بعد عام وثلاثة أشهر وأحد عشر يومًا، دخل اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس، أو بالأحرى اتفاق وقف الإبادة الجماعية في غزة، حيز التنفيذ.
وما إن توصل المفاوضون إلى اتفاق وقف إطلاق النار، وقبل تنفيذه، حتى انبرى المحللون، والمغتنمون، الذين قضوا أكثر من سنة يرددون منطق "قتله الذي أخرجه"، دون عبارة إدانة واحدة لدولة الاحتلال الصهيونية العنصرية، يلاحقوننا بشماتة، وتحذير وإنذار "إياكم والاحتفال بالنصر". وكأنهم وطَّنوا أنفسهم على أن المَلام يقع دومًا على المقتول.
ثم حان وقت تنفيذ وقف إطلاق النار، ثم حان وقت تنفيذ تبادل الأسرى، ثم حان وقت العودة إلى الديار المهدمة التي يقبع تحتها أطفال ونساء وشيوخ وأبرياء. فصنع أهل غزة مشهدًا أسطوريًا يشل العقل البشري، ويصمت أمامه كل ذي إنسانية، لكن عواء الذئاب لم يسكن.
تعامل الكثيرون مع ما تلا حملة الإبادة التي شُنَّت على غزة، بمنطق من انتهى لتوه من الفرجة على مباراة لكرة القدم، وطفقوا يثمنون النتيجة؛ "يعني الماتش كام كام؟".
ولمحبي استوديوهات التحليل، إليكم بعض المعطيات.
آراء عالمية.. بما أنكم تحبون العالمية
بالنسبة لي، انتهى فصل كل ما هو "عالمي" و"دولي" من حياتي. فلم أعد أصدق الاتفاقيات العالمية، والإعلانات العالمية، على رأسها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان! (يجب أن يُشفع اسمه بضحكة رقيعة)، والمواثيق العالمية، والتحليلات العالمية، والقوانين الدولية، وكل هذا الحديث "الحمُّصي" الذي عرَّته غزة، وأثبتت بطلان مدعاه وبهتان مسعاه، ومن لا يرى فهو أعمى البصيرة.
وبما أن عمى البصيرة أمر حتمي على أغلبية بني البشري، فهيا بنا نستعرض "الدولية" التي يحبها الناس.
لا أحد الآن مخدوع في أكذوبة الحقوق والحريات والمعايير في دول العالم الأول
وزير الخارجية الأمريكي السابق أنتوني بلينكن قال إن "قدرات حماس العسكرية وقدرتها على حكم قطاع غزة تقوضت، وهيمنة إيران تراجعت، وقوات حزب الله تراجعت إلى شمال نهر الليطاني، وإيران فقدت إمكانية إمداد الحزب بالأسلحة، وانهار نظام الأسد، وميزان القوى في الشرق الأوسط تغير بشكل كبير، لكن الأوضاع هناك لا تزال خطيرة، وإسرائيل تمكنت من تدمير الدفاعات الجوية الإيرانية".
لكنه أضاف أن التقديرات الأمريكية تشير إلى أن حركة حماس جنّدت مسلحين جددًا بالعدد نفسه الذي فقدته في الحرب. أما صحيفة التايمز الإسرائيلية فنشرت مقالًا بعنوان لأول مرة إسرائيل تخسر حربًا، يعدد كاتبه خسائر الحرب الأخيرة.
كذلك هناك انقسام داخل الحكومة الإسرائيلية التي شهدت استقالة بن غفير.
الوضع على الأرض
يتمحور الاتفاق الموقع بين حماس حول أمرين؛ تبادل الأسرى وإعادة الإعمار.
كانت أهداف المقاومة من عملية السابع من أكتوبر تنفيذ صفقة لتبادل الأسرى. بينما كانت أهداف حملة الإبادة على غزة تحرير الرهائن والقضاء على حماس، مع إخلاء سبيل قطاع غزة من السكان وتهجيرهم إلى سيناء. وهو هدف لم تعلنه الحكومة الإسرائيلية رسميًا، ولكنها طرحته بوضوح في الغرف المغلقة، وتحدث وزراء فيها عنه علانية.
بالنسبة لأهداف طوفان الأقصى؛ فقد تم تبادل الأسرى. أما بالنسبة لحملة الإبادة على غزة، فيمكن تلخيص نتائجها في عدد من النقاط.
- لم تتمكن القوات الصهيونية من تحرير الرهائن بل قتلت منهم أعدادًا كبيرة.
- نجحت إسرائيل في القضاء على رئيس المكتب السياسي لحماس، الشهيد يحيى السنوار، في مشهد مهيب تشيب له مفارق الشباب والأطفال. (جبهة المقاومة)
- نجحت كذلك في اغتيال السيد حسن نصر الله، الذي كان خصمها الأول، والمتسبب، لعدة مرات، في انقسامات داخل المجتمع الإسرائيلي. (جبهة إسناد)
- تراجعت قوات حزب الله إلى ما خلف نهر الليطاني. (جبهة إسناد)
- خرج الحوثيون، بعد ضربات متتالية، بخير ولله الحمد. (جبهة إسناد)
- لم يلحق بجبهة العراق ضرر يذكر. (جبهة إسناد)
- انضم إلى كتائب القسام متطوعون جدد من المقاتلين. وهو أمر بديهي، ما الذي ينتظره العالم من شعب تُهدم بيوته ويفقد أحبابه؟ (جبهة المقاومة)
- أضعفت إسرائيل قدرة المقاومة في غزة على تلقي السلاح من إيران. ولكن كتائب القسام أعلنت في وقت سابق أنها تصنع أسلحتها، أما دولة العدو فما زالت تبحث عن المنفذ الذي يمد غزة بالسلاح، ولم تجده حتى الآن، وطفقت تُصدِّر أزمتها إلى مصر، وتتهمها بتسريب السلاح للقطاع دون دليل واحد، ودون التمكن من رصد هذا التسريب المزعوم. (جبهة إسناد)
- تنحَّت حماس بشكل أو بآخر عن موقع القيادة السياسية في غزة، حيث من المفترض تسليم القطاع لجهة ثالثة غير حماس وإسرائيل، ويتم الضغط على مصر، مرة ثالثة أو رابعة، أو عاشرة، لقبول هذا الدور الذي ترفضه بشدة، وتصر على تسليم شؤون إدارة القطاع إلى جهة فلسطينية.
- لم يتم إجلاء السكان أو تهجيرهم. الناس يعودون أفواجًا إلى بيوتهم المهدمة في الشمال في مشهد مهيب آخر.
- لم تضطر مصر للتعامل مع محاولات فلسطينية لاقتحام الحدود، لأنه لم تكن هناك أي محاولات فلسطينية لاقتحام الحدود.
- يبدو من مشاهد تجمعات الحشود حول المسلحين أثناء تسليم الرهائن، أن شعبية كتائب القسام زادت ولم تنقص.
النتائج الجانبية
يعاني الكيان الصهيوني الآن، في كل أصقاع الأرض، من النبذ والاحتقار. جاءت حملة الإبادة لتكون فرقانًا حسينيًا لا لبس فيه.
للتوضيح، وبعد الاعتذار لأصحاب النور والتنوير والمصابيح والكلوبات، كوني أستعير من الثقافة العربية صورةً مؤثرةً في الوجدان العربي بصرف النظر عن الديانة، وهي صورة الحسين بن علي وابن فاطمة. جاءت المذبحة الكربلائية خسارة آنية لمعركة الحسين ويزيد، إذ جُزَّ رأس الأول وهُزم من معه، وأسرت النساء. غير أن هذه المعركة الكربلائية كانت حتمية للفرقان وقطع الشك باليقين. من كان يُمنِّي نفسه بأن التعاون مع يزيد لا يشينه ولا يعيبه، وأن الأمر يحتمل وجهات النظر وسوء الفهم، قطع عذره بعد هذه المذبحة. قاتل ظالم ومقتول مظلوم.
هذا تحديدًا ما قامت به غزة فداءً للإنسانية. كانت غزة هي الفرقان الحسيني الذي يقطع الشك واللبس والتردد والأخذ والرد، لم تكن دماء غزة نورًا لمن يعيشون في ظلمات الجهل بالقضية الفلسطينية فحسب، بل كانت أيضًا حرجًا لمن يتحدثون عن "تعقيد الأمر"، أو "وجهات النظر"، أو "إمكانية الوصول لاتفاق سلمي"، أو حل الدولتين، أو الثلاث دول، أو حل الدولة الواحدة، أو أي حل يتضمن العيش تحت الاحتلال والرضا بالفتات.
لم تعد هناك فرصة للادعاء بأن "العرب حنجوريون" يرفضون الحلول السلمية. لقد تفوه المسؤولون الإسرائيليون، بل والمعارضة الإسرائيلية، بما يجلي الأمر وينهي الخلاف: الكيان الصهيوني هو الذي لا يريد حلًا لأنه لا يرى مشكلة. حلٌّ لماذا؟ لقد نجحت في احتلال أراضي الناس ولا أجد من يلومني وأنا أقضي عليهم بالقتل أو التهجير!
لم يعد هناك مجال للظن بأن الغرب لا يفهم القضية كما نفهمها وعلينا أن نعرض قضيتنا بما يتناسب مع العقل الغربي، لأن أسلوبنا يُنفِّر الناس منَّا، ولأن الغرب عقلاني، ولأن السياسة مصالح، ولأننا عاطفيون، ولأن الغرب إذا وجد مصلحته مع العرب فسيعطي إسرائيل ظهر المِجَنِّ، إلا أن العيب منا، الخطأ علينا، التقصير من جانبنا... بلا بلا بلا بلا بلاااااع.
ليست هناك مساحة للاعتذار عمن يصدق ما يسمى بالقيم الغربية، والحرية، والأخوة، والمساواة، والشرعية الدولية، والإنسانية العالمية، والحياة المستدامة، ومكافحة التغير المناخي، والناس للناس، وقوة إرادة الشعوب، والديمقراطية، والحكم للشعب، ونينينينينيني.
حُرِق الناسُ أحياءً، ودُفِن الجرحى أحياءً، ومات الرضع الخدج بقطع الأكسجين عنهم، وضُرِب المتظاهرون في بلاد الحريات، وفُصِل المعلمون من أشغالهم في بلاد الديمقراطيات، بل وقررت الولايات المتحدة الأمريكية معاقبة المحكمة الدولية لإدانتها إسرائيل، وصرح بها بيرس مورجان حين سُئِل "أليسوا كالناس في أوكرانيا"، فأجاب على الفور ودون هنة تفكير: لا، ثم طفق يشرح ما يراه من فروق أخلاقية بين الحكومة الأوكرانية وقيادات حماس.
لا أحد الآن مخدوع في أكذوبة الحقوق والحريات والمعايير في دول العالم الأول.
بس.. هش.. ششششتتت. من سيتحدث بهذا المنطق بعد هذه المجزرة الكوكبية على مرأى ومسمع من البشرية، فهو كمن يتحدث عن انبهاره بالقطار البخاري، أو بخروج الصوت من الراديو. انتهينا. موضة قديمة دي.
الجنس البشري الآن على بيّنة، من سينحاز لإسرائيل فهو ينحاز إلى الإبادة والعنصرية والاحتلال والتفوق الأبيض، ومن سينحاز إلى فلسطين هو من أخذ جانب حق الإنسان في الحياة على أرضه التي يمتلكها أجداد أجداد أجداد أجداده.
ولا مكان لمحايد. المحايد هو منحاز بالضرورة للظلم والظلمات.
قضي الأمر الذي فيه تستفتيان.
إن كان هناك مهزوم حقًا، فهو الجنس البشري الذي انقسم بين ضالع في مجزرة لن تُنسى أبدًا، وعاجز عن إيقافها مهما بُحَّ صوته في الهتافات.
لماذا يصرون على خطاب الهزيمة؟
لم تكن هناك حرب لنتحدث عن هزيمة أو انتصار. بل كُنا شهودًا على أطول جريمة إبادة في عصرنا، وعلى أعظم صمود أسطوري يعجز العقل البشري عن استيعابه.
مات عشرات الآلاف، وفُقِد عشرات الآلاف، ودُمِّرت غزة أغلبُها. فهل يُعيَّر صاحب المصاب بمصابه أو يدان المقتول بقتله؟
الناس خرجت من هذه المجزرة مرفوعة الرأس، تطأ جراحها وتوزع حلوى بطعم المر، تسير في أفواج ألفية قافلةً إلى بيوتها المهدمة، باحثةً وسط الأنقاض عن رفات أحبابها، متهللة ومباركة لمن يجد رفات حبيبه فيسكن قلقه و"يطمئن" إلى أنه نال شرف الشهادة، وأنه ليس أسيرًا لدى من لا يرقبون في إنسان ولا ذمة ولا عهد ولا مواثيق ولا قوانين.
الناس خرجوا من حملة إبادة متحلقين حول مقاومتهم في حشود غريبة الأعداد. لم يأخذوا حتى فرصةً للبكاء والنحيب والحداد وتلقي العزاء.
الناس جبروا كسر مقاومتهم وانضموا إليها.
الناس يرقصون حفاةً في شوارعهم احتفالًا بالحياة، والثبات، والصمود.
الترويج لفكرة أن الناس لم يكن لديهم خيار آخر سوى الصمود، وأنهم أجبروا عليه، فيه مغالطة كبرى، فالمحلل السياسي الإسرائيلي الذي دعا الفلسطينيين لاقتحام معبر رفح باتجاه مصر، قدم الحل لمن يرغب في الهروب. ولو أنهم ينشدون نجاة، أي نجاة، منزوعة الحق والكرامة، لنفذوا ما كانت ترمي إليه إسرائيل بحصار الناس ودفعهم دفعًا نحو الحدود المصرية، حتى بات الجنود المصريون يدخلون الطعام، من وجباتهم الخاصة، من بين الأسلاك الشائكة للنازحين في رفح.
من يروجون لخطاب الهزيمة لا يهدفون إلا الصالح الإسرائيلي، ولإحراز منجز لم تتمكن إسرائيل من تحقيقه طوال عام وثلاثة أشهر. هم يرغبون في بث الندم والحسرة في النفوس الفلسطينية حتى يتوبوا إلى إسرائيل الفاشلة من فعلة المقاومة، هم غاضبون لأنهم كانوا يتوقون لرؤية أهالي غزة وهم ينتحبون ويلعنون السابع من أكتوبر والمقاومة. وهذا ما يدفعهم للبحث والتنقيب عبر الشبكة العنكبوتية عن تعليق أو منشور لفرد أو أفراد أو عشرات ممن يرضون شرههم للتشفي. طارت عقولهم حتى خرجوا عن شعورهم وأصبحوا يعلنون عن شماتتهم في موت عشرات الآلاف وهم يرددون: "انتصار إيه وإنتو ميت منكم أكتر من سبعين ألفًا؟"، وكأن صاحب العبارة مخلد لا يموت.
لقد كان عامًا مليئًا بالأساطير التي سيدوّنها التاريخ، مارست فيه إسرائيل ومن خلفها العالم أبشع الجرائم، وتعرت ومن خلفها العالم من آخر ورقة توت، أملًا في كسر الروح.
لكنهم فشلوا..