يوم الأربعاء الماضي، نظَّمت الدعوة السلفية في الإسكندرية ندوة بعنون "المنطقة العربية بين المشروع الصهيوني والمشروع الشيعي"، تحدث فيها ياسر برهامي، نجم الحركة السلفية في مرحلة ما بعد ثورة 25 يناير، ومعه الدكتور محمد إبراهيم منصور والشيخ عبد المنعم الشحات. ربما نسي البعض الشيخين برهامي والشحات بعد أن أفل نجمهما في السنوات الأخيرة، بعد إزاحة جماعة الإخوان المسلمين عن الحكم، وإعلان الحركة السلفية دعمها للنظام الحالي.
وبما أن الذكرى تنفع المؤمنين، فإن برهامي، نائب رئيس الدعوة السلفية، كان في مقدمة الداعين لتخفيض سن الزواج للفتيات زعمًا بأن "الإسلام لم يحدد سنًّا معينة لزواج الفتاة، وأنه يجوز زواجها في أي وقت" طالما بلغها الحيض وتحتمل المعاشرة، وبغض النظر عن القانون القائم والذي يمنع زواج القاصرات ويحدد سن الثامنة عشرة حدًا أدنى.
كما تسرب لبرهامي فيديو شهير في ديسمبر/كانون الأول 2012 كان يخاطب فيه شيوخ السلفية ويحثهم على دعم الدستور الذي شارك في صياغته بالتعاون مع نواب جماعة الإخوان، لأنه يتوافق مع مفهومهم الضيق للشريعة الإسلامية ويفرض الكثير من القيود على حرية الرأي والتعبير "بموافقة النصارى والليبراليين". أما الشيخ الشحات فأثار زوبعة عندما أفتى في نهاية عام 2011 لأن التماثيلَ الفرعونية أصنامٌ ولا بد من تغطية وجوهها بالشمع.
للأسف لم أتمكن من حضور ندوة الإسكندرية، الأسبوع الماضي، ولكن الكتاب يُقرأ من عنوانه، كما نقول، وعنوان الندوة وحده يعكس أن الحركة السلفية تساوي المشروعين الصهيوني والشيعي باعتبارهما خطرًا يهدد أمة الإسلام، وهو موقف يقترب من السياسة غير المعلنة لدول الخليج النفطية، وتحديدًا السعودية والإمارات، وهي تشعر أن الخطر الإيراني/الفارسي/الشيعي أقرب وأكبر وأكثر إلحاحًا من المشروع الصهيوني القائم على احتلال فلسطين وأراضٍ عربية أخرى.
ولعل هذه المواقف لقطاع لا يستهان به من أنصار الحركة السلفية وتيار الإسلام السياسي السني في العالم العربي، كما يتضح من السوشيال ميديا، وكذلك الموقف الرسمي لدول الخليج المؤثرة، هما ما يفسران إلى حد ما كيف تستمر حرب الإبادة الصهيونية ضد الشعبين الفلسطيني واللبناني بلا هوادة على مدى ما يزيد عن العام، رغم هذا العدد المهول المرعب من الشهداء والمصابين، مع شعور بالاطمئنان من الإسرائيليين بأن حدود مواقف الدول العربية المؤثرة لن تتجاوز بيانات الشجب والإدانة علنًا، وربما التشجيع سرًا.
بعكس براجماتية الإخوان تبنّى السلفيون موقفًا متشددًا من إيران باعتبارهم الشيعة خطرًا على العقيدة
فكل المجموعات التي تقود لواء المقاومة الآن في فلسطين ولبنان واليمن والعراق تحت شعار "وحدة الساحات"، تحظى بدعم وتسليح مباشر من إيران. وبالتالي فإن انتصار هذه الحركات وإجبار إسرائيل على وقف القتال في غزة من دون سحق حماس وقادتها تمامًا سيعني عمليًا انتصار إيران الشيعية، الخصم اللدود لدول الخليج الثرية، وتعاظم دورها الإقليمي.
وبينما قد يحتفي مؤيدو المقاومة لتحرير فلسطين ومواجهة العدو الصهيوني بكل مجموعاتها بغض النظر عن أيديولوجيتها أو عقيدتها، فإن وجهة النظر تبدو ساذجة وغير قادرة على إدراك حجم الخطر الذي تمثله إيران، بسعيها للهيمنة الإقليمية ونشر عقيدتها الشيعية، على دول الخليج والحركات السلفية.
فبالنسبة للنظام السعودي، سيمثل القضاء على الحوثيين الذين تمولهم إيران وتولَّى تدريبهم حزب الله اللبناني، الإنجاز الذي فشلوا في تحقيقه خلال سنوات من الحرب التي حملت عنوان "عاصفة الحزم"، خاصة بعد أن استهدف الحوثيون منشآت النفط السعودية والإماراتية بالمسيرات.
وفي كتاب الحرب للصحفي الأمريكي الشهير بوب وودوارد الذي نشره هذا العام، حظي حجم السباب النابي الذي وجهه الرئيس الأمريكي جو بايدن لرئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو بالحجم الأكبر من التغطية، بينما تجاهل كثيرون حوارًا نقله الكاتب، الذي اشتهر بكشفه فضيحة ووترجيت في سبعينيات القرن الماضي، بين وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن وولي العهد السعودي محمد بن سلمان.
فخلال زيارته للسعودية في يناير/كانون الثاني الماضي، بعد نحو ثلاثة شهور من هجوم السابع من أكتوبر، سأل بلينكن بن سلمان عن موقفه من إقامة الدولة الفلسطينية مقابل تطبيع العلاقات مع إسرائيل وتوقيع اتفاق أمني مع الولايات المتحدة. وكان رد ولي العهد، وفق وودوارد، مباشرًا وصريحًا. أشار إلى صدره وقال "هل أريدها؟ (الدولة الفلسطينية). الأمر لا يمثل فارقًا كبيرًا بالنسبة لي. هل أحتاجها؟ بكل تأكيد". ووفق وودوارد، كان انطباع بلينكن عن بن سلمان أنه "مجرد طفل مدلل".
المضمون ذاته الذي جاء في حوار بلينكن وبن سلمان، نقلته مجلة أتلانتيك الأمريكية عن مصادرها الخاصة قبل أيام من إطلاق كتاب وودوارد. فوفقًا للمجلة الأمريكية العريقة، قال بن سلمان إنه شخصيًا لا يهتم بالقضية الفلسطينية ولا يعتبرها أولوية، لكن "شعبي مهتم وبالتالي يجب أن تكون هناك نتيجة لها معنى" في إشارة إلى إقامة دولة فلسطينية مقابل التطبيع. وبالتالي فإن بن سلمان يخشى على مصيره الشخصي إذا مضى في التطبيع قُدمًا، دون تقديم تنازلات ملموسة للفلسطينيين، مُذكّرًا في هذا الصدد بمصير الرئيس المصري الراحل أنور السادات.
أما في مصر، فمقابل براجماتية الإخوان تجاه إيران، مع زيارة الرئيس الراحل محمد مرسي طهران وإلقائه خطابًا أمام البرلمان الإيراني، حتى وإن بدأ خطابه بالصلاة والسلام على الرسول وصحابته أبو بكر وعمر وعثمان، فإن موقف السلفيين جاء أكثر تشددًا باعتبار أن الشيعة يمثلون خطرًا على العقيدة أكثر من الصهيونية التي تحتل أرضًا مسلمة يمكن تحريرها مع الوقت، من وجهة نظرهم.
ولا يمكن لأحد بالطبع أن ينسى المشاهد البشعة لإقدام المئات من أهالي قرية زاوية مسلم التابعة لمركز أبو النمرس قبل أسبوع واحد فقط من مظاهرات 30 يونيو/حزيران 2013، على قتل أربعة من الشيعة بينهم الداعية حسن شحاتة وسحلهم في الشارع والتمثيل بجثثهم، تأثرًا بخطاب شيوخ السلفية المتشددة.
كما أن توازن علاقة النظام في مصر بالدول الخليجية، التي توفر الدعم الاقتصادي، يمثِّل عائقًا أمام تطوير علاقات القاهرة بطهران، رغم أن مصر عمليًا هي المؤهلة أكثر من أي دولة أخرى للتوصل إلى تفاهمات ملزمة تقدم بموجبها إيران الضمانات اللازمة لدول الخليج وأمنها ونفطها وعقيدتها، مقابل إنهاء حالة التوتر والحرب غير المعلنة بين الطرفين، والتي كان ثمنها هدر دماء عشرات الألوف من الفلسطينيين واللبنانيين على مذبح الخلاف السني-الشيعي والخشية من إيران.
فالمسلمون السنة في مصر، وبغض النظر عن مواقف السلفيين الذين لا يمثلون الغالبية، لا يزالون أميل إلى التدين المعتدل ويحبون النبي وآل البيت. والأكثر آنية هو أن مصلحتنا المباشرة تقتضي أن تنتهي الإبادة الإسرائيلية التي لا يكترث لها العالم والعرب على نحو مفزع، وأن تُقام دولة فلسطينية مستقلة. هذه الأهداف لن تتحقق بكل تأكيد لو استمرت حالة المواجهة بين إيران ودول الخليج النفطية، خاصة وأن من يدفع الثمن هم الأبرياء في فلسطين ولبنان.