منذ بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، يتردد على نطاق واسع الحديث عن "الصفقة الكبرى" التي يود الرئيس الأمريكي جو بايدن عقدها في الشرق الأوسط أملًا في إنقاذ فُرصه في انتخابات الرئاسة المقبلة.
هذه الصفقة الوهمية الطموحة عمودها الفقري هو اعتراف السعودية بإسرائيل وتطبيع العلاقات رسميًا معها، مقابل قبول تل أبيب بالعودة لمفاوضات السلام على أساس حل الدولتين، وهو المطلب الذي بات السعوديون أكثر تمسكًا به منذ اندلاع الحرب، بعد أن كانوا أكثر تساهلًا قبل السابع من أكتوبر، مُكتفين بالمطالبة بتحسين ظروف معيشة الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة.
ومهما بلغت حدة القبضة الحديدية للنظام الأمني السعودي، لا يمكن تجاهل مشاعر الغضب التي تسري بين السعوديين بسبب جرائم الإبادة الإسرائيلية، كحال بقية الشعوب العربية وشعوب العالم الحرة. وبالتالي، فإنَّ الزعم بأنَّ قيام الدولة الفلسطينية سيكون مقابل التطبيع مع إسرائيل، قد يكون النقطة الوحيدة التي تساهم في الترويج لتلك الصفقة في المملكة، التي لا تزال مُحافظة، رغم كل جهود التحديث التي يقوم بها ولي العهد محمد بن سلمان.
تَعتبر السعودية، التي يحج إليها المسلمون من بقاع العالم، أنَّ اعترافها بإسرائيل وانخراطها في تحالف عربي أمريكي إسرائيلي لمواجهة العدو اللدود المشترك، إيران، بمثابة المكافأة الكبرى التي ينبغي على الأمريكيين في مقابلها منحهم اتفاقية أمنية استراتيجية، تُلزمهم بالدفاع عن الدولة النفطية الثرية، وكذلك مساعدتهم في إطلاق برنامج نووي سلمي يسمح لهم بتخصيب اليورانيوم على أراضي المملكة.
لكنَّ معارضة امتلاك السعودية برنامجًا نوويًا لا تقتصر على المشرعين الديمقراطيين الذين كانوا يدعمون دعوات بايدن في حملته الانتخابية لـ"عزل" المملكة، وولي عهدها محمد بن سلمان، بسبب حرب اليمن وسجله في مجال حقوق الإنسان وقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي وتقطيع جسده. فإسرائيل كذلك لديها تحفظات قوية على المساعي السعودية.
في المقابل، فإن سلوك نتنياهو خلال شهور العدوان يوحي بأنَّ تطبيع العلاقات مع السعودية لم يعد أولوية في هذه المرحلة، بعكس ما قبل السابع من أكتوبر، وأنه لن يكون واردًا أن تتعهد تل أبيب، ولو لفظيًا، بالعمل على إقامة دولة فلسطينية مستقلة، خاصة وأن استطلاعات الرأي تقول إن غالبية الإسرائيليين يدعمون الاستمرار في الانتقام من الفلسطينيين في غزة، ويرفضون إقامة دولة فلسطينية.
"الصفقة الكبرى" التي يُغري بها بايدن نتنياهو لا تثير اهتمامه على الإطلاق في الوقت الحالي
يسبق نمو نفوذ اليمين داخل إسرائيل عملية طوفان الأقصى، بدليل انتخاب نتنياهو لفترات متواصلة جعلته يحطم الأرقام القياسية لكل من سبقوه في شغل منصب رئاسة الوزراء منذ 1948. وعلى مدى العقدين الماضيين، أحبط نتنياهو كل محاولات إقامة الدولة الفلسطينية، بما في ذلك دوره في ترسيخ الانقسام الفلسطيني القائم منذ 2007 بين سلطة رام الله وحكومة حماس في غزة، بالإضافة إلى التوسع المطرد في الاستيطان بما يقلل من فرص إقامة الدولة الفلسطينية.
ومع موجات الربيع العربي، وانشغال الدول العربية بما فُرض عليها من تحديات داخلية، تراجع الاهتمام بالسعي لحل الصراع الفلسطيني مع إسرائيل، ليرفع نتنياهو شعار "السلام مقابل السلام" باعتبار أنَّ التطبيع مع العرب لم يعد يستوجب الانسحاب من الأراضي الفلسطينية والاعتراف بها كدولة.
ترسّخ لدى الإسرائيليين أنَّ القضية الفلسطينية لم تعد أولوية لأحد، وبالتالي فمن الممكن تجاهلها والتعايش معها عبر بناء سور الفصل العنصري في الضفة، وتطوير نظام القبة الحديدية لصد المقذوفات والصواريخ البدائية التي تنطلق من غزة. وتبنى نتنياهو، عبر الحكومات المختلفة التي شكلها، سياسة "إدارة الصراع" مع الفلسطينيين وتقديم المغريات المادية لهم، من دون الإقرار بحقهم في إقامة دولتهم المستقلة.
ولذلك فإن "الصفقة الكبرى" التي يُغري بها بايدن، نتنياهو، لا تثير اهتمامه على الإطلاق في الوقت الحالي، بل على العكس، قد تُضعف من موقفه الساعي إلى البقاء في السلطة، خاصة وأنَّ ثوابته لا تلقى معارضة من الناخبين الإسرائيليين، حتى أولئك الذين يتظاهرون ضده لفشله في تحرير الرهائن. فالمظاهرات التي تجتاح إسرائيل لا تحتج على المجازر التي ترتكب بحق الفلسطينيين في غزة، بل تسعى لوقفها مؤقتًا ريثما يتم التوصل لاتفاق تبادل الأسرى، ثم العودة مجددًا لاستئناف تدمير غزة واجتياح رفح وربما البقاء هناك للأبد وعودة المستوطنات.
وإذا كان التركيز في وسائل الإعلام منصبًا على انتقاد نتنياهو وتصوير أنه العقبة الوحيدة أمام تحقيق "الصفقة الكبرى" التي يروج لها بايدن، فإن مواقف بيني جانتس، المرشح لخلافة نتنياهو ويفضل الأمريكيون التعامل معه، لا تقل تصلبًا عن نتنياهو في رفض إقامة الدولة الفلسطينية. وقد عبّر عن موقفه هذا صراحة في مؤتمره الصحفي الذي عقده هذا الأسبوع، مهددًا فيه بالاستقالة من الحكومة مطلع الشهر الجاري ما لم تعلن خطة اليوم التالي للحرب في غزة.
وفي الرياض، أدت حقيقة عدم وجود صناع سلام في إسرائيل اليوم إلى مطالبة واشنطن بتأجيل ملف الاعتراف بإسرائيل والتطبيع معها، والاكتفاء فقط باتفاقية الدفاع المشترك، ودعم البرنامج النووي السلمي.
كما سيظل هناك شك دائم في رغبة بن سلمان في تقديم أي مساعدة لبايدن، الذي تبنى موقفًا شديد العدائية تجاهه عند وصوله للبيت الأبيض، فربما يفضل تقدم هديته لترامب، الذي بات مرجحًا أن يعود إلى المكتب البيضاوي مطلع العام المقبل.