عرفت أجندة الحركة العمالية المصرية، القضية الفلسطينية، لقرن كامل، فربطت الحركة بين ما يعانيه المصريون جراء الاحتلال البريطاني وما يقاسيه الفلسطينيون جراء الانتداب ثم الاحتلال الإسرائيلي وما تلاه من حروب. غير أن هذا الدعم لم يتبق منه سوق النَزر اليسير نتاج التضييق على المجال العام.
ذلك الربط كان نتاج ظروف تكوُّن الطبقة العاملة في السنوات الأولى من القرن العشرين، حيث كانت رؤوس الأموال الأجنبية تستحوذ على النسبة الأعظم من المصانع والشركات، وكان العمال في صراع دائم مع أصحاب الأعمال للحصول على حقوقهم.
هذا الواقع ولَّدَ لدى العمال اعتقادًا راسخًا بأن سبب الاستغلال والبؤس اللذين يعيشانهما هو الاحتلال وسيطرة الأجانب على ملكية الشركات. ولم يكن ذلك بمعزل عما يحدث في فلسطين، خاصة بعد وعد بلفور، وإعلان الانتداب البريطاني على فلسطين عام 1920.
العمال والمسألة الوطنية
في عام 1900 ولدت أول نقابة للعمال المصريين عقب إضراب عمال "لفافي السجائر"، وفي غضون سنوات تأسست عشرات النقابات، لكن الوقت لم يسعف التجربة للنضج، حيث أُعلنت الأحكام العرفية، مع اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914، فحلت سلطات الاحتلال الجمعيات والنقابات العمالية.
بعد انتهاء الحرب عادت النقابات العمالية للظهور بقوة، وخاض العمال صراعًا ضد أصحاب المصانع والشركات الأجانب، عبر مئات الإضرابات، في الوقت الذي انخرطوا في كل أوجه النضال السياسي من أجل الاستقلال. ظهر ذلك جليًا خلال ثورة 1919، حيث نظم العمال إضرابات ومظاهرات هزت البلاد، كان أبرزها إضرابا عمال الترام، وعمال السكك الحديدية.
تحفظ التسجيلات النادرة لزيارة نافون لـ"ميت أبو الكوم" مشاهد وصفها معارضون بـ"الاستفزازية"
وفي عام 1945، تبنت اللجنة التحضيرية لمندوبي نقابات عمال مصر موقفًا معاديًا للصهيونية، في مؤتمر النقابات العالمي في باريس، ونجحت مع مندوبي النقابات العربية في دفع المؤتمر لاتخاذ موقف بـ"استنكار الصهيونية ومناصرة فلسطين المستقلة الديمقراطية الحرة"، كما يذكر طه سعد عثمان في كتاب "الطبقة العاملة والعمل السياسي".
مع تولي الجيش السلطة بعد 23 يوليو/تموز 1952، دخلت الحركة العمالية مرحلة جديدة، سيطر فيها نظام عبد الناصر على مفاصلها، عبر مجموعة من الإجراءات أتمها في 1959 بإنشاء اتحاد عمال مصر، فيما عُرف في الأدبيات السياسية بـ"تأميم النقابات العمالية"، حيث أخذ الاتحاد شكلًا هرميًا، تركزت السلطة في قمته، وجُردت اللجان النقابية القاعدية من أي سلطة حقيقية.
نجح نظام عبد الناصر في كسب العمال للاصطفاف معه في معركة الاستقلال الوطني والتنمية الصناعية، لكن هزيمة يونيو/حزيران 1967 فجّرت من جديد الاحتجاجات العمالية، حيث نظم عمال المصانع الحربية بحلوان في 1968 مظاهرات طافت الشوارع اعتراضًا على الأحكام "الهزيلة" ضد قادة الطيران المسؤولين عن النكسة.
عقب حرب أكتوبر/تشرين الأول تبنى النظام سياسات الانفتاح الاقتصادي وتحرير السوق، بالتوازي مع سعي الرئيس السادات لعقد اتفاق صلح مع إسرائيل بشكل منفرد عن باقي أطراف الصراع العربي الإسرائيلي، لتبدأ مرحلة جديدة من تاريخ الحركة العمالية، مختلفة عن تلك التي رسمها عبد الناصر، رغم بقاء أدوات السيطرة على العمال، ذاتها، تحت أيدي الدولة، وعلى رأسها اتحاد عمال مصر.
العمال وزيارة السادات للقدس
رافق سعد محمد أحمد، رئيس اتحاد نقابات عمال مصر، آنذاك، الذي كان يشغل في الوقت نفسه منصب وزير العمل، الرئيس السادات، في زيارته للقدس عام 1977.
اتخذت الجمعية العمومية لاتحاد عمال مصر قرارًا برفض الزيارة، فرغم سيطرة الدولة على الاتحاد، فإن النظام ما كان ليضغط لاستصدار قرار خلاف ذلك، في الوقت الذي كانت مجمل الحركة العمالية رافضة لتوجه السادات عقد اتفاق سلام مع إسرائيل.
يتذكر القيادي النقابي بالحديد والصلب، وعضو مجلس إدارة النقابة العامة للصناعات المعدنية والهندسية، آنذاك، صلاح الأنصاري، "بعد عودة رئيس الاتحاد من زيارة القدس، تصادف انعقاد اجتماع للجمعية العمومية للاتحاد، فاحتشد العمال أمام مبنى الاتحاد، ورفعوا أعلام فلسطين، وهتفوا ضد إسرائيل، ليؤكدوا موقفهم السابق برفض الزيارة ورفض أي علاقات مع الكيان الصهيوني".
حاول رئيس الاتحاد تبرير زيارته أمام غضب الجمعية العمومية، فقال إنه ذهب إلى القدس بصفته وزيرًا للعمل وعضوًا في الحكومة، وليس بصفته رئيسًا للاتحاد.
يستكمل الأنصاري، لـ المنصة، "لم يقف الأمر عند سفر رئيس الاتحاد مع السادات للقدس. حضر عدد من قيادات الاتحاد، بينهم رئيس النقابة العامة للصناعات المعدنية والهندسية، سعيد جمعة، توقيع معاهدة السلام بالولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما لاقى أيضًا استنكارًا كبيرًا من العمال".
زيارة "نافون" للحديد والصلب
في الخامس من نوفمبر/تشرين الثاني 1980، اصطحب السادات، الرئيس الإسرائيلي إسحاق نافون إلى قرية ميت أبو الكوم، مسقط رأس الرئيس المصري بالمنوفية.
تحفظ التسجيلات النادرة لزيارة نافون لـ"ميت أبو الكوم" مشاهد وصفها معارضون، آنذاك، بـ"الاستفزازية"، حيث ظهر الرئيس المصري يستقل سيارة مكشوفة وإلى جانبه نافون، وهما يطوفان شوارع القرية، ويلوحان لعشرات تجمعوا على أسطح المنازل، هاتفين "بالروح بالدم نفديك يا سادات".
وقف السادات وسط حديقة منزله بـ"ميت أبو الكوم" ملقيًا كلمة ترحيب بالرئيس الإسرائيلي ناعتًا إياه بـ"الصديق العزيز نافون".
زيارة الرئيس الإسرائيلي إسحاق نافون لمنزل السادات، 1980
كان مجمع الحديد والصلب في منطقة التبين بحلوان، إحدى المحطات المهمة التي أُعلن أن زيارة نافون ستشملها. يتذكر الأنصاري رد فعل النقابة العامة للصناعات المعدنية والهندسية، "اجتمع مجلس النقابة، واتخذنا قرارًا برفض زيارة نافون للحديد والصلب، استنادًا إلى قرار الجمعية العمومية لاتحاد عمال مصر برفض التطبيع مع إسرائيل".
كان عدد من عمال الحديد والصلب نشطوا لحث زملائهم على رفض الزيارة، واستطاعوا حشد رأي عام مناهض لها، فتجمع مئات العمال أمام مبنى اللجنة النقابية بالشركة، الذي كان مقابلًا لمبنى الإدارة، فأصبح "الرفض مجمهرًا"، حسب توصيف الأنصاري.
يروي كمال عباس، المنسق العام لدار الخدمات النقابية والعمالية، وأحد عمال الحديد والصلب بحلوان آنذاك، لـ المنصة، "اجتمع عدد من العمال، في مقر حزب التجمع بحلوان، وتناقشنا كيف يمكن مواجهة الزيارة، وأصدرنا بيانًا بعنوان (لا لزيارة نافون) شرحنا فيه موقفنا الرافض للتطبيع والجرائم الإسرائيلية في فلسطين، ووزعناه سرًا داخل العنابر".
في صبيحة اليوم المحدد لزيارة نافون لشركة الحديد والصلب، قرر عدد من العمال بينهم كمال عباس، توزيع البيان بشكل علني في ميدان حلوان.
يقول عباس "كان ميدان حلوان في الصباح ميدانًا عماليًا بامتياز، حيث يتجمع الآلاف للتوجه إلى عملهم بالمصانع. تحدثنا مع العمال ووضحنا لماذا نرفض زيارة نافون وموقفنا من التطبيع بشكل عام. بدأ العمال في التجمع بأعداد كبيرة، وفوجئنا بمحاصرة أفراد الشرطة والقبض على عدد من العمال كنت أحدهم. اقتادونا إلى قسم حلوان، وتم إحالتنا للنيابة وعرفنا أثناء التحقيق أن زيارة نافون لمصنع الحديد والصلب أُلغيت، قبل أن تُخلي النيابة سبيلنا".
الانتفاضة الفلسطينية.. العمال يواصلون الدعم
في 8 ديسمبر/كانون الأول 1987، اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الأولى "انتفاضة الحجارة"، وعمت الاضطرابات كافة الأراضي المحتلة، وأطلقت سلطات الاحتلال أيدي قواتها بوحشية لمواجهة الاحتجاجات. انطلقت المظاهرات الشعبية في كثير من بلدان العالم للتضامن مع فلسطين، وتشكلت جبهات دعم الانتفاضة. وفي مصر دُشنت حملات للدعم والتضامن مع الشعب الفلسطيني.
يقول القيادي النقابي السابق بشركة غزل المحلة حمدي حسين "كانت هناك لجان من العمال مُشكلة في غزل المحلة تسمى لجان الإنتاج، تعمل بمعزل عن اللجنة النقابية، وفي صبيحة أحد الاجتماعات عرفنا باندلاع الانتفاضة، فقررنا إرجاء جدول الأعمال، ومناقشة دعم الانتفاضة".
يستكمل حسين "اتفقنا على تحديد يوم للتظاهر، حشدنا له بقوة وسط العمال، وحددنا مسجد أبو الفضل وسط مدينة المحلة لانطلاق المظاهرة، التي طافت الشوارع بعدما انضم إليها آلاف العمال".
في نهاية المظاهرة قُبض على عدد من العمال، كان حمدي حسين أحدهم، ووجهت لهم النيابة تهمًا من بينها "حرق علم دولة صديقة" إشارة إلى حرق المتظاهرين علم إسرائيل، وقررت النيابة حبسهم 3 أيام، وتم إيداعهم سجن أبو زعبل الصناعي.
اليوم، وبينما يتعرض الفلسطينيون للقتل بشكل يومي، يغيب أي موقف منظم وجماعي من العمال المصريين
خلال الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000، تأسست في مصر اللجنة الشعبية لدعم الانتفاضة الفلسطينية، ونشطت في المدن والمناطق العمالية. وفي "حرير حلوان" دشن القيادي النقابي الراحل مصطفى عبد الغفار لجنة لجمع التبرعات المالية والعينية.
وفي زفتى وميت غمر والمحلة تشكلت مجموعات من العمال، وكان القيادي العمالي الراحل عطية الصيرفي أحد أهم القيادات الفاعلة في ميت غمر، واستطاع حشد المئات من المتعاطفين مع القضية الفلسطينية وجمع التبرعات المالية والعينية، حسب حمدي حسين.
يضيف حسين "شكلنا مجموعات من عمال غزل المحلة من قرى تابعة لمراكز السنطة والمنصورة والمحلة وغيرها، وكان كل عامل مسؤولًا عن تحديد موعد مع أهل قريته، أو منطقته، حيث نذهب بالسيارات لتحميل المعونات التي جمعها الأهالي، وكان العمال يطوفون معنا على البيوت لجمع المزيد، وكان الأهالي يتبرعون بكل ما يمكنهم، زجاجة زيت أو كيلو سكر أو أرز".
دور التنظيمات السرية
طيلة عقود دعم العمال المصريون القضية الفلسطينية، التي مثلت جزءًا من عقيدة كفاحية واعية توارثوها. كما أن ارتباط الكثير من العمال بالتنظيمات الشيوعية بداية من عشرينيات القرن الماضي كان أهم أسباب خلق قيادات عمالية واعية بقضاياها الاقتصادية والسياسية والوطنية، وذات تأثير كبير وسط العمال.
المنسق العام لدار الخدمات النقابية والعمالية، كمال عباس، يقول "كان المشترك بين القيادات العمالية انتماءها لتنظيمات سياسية يسارية، كانت في الغالب سرية". كان هذا ما أكده أيضًا الأنصاري وحمدي حسين، فهما مثل عباس انتميا لتنظيمات شيوعية سرية في مرحلة مبكرة من حياتيهما.
الدور الذي قامت به الشركات المملوكة للدولة في فترات الحرب، كان أيضًا سببًا في رفع الوعي بالقضايا الوطنية، يقول الأنصاري "مصنع الحديد والصلب اشترك في إنتاج حديد منصات الصواريخ ودشم الدبابات والطائرات وملاجئ الجنود، لقد غذى ذلك اعتقاد العمال بأن لهم دورًا مهمًا في مواجهة قوى الاحتلال".
اليوم، وبينما يتعرض الفلسطينيون منذ أكثر من شهر للقتل بشكل يومي، وتتجه نيّات الاحتلال الإسرائيلي لتهجيرهم من أراضيهم، يغيب أي موقف منظم وجماعي من العمال المصريين.
يعدد الأنصاري وعباس وحسين أسباب ذلك؛ بداية من انسحاب القيادات النقابية التاريخية من الحركة العمالية بحكم المعاش أو الوفاة، وتصفية الشركات المملوكة للدولة، التي كانت تزخر بقيادات عمالية واعية، والمحاولات المستمرة لخنق تجربة النقابات المستقلة، وغيرها من الأسباب.
لكن جل ما يؤكدون عليه ويعتبرونه رئيسيًا في اختفاء أي اشتباك للعمال مع القضايا العامة، على رأسها قضية فلسطين، هو المناخ السياسي المغلق، و"الترهيب" الذي تمارسه السلطة ضد المعارضين، بل وتمارسه ضد العمال أنفسهم عند اللجوء إلى الإضراب للمطالبة بحقوقهم الاقتصادية.