تصميم: أحمد بلال - المنصة، 2024
صراع إسرائيل وحماس داخل غزة.

حرب غزة في حقل المتناقضات| أزمة الهدنة

منشور الجمعة 19 أبريل 2024 - آخر تحديث الجمعة 19 أبريل 2024

هذا المقال هو الأول من سلسلة مقالات ترمي إلى استقصاء الأبعاد السياسية للحرب الجارية في غزة، بداية من طرفيها المباشرين، وصولًا إلى بُعدها الإقليمي.

حرب غزة هي عملية عسكرية إسرائيلية أتت ردًا على هجمات حماس (الحاكمة الفعلية لقطاع غزة، دون اعتراف رسمي دولي أو إقليمي) على مدنيين وعسكريين إسرائيليين، في غلاف غزة، في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.

هذا هو الوصف المجرد البسيط للحرب. أما الخطابات الأعلى صوتًا إعلاميًا وسياسيًا، فتركز على التكلفة البشرية والمادية المأساوية لهذه الحرب، التي قتلت وأصابت عشرات الآلاف من أهل غزة، وشرّدت نحو مليون أو أكثر، ووضعت نسبة معتبرة منهم على حافة المجاعة.

هذا البعد، على مأساويته، لا يفسر الاهتمام الدولي الواسع بالحرب، الذي دفع بها مرارًا خلال بضعة أشهر إلى ساحات مؤسسات دولية عديدة، بما فيها منظمات وهيئات الأمم المتحدة؛ فمثلًا أرقام ضحايا الحرب الأهلية السودانية الدائرة الآن (قتلى، جوعى، مشردين، جرائم ضد مدنيين) أكبر بما لا يقاس.

يتسق مع إبراز هذا الجانب المأساوي، استمرار "الجهود الإقليمية والدولية لإيقاف الحرب"، التي ظلت تحتل صدارة المشهد، رغم فشلها حتى الآن، لتُختزل فيها الأبعاد السياسية المعقدة، فلسطينيًا وإقليميًا ودوليًا، التي هي في نهاية المطاف الإطار الشامل لهذه الحرب، وهي التي ستحدد نتائجها المباشرة، وبعيدة المدى.

تأمل حماس الاحتفاظ بالسيطرة على القطاع إذا صمدت بما يكفي لا التوصل إلى سلام

هذه الأبعاد المعقدة يميل الإعلام عمومًا إلى اختزالها، ليس فقط إلى "مفاوضات الهدنة"، بل كثيرًا ما يتم اختزالها بشدة، وبشكل مؤسف، إلى صراع شخصي بين كل من بايدن ونتنياهو، يتلخص في رغبة الأول في إنهاء الحرب لضمان وحدة أنصاره خلفه في الانتخابات المقبلة، ورغبة الثاني في استمرارها لتأجيل سقوط حكومته، وربما محاكمته لاحقًا.

على خلاف هذه الاختزالات، ينطلق، أو يجب أن ينطلق، أي تصور متماسك عن الحرب وطبيعتها ومآلاتها من المقولة الشهيرة "الحرب هي ممارسة السياسة بوسائل عنيفة"، لذلك فإنها تنتهي بعودة السلام، لكن على أسس جديدة، بتفاوض بين الأطراف أو باستسلام طرف.

إلا أن اللافت في هذه الحرب، أن طرفيها لا يسعيان إلى أي حل تفاوضي، بل يأمل كل منهما في انتصار نهائي. لكنَّ طموحات طرفَي الحرب مستحيلة التحقق واقعيًا، بما فيها طموحات تل أبيب بتحقيق أمن شامل ونهائي لإسرائيل، رغم تفوقها العسكري الكاسح على حماس، التي تحتمي بدورها بشبكة أنفاقها الهائلة تحت الأرض.

هي مفاوضات إذن بلا أفق سياسي، كما يوضح التصور التالي عن سياسة طرفي الحرب.

موقف حماس

بعد خسارة حماس لجزء معتبر من قواتها، أصبحت مطالبها القصوى تنحصر في العودة إلى أوضاع ما قبل السابع من أكتوبر: انسحاب قوات إسرائيل، ووقف "دائم" لإطلاق النار، وعودة النازحين من الشمال إلى مناطقهم، وإعادة إعمار غزة، الذي لا يمكن أن يتم بغير موافقة إسرائيلية، بالإضافة إلى الإفراج عن عدد ما من المسجونين الفلسطينيين في سجون إسرائيل، لتحتفظ بواسطة ما تبقى من قواتها بحكم ما تبقى من قطاع غزة.

في مقابل هذه المطالب تُقدم حماس ورقتها الوحيدة: إعادة المخطوفين، أو من تبقى منهم.

تعتمد حماس تكتيكيًا على الاحتماء بالمدنيين ولذلك لم تقم أبدًا بإجراء بسيط ضئيل التكلفة؛ تمييز مقاتليها بزي خاص

لكن حتى هذا العرض غير الواقعي، على أقل تقدير، تطرحه حماس بلا أي أفق سياسي؛ أي إيجاد حل سياسي للصراع الفلسطيني الإسرائيلي. فحسب أيديولوجية حماس، لا يمكن الاعتراف بإسرائيل وفق أي حدود أيًا كانت. والكلام عن تغير موقف حماس نحو الاعتراف بإسرائيل ضمن حدود جغرافية معينة في ورقة أصدرتها عام 2017 لا أساس له. فالورقة "تَقبل" إقامة دولة فلسطينية على حدود 1967، لكن مقابل هدنة طويلة، لا إنهاء الصراع.

الحل الآخر الذي يطرحه البعض من حين إلى آخر هو استسلام حماس، مقابل خروج قادتها وبقايا قواتها آمنين، مثلما خرجت قوات منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت عام 1982 بعد حصار إسرائيلي.

على الأرجح لن تقبل حماس هذا الحل، لأنها قد لا تستطيع الاحتفاظ بنفوذها بين الفلسطينيين بعد انسحابها. كما أنها غير معنية، إلا من زاوية شعبيتها، بإنقاذ سكان غزة المدنيين من تفاقم الكارثة الإنسانية التي يعيشونها، وهو ما أعلنه صراحة بعض قادتها، كما يشهد عليه اعتمادها تكتيكيًا منذ بداية سيطرتها على قطاع غزة وحتى الآن على الاحتماء بالمدنيين، حتى أصبحت معظم قواتها المتبقية الآن محتمية برفح، التي اكتظت بالنازحين.

لذلك لم تقم حماس أبدًا بإجراء بسيط ضئيل التكلفة؛ تمييز مقاتليها بزي خاص.

علامَ تعتمد حماس إذن؟ تأمل حماس الاحتفاظ بالسيطرة، في نهاية المطاف، على القطاع إذا صمدت بما يكفي لأن تنجح الضغوط الإقليمية والدولية والضغوط داخل إسرائيل في وقف القتال، لا التوصل إلى سلام. سواء أكانت هذه الضغوط من أجل تحرير المخطوفين المدنيين الإسرائيليين، أو من أجل إنقاذ سكان غزة.

موقف إسرائيل

إذا لم تكن رؤية حماس الاستراتيجية تتعلق بالسلام من الأساس.. فماذا عن رؤية إسرائيل؟

هدف إسرائيل المُعلن هو القضاء على البنية العسكرية لحماس، وعلى حكمها لغزة، معتبرةً أن ذلك هو الضمانة الوحيدة الحقيقية لعدم تكرار ما يشبه هجوم السابع من أكتوبر لاحقًا، وبالتالي الضمانة لإعادة سكان غلاف غزة، المنطقة المحيطة بغزة في إسرائيل، الذين كانت نقلتهم بعد هجمة حماس.

كما ترى إسرائيل أن عدم القضاء على حماس سيغري أعداءً آخرين بتكرار العملية لاحقًا على نطاق أوسع؛ مثلًا ميليشيا حزب الله الأقوى بكثير. وهذا يعني، للمفارقة، أنَّ إسرائيل تتفق مع حماس في أنه بغير القضاء على قدراتها العسكرية وحكمها للقطاع ستكون حماس بمعنىً ما منتصرة.

بالنسبة للمستقبل، لا تعرض إسرائيل أيضًا أي أفق سياسي لحل الصراع بعد نهاية الحرب. فحكومتها ترفض من حيث المبدأ قيام دولة فلسطينية، ورئيس الحكومة أعلن أنه ظل يؤمن دائمًا بأن اتفاق أوسلو مع منظمة التحرير الفلسطينية هو أكبر خطأ وقعت فيه إسرائيل. وبناءً عليه، فقد سعى نتنياهو دائمًا، ومعه اليمين الإسرائيلي، إلى إفشال وصول قطار السلام إلى محطته النهائية: إقامة دولة فلسطينية.

والأهم، أن معظم سكان إسرائيل يؤيدون هذا الموقف منذ سنوات عديدة، نظرًا لاستمرار عمليات إرهابية ضد مدنيين إسرائيليين بعد قيام السلطة الفلسطينية في رام الله، وهي عمليات كانت حماس المساهم الرئيسي فيها بغرض إفشال مسار أوسلو.

بعد مطالبات أمريكية عديدة، طرحت حكومة إسرائيل أن مستقبل غزة بعد الحرب، في حالة انتصارها الكامل على حماس، هو أن تُواصل احتلاله لفترة طويلة، مستعينة بزعماء عائلات وعشائر فلسطينية لإدارة شؤون الحياة اليومية.

واتساقًا مع موقفها ضد أوسلو، أعلنت رفضها تولي حكومة رام الله السلطة في غزة. والأهم من ذلك، وهو ما لا يقال صراحة، أنه لا يُعقَل، أن تخوض إسرائيل هذه الحرب، الأطول في تاريخها القصير، لتُسلم "جائزة النصر" للسلطة الفلسطينية.

جدير بالذكر هنا، أنه على خلاف تركيز وسائل الإعلام الناطقة بالعربية على المظاهرات المعادية لنتنياهو، فإنَّ الغالبية العظمى من الإسرائيليين مع استمرار الحرب. وحتى بيني جانتس، المرشح الأول لخلافة نتنياهو إذا أجريت انتخابات مبكرة، غير متحمس بما يكفي للضغط بقوة من أجل إجرائها. كما أنَّ نتنياهو يتعرض لضغوط من اليمين الديني الإسرائيلي تُوازِن الأثر السياسي لهذه المظاهرات، بحيث يبدو هو، للغرابة، بمثابة الحل الوَسَط بين تطرفين.

الخلاصة

إنَّ التباعد الشديد بين تصورات طرفي القتال مبني على تشابه أعمق بينهما. فهما يعرضان في المفاوضات أهدافًا تكتيكية أمنية خالصة، ويرفضان أي حل سياسي للصراع الفلسطيني الإسرائيلي؛ انطلاقًا من اتفاقهما على رفض اتفاق أوسلو، الذي حاربه كلاهما.

هذا عن طرفي الحرب المباشرين، أما موقف السلطة الفلسطينية في رام الله، ففي المقال التالي.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.