ربما لم تشهد أمريكا طوال سبعين سنة مضت، منذ انتهاء محاكمات السيناتور جوزيف مكارثي للكُتَّاب والمسؤولين بتهم الشيوعية وتهديد قيم المجتمع المسيحية، مثلما يجري اليوم في مجلس النواب، من تحقيقات مع رئيسات ثلاث من أعرق الجامعات الأمريكية، واتهامهن بشراسة أمام الكاميرات بـ"تهديد حياة الطلاب اليهود" بسبب مظاهرات وهتافات الطلبة المتعاطفين مع فلسطين؛ وتركهم دون عقاب بدعوى حرية الرأي.
تتزعم حملة الترهيب الكارثية لحرية الرأي واستقلال الجامعات في هذه النسخة المكارثية، النائبة الجمهورية إليس ستيفانيك، التي كانت منذ عامين فقط محل انتقادات نواب يهود معتدلين من الحزب الديمقراطي، لترديدها نظريات المؤامرة التي يؤمن بها العنصريون البيض، بأن الحكومة تساعد على زيادة المهاجرين ليحلوا محل أصحاب البلد من البيض!
وبالإضافة إلى موقفها من المهاجرين غير البيض، فإنها أيضًا من أشد أنصار دونالد ترامب وأجندته العنصرية، وكلَّفها ترديد ادِّعاءاته غير الصحيحة بتزوير الانتخابات، عضويتها المجلس الاستشاري لجامعة هارفارد.
ستيفانيك تعود لتنتقم
النائبة التي وصلت للمرتبة الرابعة في زعامة النواب الجمهوريين في الكونجرس، رغم صغر سنّها (39 سنة)، خطفت الأضواء ونالت رضا الكثيرين حتى بين منتقديها السابقين في الحزب الديمقراطي، خصوصًا المتبرعين اليهود بسخاء لإسرائيل، عندما نقلت قنوات التليفزيون ومواقع الإنترنت والسوشيال ميديا، الاستجواب البرلماني الذي أجرته مع رئيسات جامعات هارفارد وبنسلفانيا ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT).
لم تقدم أيٌّ من الأكاديميات الثلاث اللاتي وُضعِن تحت المجهر وسط أجواء معادية لعدم حظر الفعاليات المؤيدة لفلسطين و"حماس"، الإجابة الصريحة التي تريدها السياسية الشعبوية بـ"نعم" أو "لا"، فكانت الإجابة أنَّ "الأمر يتوقف على السياق الذي قيلت فيه هذه الدعوات والشعارات".
وأضافت أستاذة القانون الوحيدة بين الرئيسات الجامعيات الثلاث، إليزابيث ماجيل، رئيسة جامعة بنسلفانيا، التي ركز عملها السابق في المحاماة على قضايا حرية رأي، أنَّ "القانون لا يعتبر الكلام والرأي في حدِّ ذاته عنفًا بغض النظر عن طبيعته، لكن المهم السياق الذي نريد أن ندرس ما جاء فيه".
كان واضحًا أن ماجيل تتجنب إدانة الاحتجاجات الطلابية، استنادًا إلى حماية الحق في التعبير، وهو ما رآه البعض تحايلًا منها، خصوصًا وأنها سمحت قبل أسابيع من أحداث 7 أكتوبر باستضافة مهرجان عن الأدب الفلسطيني بعنوان فلسطين تكتب، لم يطالب وقتها أحد بإلغائه لدعوته كُتَّابًا فلسطينيين تعتبرهم جماعات يهودية "معادين للسامية" بكتاباتهم.
الفصل بعد التهديد بقطع المال
لم يمضِ يوم واحد على هذه الجلسة في مجلس النواب، حتى كان 74 عضوًا في الكونجرس يوقعون مطالبة لمجالس أمناء الجامعات الثلاث، بإقالة وفصل رئيساتها. لكنَّ القول الفصل، الذي ضغط على الأكاديميين مثلما يضغط على السياسيين، كان التهديد بالمال.
الملياردير رونالد لاودر، أحد أكبر المتبرعين للحزب الجمهوري، وصاحب ووريث شركة إيستي لاودر، وجه تهديدًا لمجلس أمناء جامعة بنسلفانيا بقطع تبرعاته السنوية البالغة مائة مليون دولار، ما لم تُقَل الرئيسة التاسعة في تاريخ الجامعة، وهو ما حدث بالفعل، مع منحها فرصة كتابة استقالتها بنفسها، بل إنها سجلت أيضًا كلمة اعتذار وتوضيح مقتضبة، ذكرت فيها أنه بالرغم من أن الدستور لا يُجرِّم القول والرأي، فإنَّ واجبها كان يحتِّم عليها تفهم مشاعر الطلاب الذين أخافتهم هذه "التهديدات".
وعلى الفور، أعلنت النائبة ستيفانيك انتصارها في الجولة الأولى، فقالت عبر إكس "وقعت واحدة، وبقيت اثنتان"!
وبالفعل اتجهت الضغوط بعد إسقاط الرئيسة الأولى في بنسلفانيا، إلى الثانية، رئيسة جامعة هارفارد كلودين جاي، وهي أول مَن يرأس الجامعة العريقة مِن الأمريكيين السود. اجتمع مجلس أمناء الجامعة على مدى اليومين الماضيين لاتخاذ القرار الصعب، وسط تهديدات بعض كبار الممولين والمتبرعين للجامعة، مقابل 700 توقيع داعم لها من هيئة التدريس، نجحوا في حمايتها من الإقالة.
هل انحنت رئيسة جامعة كولومبيا للعاصفة؟
يبدو حتى الآن أنَّ العاصفة مرت دون أضرار فوق مصرية المولد نعمت شفيق، المعروفة باسمها المفضل "مينوش"، أي القطة الصغيرة، التي توَّلت مؤخرًا رئاسة جامعة كولومبيا العريقة في نيويورك، لتصبح أول امرأة تصل لهذا المنصب، وكانت قبل ذلك عميدة لكلية التجارة بجامعة هارفارد، بعد مسيرة مهنية بارزة في البنوك والمؤسسات المالية العالمية.
لم يتوقف الأمر بعد حرب غزة على مظاهرات الطلاب العرب ومعهم طلاب يهود، التي أثارت حفيظة وغضب الكثيرين خصوصًا من المنظمات اليهودية الأمريكية، ولكنه امتدَّ للتشهير بالطلاب الفلسطينيين والعرب الذين قادوا المظاهرات أو وقَّعوا على عرائض تدين ما يحدث ضد الشعب الفلسطيني في غزة.
قُدِّمت شكاوى لشرطة نيويورك للتدخل ضد الطلاب بالحرم الجامعي بدعوى التهديد، ثم أحضرت جمعية يهودية سيارات بها شاشات كبيرة، أمام الجامعة، وعليها صور الطلاب العرب الذي اتُّهموا بمعاداة السامية، لتخويف أيِّ شركة من توظيفهم لاحقًا.
أصدرت شفيق بيانًا يرفض تلك الممارسات من الجانبين، وأكدت ألَّا مجال لهذه التهديدات من الجانبين داخل الجامعة، وحذرت من تكرارها.
لكن مع ازدياد ضغوط المتبرعين والممولين على إدارة الجامعة، اتخذت إجراءات شديدة ضد الطلاب المنتقدين لإسرائيل، وبشكل لم تفعله جامعة أخرى، تمثَّل في تجميد وحظر أنشطة جمعيتي "طلاب من أجل فلسطين" و"أصوات اليهود من أجل السلام" خلال هذا الخريف، فيما لم تُتَّخذ أي إجراءات مماثلة ضد الأنشطة المؤيدة لإسرائيل والمدافعة عن عملياتها العسكرية!
حماة إسرائيل عرّابو التطبيع
بعد أسبوعين من بداية حرب غزة، حضر جاريد كوشنر صهر ترامب والوسيط السياسي الظاهر في الاتفاقات الإبراهيمية، مؤتمرًا في السعودية، وعاد ليرصد المفارقة بين أجواء التظاهر الطلابية "العدائية" في الولايات المتحدة، وما لقيه من ودٍّ وترحابٍ من مضيفيه السعوديين. وقال كوشنر إنه شعر كيهودي أمريكي بالأمان في السعودية مقارنة بغيابه والخوف بالجامعات الأمريكية!
لكنَّ رونالد لاودر، الملياردير الذي هدد جامعة بنسلفانيا، هو عرَّاب التطبيع الأهم الذي سبق كوشنر في زياراته إلى السعودية والبحرين ومصر.
ولم تتوقف زيارات لاودر للعالم العربي حتى الشهر الماضي، عندما كان في الدوحة للتفاوض من أجل الإسرائيليين الذين تحتجزهم حماس. لم يذهب بصفته رجل الأعمال صاحب شركة إستي لاودر، ذا الثروة المُقدَّرة بخمسة مليارات دولار، بل كرئيس الكونجرس اليهودي العالمي، الذي تأسس في 1936 دفاعًا عن يهود العالم.
يتولى لاودر هذا المنصب المؤثر عالميًا منذ 2007، بعدها بسنة زار السعودية والتقى الملك عبد الله، وأقام علاقات وطيدة في البحرين ثم الإمارات. لكنَّ علاقته الأقوى تبقى تلك التي تجمعه بالرئيس عبد الفتاح السيسي، حيث تبادل الرجلان سبع زيارات خلال السنوات السبع الماضية.
زيارة لاودر الأولى إلى مصر كانت في يناير/كانون الثاني 2015 حيث التقى السيسي بحضور مدير المخابرات المصرية السابق، خالد فوزي. بعدها خرج المتحدث باسم الرئاسة المصرية، يقول إنَّ لاودر "أشاد بما تضمنه خطاب سيادته (السيسي) الأخير من أفكار تحض على التسامح وقبول الآخر، فضلًا عن محاربة الأفكار المتطرفة".
تكررت الزيارات بعدها، فكانت له زيارة مهمة إلى مصر في مارس/آذار 2017 عقب تولي دونالد ترامب الرئاسة، وبما أن لاودر من أكبر المتبرعين للحزب الجمهوري وخصوصًا حملة ترامب، تم ترتيب أول زيارة للرئيس السيسي منذ توليه المنصب قبل ثلاث سنوات إلى واشنطن حيث التقى بالرئيس الأمريكي الجديد، مثلما التقى أيضًا في أكتوبر/تشرين الأول من العام نفسه، وفق ما أكدته مصادر لكاتب هذه السطور، بلاودر، الذي أقام عشاءً في منزله الثاني بواشنطن، حيث يستضيف زعماء ومسؤولين عربًا، بينهم وزراء في السلطة الفلسطينية.
آخر زيارات الرئيس السيسي إلى واشنطن جرت في ديسمبر/كانون الأول من العام الماضي، لحضور القمة الإفريقية الأمريكية، والتقى خلالها زعيم يهود العالم لاودر، المتفاخر بعلاقاته القوية في العالم العربي، التي تزداد قوتها وأهميتها بوصول أحد الجمهوريين من حزبه المفضل المنتفع بتبرعاته إلى البيت الأبيض!