل المشاعر المتناقضة معًا، فـ25 يناير بالنسبة له كانت حلمًا وكابوسًا وأملًا وألمًا، يحزن على الحسين مع الحزانى وينتظر المهدي مع منتظريه ويرضى أحيانًا بأنَّ حاله لم يصل إلى حال سوريا والعراق. لم يكن السودان دخل إلى المقصلة بعد.
هذا الشعب راضٍ بما عاشه بعد يناير فقرًا وذلًا وأمانًا. وبقدر ارتباك مشاعره فهو شعب خطر، يُغري المنتصر باستسلامه غير المضمون، لأنه يترك نفسه للغالب إلى أن يظهر الأقوى منه.
الشيء الوحيد الذي يجمع تلك الشعوب المصرية هو غياب طعم الفرح. حتى المنتصر لا يستطيع الادعاء بأنه سعيد. ولديه من التوجس ما يقتل كل فرح. الثائرون وحدهم لديهم ذكرى أفراح الثمانية عشر يومًا، لكنَّ ذكرى الفرح ليست فرحًا بل غاية في الكآبة والحزن، لأنَّ غياب النعمة أقسى بعد معرفة طعمها.
هكذا تظل 25 يناير حية ولا تموت ذكراها لدى كل الشعوب المصرية. تطل على الجميع كل عام بحزنها وقلقها وألمها وأملها وشماتتها دون أن يكون بيد أي من الأطراف أن يفعل شيئًا، باستثناء الطرف المنتصر، فهو الوحيد الذي يستطيع لكنه لا يريد، متظاهرًا بتصديق الصورة التي رسمها بنفسه لثورة يناير وسوقها لدى شعب الأغلبية البسيطة في صورة المؤامرة التي هدمت مصر.
لو آمن الطرف المسوِّق لهذه الأسطورة بها، لكان من واجبه العمل على تفكيكها، وربما ما أصبحنا في هذا المأزق الحاسم اليوم، لأنه ببساطة كان سيجمع الشعوب المصرية حوله لعلاج آثار المؤامرة. لكنه يعرف أنها ثورة، ولعنتها في عدم الإجابة عن أسئلتها: العيش، الحرية، العدالة.
يخطئ التاريخ أحيانًا، يكرر الفرص أو لا يكررها، يتكرر أحيانًا في شكل ملهاة وأحيانًا في شكل مأساة، لكنَّ قاعدته التي لا تخيب تقول بأنَّ تحقيق آلام الشعوب أقل تكلفة من دفنها. ولم يكن من الصعب تحقيق بعض من أحلام ثورة يناير، وكان من شأن ذلك أن يجمع الناس حول المنتصرين؛ فالثورة ليست هدفًا بحد ذاتها، لكنَّ مطالبها هي الهدف. كانت حركة ضباط يوليو انقلابًا، سرعان ما سمَّاه المصريون طواعية "ثورة"، لأنه حقق الأهداف التي تحققها الثورات.
الوعد الوحيد الذي تحقق والشيء الوحيد المضمون في ذكرى 25 يناير أنها لن تتكرر أبدًا
وما كان لتحقيق بعض الأحلام في تعليم كفء وعلاج وفرص عمل ليكون أكثر تكلفة من الفرار بالسلطة إلى عاصمة حصينة في الصحراء، وأخرى بين البحر والصحراء في العلمين، والطرق والكباري التي أقيمت أساسًا لمنع تكرار 25 يناير. وكان تحقيق حلم الحرية كفيلًا بتوفير قوة التفاوض مع الخارج وتحقيق المكانة اللائقة في الإقليم.
كانت معادلة الشعب الحر والجيش القوي كفيلة بأن تجعل من القاهرة حجرَ زاويةِ محيطِها، كما ينبغي أن تكون بحكم مواردها البشرية والطبيعية غير المهدرة، لا بحكم حقٍّ إلهي أو بسبب تفوق الإنسان المصري، مثلما يحب الإعلام الشوفيني الجاهل أن يزعم منذ 1952 إلى اليوم ونحن في أسوأ أحوالنا!
احتمالات أكثر خطورة
اليوم، بعد 13 عامًا على يناير وبعد 11 عامًا على يونيو 2013 تتجسد لعنة الذكرى، وخطيئة عناد الأحلام بمستوى لم تصل إليه من قبل، بسبب تدهور الأوضاع الاقتصادية للمواطن وتآكل الملكية العامة وأخطار الفقر المائي دون أفق يحدد المدى الذي يمكن أن يتوقف عنده بيع الأصول، وتآكل الهيبة والأخطار التي تحيق بنا من كل الحدود، وإحساس أغلبية الشعوب المصرية بمذلة العجز وخجل التقصير مع غزة والسودان بحكم المشاعر القومية والإنسانية وبحكم المصالح أيضًا.
الدعوات على السوشيال ميديا للعصيان أو النزول للشارع تريد استثمار ذكرى اللعنة، والتحذيرات يطلقها المنتصر خوفًا من شبح اللعنة، ودعوات للرضا بالبؤس يطلقها الأثرياء من نجوم الأمنعلام في قنوات لا نراها بل نرى مقتبساتها المصورة على السوشيال ميديا، بمستوياتها الفاجرة في انعدام المسؤولية وانعدام الضمير.
وأصحاب الضمير والغيرة الوطنية في مكان آخر يصرخون بالحلول. لكن لا أحد يسمع، وكأن صوت العقل محجوب وراء زجاج عازل، بينما ينحدر الواقع نحو لعنة تطارد الشعوب المصرية في أمانها وأرزاقها وحريتها وعزتها.
الوعد الوحيد الذي تحقق والشيء الوحيد المضمون في ذكرى 25 يناير أنها لن تتكرر أبدًا؛ فمع إغلاق الباب أمام الحراك السياسي، لن يكون هناك شباب يكنسون الميادين ويعيدون طلاء أسوار الكباري على النيل. ماتت أحلام هؤلاء وأخليت الساحة للاحتمالات الخطرة.
لا يتجلى الغضب بمظهر واحد في مرتين. ربما يبدو تعبير "ثورة الجياع" تعبيرًا ازدرائيًّا متعاليًا على الفقراء، لكنَّ الفوضى هي البديل الوحيد عند انغلاق الأفق السياسي. وتشبث المنتصرين بالمعادلة الصفرية مقامرة تضع المستقبل رهن الصدفة، حيث تكون لحظة الخطر مباغتة، في أي ساعة وأي يوم وأي شهر، بينما تبقى للخامس والعشرين من يناير غصة الفرصة التي ضاعت.