عندما سُئل وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن عن عرقلة بلاده تمرير قرار من مجلس الأمن بقبول العضوية الكاملة لدولة فلسطين في الأمم المتحدة، أعرب بكلمات مقتضبة عن اعتقاده بأنَّ "الوقت المناسب لم يأت بعد للاعتراف بدولة فلسطينية".
وخلال المؤتمر الصحفي الذي أعقب اجتماعًا عقده وزراء خارجية مجموعة الدول السبع في إيطاليا، الجمعة الماضي، شدد الوزير الأمريكي على التزام بلاده بأمن إسرائيل، وهاجم كعادته إيران وحماس؛ ليُلقي على الأولى مسؤولية زعزعة الاستقرار في الشرق الأوسط، ويتهم الثانية بعرقلة جهود وقف إطلاق النار في قطاع غزة.
عرقلة واشنطن إجراءات منح دولة فلسطين العضوية الكاملة في الأمم المتحدة، باستخدام حق النقض "الفيتو" في مجلس الأمن نهاية الأسبوع الماضي، لم يكن مفاجئًا لأحد، فالولايات المتحدة لم ولن تتخلى ولو تكتيكيًا عن الدعم المطلق لإسرائيل، في العسر واليسر، فما بينهما أقرب إلى علاقة زواج أبدي لا يُفرقها إنسان.
"عصفورين بحجر"
في منتصف فبراير/شباط الماضي، وعلى هامش مشاركته في مؤتمر ميونخ للأمن، روَّج بلينكن لأنَّ بلاده تدعم إقامة دولة للفلسطينيين "على نحو يضمن أمن إسرائيل"، وربط ذلك بما يراها "فرصة استثنائية" لدمج إسرائيل في الشرق الأوسط "مع رغبة دول عربية في تطبيع العلاقات مع تل أبيب".
بعض الأنظمة العربية منَّت نفسها بأن تضع الحرب في غزة أوزارها بهزيمة المقاومة، التي قطعت طريق ركب التطبيع، لتُستأنف المفاوضات التي كان منتظرًا أن تسفر عن نسخة جديدة من الاتفاقيات الإبراهيمية مع الكيان الصهيوني.
ومن باب ذر الرماد في العيون، اشترطت تلك الأنظمة على الراعي الأمريكي إقامة الدولة الفلسطينية قبل المضي قُدمًا في مسار التطبيع، وهو ما دعا الولايات المتحدة إلى إعادة تدوير مصطلح "حل الدولتين" بما يتضمنه من دولة فلسطينية، بعد ظهوره الأول قبل 30 عامًا، عندما جُرَّت منظمة التحرير بمعاونة أطراف عربية إلى إنهاء مسيرة العمل المسلح والاعتراف المجاني بإسرائيل تحت مظلة أوسلو.
الحديث الأمريكي عن حل الدولتين، مع تواتر الأنباء مطلع العام عن اتجاه لاعتراف واشنطن بدولة فلسطينية ترسم المفاوضات حدود سيادتها، لم يكن سوى محاولة لتبريد ملف القضية الفلسطينية التي أعادتها عملية "طوفان الأقصى" إلى الصدارة بعد دفنها بتواطؤ عربي في أقبية التطبيع الإبراهيمي. ولإنقاذ الحليف الذي أوشك على الغرق في مستنقع غزة، دون أن يحقق أيًا من أهدافه المعلنة.
نجاح المخطط الأمريكي مرهون بإخماد جذوة المقاومة التي تضع الترتيبات الأمريكية في مهب الريح
وفي الوقت الذي تستخدم فيه واشنطن حل الدولتين لتبييض وجه الدولة المُلاحقة باتهامات ارتكاب جرائم حرب ضد المدنيين في قطاع غزة، فإنها تمنح به كذلك المبررات لشركائها في الشرق الأوسط لاستئناف مشاورات تدشين حلف دفاعي أمني تقوده الولايات المتحدة، يشمل بالطبع إسرائيل، لمواجهة إيران ومحور المقاومة الذي تراعاه.
مضى في ركب الخدعة الأمريكية عدد من الأنظمة العربية التي ضغط عليها "طوفان الأقصى"، وحشرها العدوان والمجازر اليومية بالقطاع في الزاوية. تحلم تلك الأنظمة، كما يحلم الراعي الأمريكي، بإزالة المقاومة من الوجود، فاستمرارها يُعرّيها أمام شعوبها ويؤثر على شرعية بقائها.
إسرائيل من جانبها، أفسدت اللعبة التي وُضعت في المطبخ الخلفي للسياسة الخارجية الأمريكية؛ فبأغلبية واسعة أيَّد الكنيست قانون رفض الاعتراف أحادي الجانب بدولة فلسطينية، لأنه سيكون بمثابة مكافأة "للإرهاب غير المسبوق لحركة حماس".
وأكد نص القرار الذي صدر نهاية فبراير/شباط الماضي أن "إسرائيل ترفض بشكل قاطع الإملاءات الدولية بشأن تسوية دائمة مع الفلسطينيين"، وأن هذه التسوية لا يمكن تحقيقها إلا "من خلال المفاوضات المباشرة بين الطرفين، ومن دون شروط مسبقة".
نتنياهو يفسد طبخة حليفه
ولما أفسد نتنياهو وحكومته الطبخة الأمريكية، سحبت واشنطن ورقة "حل الدولتين" والاعتراف بفلسطين كدولة دائمة العضوية في الأمم المتحدة، وانحازت كعادتها للقرار الإسرائيلي حتى ولو كان ضد مصالحها ومصالح حليفتها العليا، وعملت على إخراج المشهد الذي تابعه العالم في مجلس الأمن الأسبوع الماضي، وبررت استخدامها لحق النقض بأنها تسعى إلى إقامة دولة فلسطينية بالفعل لكن من خلال "التفاوض".
عبرت بعض الأنظمة العربية ومعها السلطة الفلسطينية عن صدمتها من الموقف الأمريكي المنحاز "غير النزيه وغير الأخلاقي وغير المبرَّر"، الذي يمثل "عدوانًا صارخًا على القانون الدولي، ويشجّع استمرار حرب الإبادة الإسرائيليّة ويدفع المنطقة إلى شفا الهاوية"، حسب ما جاء في بيان رئيس السلطة الفلسطينية.
ورغم انكشاف الحيلة الأمريكية والتأكد من النوايا الإسرائيلية، لا تزال إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن تدفع من أجل التوصل إلى صفقة تضغط بموجبها على الحكومة الإسرائيلية لقبول التزام جديد بإقامة دولة فلسطينية مقابل تطبيع علاقات بلاده مع المملكة العربية السعودية، وفقًا لما نقلته صحيفة وول ستريت جورنال عن مسؤولين أمريكيين وسعوديين، الجمعة الماضي.
وكحوافز للاعتراف بإسرائيل تقول الصحيفة إن البيت الأبيض يعرض على الرياض علاقة دفاعية أكثر رسمية مع واشنطن، إضافة إلى مساعدتها في الحصول على طاقة نووية مدنية، والدفع مجددًا بمسار إقامة دولة فلسطينية، وهي حزمة من الإجراءات يقول مسؤولون أمريكيون للصحيفة إنهم "في المراحل النهائية من التفاوض عليها"، حتى تحصل تل أبيب على جائزة طالما سعت إليها.
وفي الوقت الذي تُنضج فيه الولايات المتحدة طبختها لفرض الكيان الصهيوني، الذي قَتل ولا يزال أكثر من 30 ألف فلسطيني عربي، على المنطقة باعتباره دولة طبيعية، تعمَل على إنجاز مهمة أخرى حتى تعيد رسم خرائط المنطقة وفق مصالحها ومصالح حليفتها، وذلك بالضغط على إيران لحصارها وإخراجها من معادلة الصراع.
فليس من المسبتعد أن يكون الهجوم الإسرائيلي على القنصلية الإيرانية في دمشق مُعدًّا لاستفزاز طهران، لترُد بطريقة تمنح الولايات المتحدة وإسرائيل مبررًا لإحكام الحصار على الدولة الوحيدة في المنطقة التي، وبغض النظر عن نواياها أو مشروعها، تدعم فصائل المقاومة وبشكل معلن بالمال والسلاح.
هاجمت إيران العمق الإسرائيلي وامتصت تل أبيب الضربة بمساعدة أمريكية بريطانية فرنسية أردنية، وبعد خمسة أيام هاجمت إسرائيل مواقع في العمق الإيراني، وبين الهجوم والهجوم المضاد تبدأ واشنطن في وضع ملامح مرحلة جديدة تحاول فيها وضع الشرق الأوسط مجددًا تحت سيطرتها.
نجاح المخطط الأمريكي مرهون بإخماد جذوة المقاومة، فكلما صمدت حماس وبقية فصائل المقاومة في مواجهة جيش دولة الاحتلال وشركائه، فإنها تضع بذلك كل الترتيبات الأمريكية في مهب الريح.
تمارس الولايات المتحدة ألاعيبها وخدعها لتضمن مصالحها والحفاظ على أمن واستقرار وتفوق حليفتها، والعرب إما متواطئون مشاركون في اللعبة، أو متخاذلون مكتفون بدور الجمهور الذي يشاهد ويتابع في صمت.