كثيرًا ما سمعنا فتاةً أو امرأةً فلسطينيةً وسط بيوتٍ مُهدَّمة تستغيثُ ملهوفةً، ثم تتساءل في أسىً: أين العرب؟ يتكرر السؤال على ألسنة كثيرة؛ شيوخ طاعنين في السن، وشباب لا يزالون يُعوِّلون على أن العرب، شعوبًا كانوا أو سلطات حاكمة، بوسعهم أن يفعلوا شيئًا في سبيل وقف آلة القتل والتدمير الإسرائيلية.
لكنَّ الموقف العربي مما يجري في غزة، سواء على مستوى جامعة الدول العربية أو أغلب الدول فرادى، لا يزال خجولًا للغاية قياسًا إلى فظاعة أن ما يجري هو سعي إسرائيلي إلى تصفية القضية الفلسطينية تمامًا، بتهجير سكان قطاع غزة والضفة الغربية بل وفلسطيني الـ 48، إن وُجِد السبيل إلى ذلك.
في كل المواجهات التي جرت بين الفلسطينيين والإسرائيليين لم يكن الموقف العربي بهذا الضَعف، على مستوى رد فعل الإدارات وقوى المجتمع المدني والتنظيمات السياسية من الأحزاب والحركات الاجتماعية، وكذلك الشعوب التي لا يزال أغلبها يدرك أن لافتة "فلسطين قضية العرب المركزية" لم تسقط بعد.
أما هذه المرة فقد جرت في النهر العربي مياه عكرة غزيرة، جعلت مخرجاته لا تكافئ هول الحدث، ولا استجابته على قدر التحدي، وحَدَت بقطاعٍ عريض من الفلسطينيين إلى الإيمان أكثر بأن نصرة قضيتهم لن تكون إلا بالاعتماد على أنفسهم.
وأعتقد أن هناك عوامل عدة ساهمت في إنتاج هذا الموقف العربي الضعيف، على مستوى الحكومات وأيضًا على مستوى الشعوب.
الشرخ الفلسطيني وشظاياه الإقليمية
لعلَّ أولها الدعاية السلبية التي ساحت في الفضاء الإعلامي العربي منذ 17 عامًا، حين حدث الشرخ الفلسطيني بالصراع بين السلطة الفلسطينية وحركة المقاومة الإسلامية حماس. فمنذ ذلك التاريخ، تسممت الذهنية العربية بأخبار هذا الشقاق، وما تفاقم عنه من خلافات بين أنظمة الحكم العربية حول الطرف الفلسطيني الذي ينبغي تأييده في هذا الصراع.
وبينما تقرر كل دولة عربية الطرف الفلسطيني الذي ستنحاز إليه، فإنها كثيرًا ما قاربت موقفها هذا من زاوية موقفها من حماس باعتبارها امتدادًا لجماعة الإخوان المسلمين، وهو ما انعكس على مخاوفها في الحرب الراهنة من أن يمنح أي نصر أو صمود للمقاومة؛ تيار الإسلام السياسي قبلة الحياة في المجتمعات العربية.
تشكِّل مقاومة ذلك أولوية بالنسبة لأغلب الحكومات العربية المؤثرة، بسبب صراعاتها الداخلية مع هذا التيار، التي اشتدَّت في ركاب الربيع العربي. فجاءت مواقفها لا تفرِّق بين فصائل تقاوم احتلالًا متَّكئةً على مشروعية يمنحها القانون الدولي، وجماعات تسعى إلى السلطة داخل بعض الدول العربية، انزلق بعضها في سعيه هذا إلى العنف المسلح أو الإرهاب.
ثم جاءت زاوية أخرى لمقاربة الصراع، تتعلق بالارتباط العضوي لبقية أطراف المقاومة في لبنان واليمن والعراق، بالمشروع الإيراني في المنطقة، الذي تراه دول الخليج العربية تهديدًا مباشرًا لها، لذلك فانتهاء الحرب بانتصار هذا الطرف من شأنه أن يعزز هذا المشروع مستقبلًا. ولا يمكن في هذا نسيان تأثير مشاركة حزب الله في مساندة نظام بشار الأسد.
لا ترى الدول العربية دورًا لها في المعركة يتعدى إيصال المساعدات أثناء الحرب والمساعدة في إعادة الإعمار لاحقًا
وعزز من ذلك الشرخ الذي أصاب الموقف العربي نفسه قبل طوفان الأقصى، بذهاب بعض الدول العربية إلى توقيع اتفاقيات سلام مع إسرائيل، وتطبيع العلاقات بصيغٍ أكثر حميمية مما جرى من قبل مع مصر والأردن من سلام طالما وصفته إسرائيل بأنه "بارد"، بالإضافة إلى مساعي التطبيع مع دول عربية أخرى، ونقل اتفاقات تجارية مع دول عربية إلى علاقات دبلوماسية كاملة.
انعكس ذلك بدوره على مقاربة أنظمة الحكم العربية للحرب الراهنة، فبعضها اعتبر الدافع خلف طوفان الأقصى كان إفساد هذا السلام والتطبيع، وهناك من ضاق من الإحراج الذي سببته له الحرب أمام شعبه، وتذرَّعت أنظمة بالأثر السلبي للحرب على "حل الدولتين" الذي تسوق له هذه الدول، بل وصلت الحال أحيانًا إلى وصف الطوفان بالمؤامرة على القضية الفلسطينية نفسها، أو على الأقل مغامرة تضر أكثر مما تنفع، حتى لو صمدت المقاومة، أو كشفت نقاط ضعف جيش الاحتلال الإسرائيلي.
ولا يمكن في هذا المقام إنكار المقاربة العربية المعهودة للصراع مع إسرائيل من موقع الضعف في مواجهة الدولة المدعومة بشكل كامل من الغرب، وخصوصًا الولايات المتحدة. وبذلك، فإن أي تصعيد غاضب على مستوى الخطاب أو الممارسة ضدها سيثير حفيظة هذا الغرب الذي تربطه مصالح مباشرة مع أغلب الدول العربية.
وهنا تضيق أمام كثير من أنظمة الحكم العربية مساحة التحرك، لا سيما مع افتقادها إرادة الفعل الإيجابي، وقد لا ترى دورًا لها في المعركة يتعدى إيصال المساعدات أثناء الحرب والمساعدة في إعادة الإعمار لاحقًا بعد أن تضع الحرب أوزارها، والعودة مرة أخرى إلى طرح "حل الدولتين" الذي ترفضه إسرائيل أصلًا.
وألقت أوضاع الدول العربية فرادى بظلال كثيفة على جامعة الدول العربية، فأضيف إلى عجزها التقليدي عجزًا آخر، فلم يأتِ أداؤها على مستوى الحدث، بل فتحت بابًا أوسع للشكوك حول جدواها الآن، وعن إمكانية استمرارها على قيد الحياة السياسية كمنظمة إقليمية.
سنوات العجز والاعتياد
أما على مستوى الشعوب، فهي تخضع منذ سنوات لأنظمة تعمل بقوة على كبت رغباتها في أعقاب الاضطرابات الداخلية التي أعقبت ثورات وانتفاضات تونس ومصر وليبيا وسوريا والبحرين واليمن والجزائر والسودان، وما تركته من مخاوف في قلوب وعقول بقية الأنظمة خوفًا من امتداد الاحتجاجات إليها.
في ظل هذا الوضع، منعت أنظمةٌ شعوبَها بالقوة من أن تحذو حذو نظيرتها الأوروبية في الخروج إلى الشارع للتعبير عن الغضب من الإبادة الجماعية في غزة، تحسبًا لارتداد أي احتجاجات على مصلحة أنظمة حكم لا يعنيها سوى بقاء القاعدة التي تؤمن بها دومًا، وهي "الاستقرار والاستمرار".
وزاد من وطأة الأمر تآلف العرب مع مشاهد الدم والدمار، بعد أن عرفتها وعركتها وكابدتها شعوب عربية عدة، تحولت ثوراتها وانتفاضاتها إلى حروب أهلية وانقسامات مثل سوريا واليمن، وصراعات مسلحة مثل ليبيا والسودان، وانتقال دموي للسلطة مثلما حدث في مصر.
مشاهد البراميل المتفجرة وهي تسقط على رؤوس الناس في سوريا، وأصوات قصف المدافع والطائرات التي دكت اليمن والسودان وليبيا، والرؤوس التي قُطِعت على يد مقاتلي داعش في العراق وسوريا، والنساء اللاتي تعرضن للاغتصاب على يد ميليشيات الدعم السريع في السودان، سهَّلت على ملايين العرب اعتياد مشاهد الإبادة في غزة، بدرجة من التبلد.
ومع عجز الأنظمة العربية عن الفعل في مواجهة إسرائيل، وانشغال الشعوب بأحوالها الداخلية بين المنهمكين في تحصيل أقواتهم الشحيحة في ظل أوضاع اقتصادية صعبة، والخائفين من أن يفيض الغضب فيصنع اضطرابًا جديدًا يهز أركان ما بقي من تماسك دولة هشة ومجتمع منقسم، وإدراك كثيرين عجزهم عن فعل أي شيء تحت سلطان الرقابة الصارمة والقمع الشديد، تتبلور صورة العجز العربي الكامل عن وقف الإبادة، فضلًا عن معاقبة مرتكبها.