أثبتت المجزرة الإسرائيلية المستمرة في قطاع غزة منذ 80 يومًا عدة حقائق لا بدَّ من وضعها في عين الاعتبار مستقبلًا في أيِّ نزاع إقليمي تكون واشنطن طرفًا فيه، من بينها الفشل المؤلم للنظام الرسمي العربي مجتمعًا في فرض إرادته واستخدام ما لديه من أوراق للضغط على الولايات المتحدة، من بينها أيضًا أنَّ واشنطن ملتزمةٌ بدعم تل أبيب ولو منفردة، لأن علاقة الطرفين تتجاوز الشراكة الاستراتيجية إلى ما هو أبعد؛ أيُّ هجوم على الكيان الصهيوني هجوم على أمريكا نفسها.
ستلتزم الأنظمة العربية الرسمية بما يُتفق عليه مع من يسكن البيت الأبيض في واشنطن، على اعتبار أنَّ العلاقة مع الولايات المتحدة معقدة، وتشمل ملفات ثنائية ستكون لها الأولوية على الملف الفلسطيني، دائمًا عند تحديد ردود الفعل الرسمية.
ستدين هذه الأنظمة جرائم الاحتلال الإسرائيلي في غزة بأشد العبارات، لكنَّ أحدًا لن يُقدم على التصعيد أو يلوّح بإجراءات ولو اقتصادية ودبلوماسية ضد الكيان الصهيوني وأمريكا، كما حدث قبل 50 عامًا في مرة نادرة تمكَّن فيها النظام الإقليمي العربي من منع تزويد الولايات المتحدة بالنفط لدعم حرب تحرير الأرض التي خاضتها مصر وسوريا عام 1973.
الأردن مثلًا استدعى سفيره من تل أبيب، في خطوة لم تُقدم عليها مصر بحجة الإبقاء على خط تواصل مفتوح مع الحكومة الإسرائيلية، في ضوء رعايتها مفاوضات تبادل الأسرى بين فصائل المقاومة وإسرائيل، وكذلك تسهيل إدخال المساعدات إلى القطاع.
لكن لا مصر ولا الأردن ولا الدول العربية التي انضمت إلى ركب السلام الإبراهيمي، ستقدم على تعليق الاتفاقيات التي وقعتها بعد أن كشف الكيان الصهيوني وجهه السافر العنصري في عدائه للفلسطينيين والعرب، وكأنَّ لسان حالها يقول: تفضلي يا إسرائيل اقتلي كما شئتِ وارتكبي ما أردتِ من مجازر لن يمنعكِ أحد، فنحن لا نملك سوى الصراخ والشجب والإدانة والحَسْبنة.
وحدها تواجه العالم
في السياق نفسه، فإن واشنطن لن تمانع في الوقوف منفردة بمواجهة العالم أكمله، أو 153 من دُولِه، صوتت في الجمعية العامة للأمم المتحدة التي تضم 193 بلدًا، لصالح قرار بوقف إطلاق النار في غزة. الدعم الأمريكي المطلق ظهر أيضًا في الاستخدام المتكرر للفيتو في مجلس الأمن، في مواجهة أيِّ قرار مشابه.
يحدث هذا فيما يصرخ الجميع حول العالم، مطالبين ومحذرين من عواقب جرائم الحرب التي ترتكبها إسرائيل في القطاع الصغير المكتظ بالسكان، عبر آلتها العسكرية التي تقتل الأبرياء وتهدم البنايات فوق رؤوسهم يوميًا، وحصارها الخانق الذي أدى إلى تفشي الجوع بين أكثر من مليوني إنسان محرومين من الخدمات الطبية. برنامج الغذاء العالمي أشار إلى أنَّ نحو 600 ألف فلسطيني على حافة المجاعة الحادة، والأمين العام الشجاع أنطونيو جوتيريش أكد أنَّ أربعة من كل خمسة جوعى في العالم يوجدون في قطاع غزة.
وعلى الرغم من كلِّ البيانات والخطابات التي تصدرها عشرات منظمات حقوق الإنسان حول العالم، من بينها منظمات أمريكية، وأخرى تابعة للأمم المتحدة تعمل في غزة، خرج جو بايدن للصحفيين بعد آخر مكالماته مع نتنياهو، السبت الماضي، ليخبرنا أنه لم يطلب منه وقف إطلاق النار، واكتفى بحثِّه على السعي لتقليل الخسائر بين المدنيين، والانتقال لمرحلة أقل كثافة في القصف العشوائي والعمل على إيصال المساعدات الإنسانية لسكان القطاع.
اِطَّلع بايدن بكل تأكيد على تصريحات جوتيريش بعد تبني مجلس الأمن قراره الأخير الفارغ من المضمون مساء الجمعة، عندما أكدَّ أنَّ المشكلة لم تعد في زيادة عدد الشاحنات أو فتح معبرٍ ثانٍ، لكن في قدرة موظفي الإغاثة على الحركة أساسًا داخل القطاع، في ظل القصف المتواصل بلا توقف لطائرات جيش الاحتلال لكل أنحاء غزة، بالتالي لا يمكن الحديث عن عملية إغاثة موسعة يحتاجها القطاع بشكل عاجل دون التوصل أولًا لاتفاق وقف إطلاق النار.
كما اِطَّلع بايدن ومعه وزير خارجيته أنتوني بلينكن وكبار مسؤولي إدارته على تقرير منظمة هيومن رايتس ووتش الأمريكية بشأن استخدام إسرائيل للتجويع سلاحًا، لإجبار سكان القطاع على التمرد على حركة حماس وتسليم قادتها، ما يشكِّل جريمة حرب.
ولكنَّ هذا كله لم يمنع الرئيس الأمريكي من الذهاب إلى منتجع كامب ديفيد هادئ البال، ليحتفل بعطلة عيد الميلاد ورأس السنة.
متى ينطقون "العبارة القذرة"؟
وبينما يواصل جيش الاحتلال قتل الفلسطينيين، امتنعت إدارة بايدن عن تأييد قرار مجلس الأمن لأنه لم يقُم بإدانة هجوم حماس في 7 أكتوبر، وأمرت المندوبة الأمريكية في الأمم المتحدة بالتصويت ضد تعديلٍ روسيٍّ على القرار الداعي إلى هُدنٍ مؤقتة لضمان إيصال المساعدات، لأنه كان يدعو إلى وقف عاجل لإطلاق النار.
المندوب الروسي في مجلس الأمن قال إن واشنطن مارست "الابتزاز وليَّ الأذرع وكل أنواع الضغوط المشينة" لتغيير اللغة المنصوص عليها في مشروع القرار العربي، واتهمها صراحةً بـ"منح الضوء الأخضر لإسرائيل لمواصلة تفريغ قطاع غزة وقتل الفلسطينيين". المندوبة الأمريكية سارعت طبعًا بالرد على زميلها الروسي وقالت إنها لن تهتم بأيِّ كلمة يقولها في ظلِّ ما ترتكبه بلاده من جرائم حرب في أوكرانيا.
هذا درس آخر من دروس حرب غزة، وهو أنَّ أقصى دعم سيحصل عليه العرب من أقطاب العالم المنافسة لأمريكا، تحديدًا روسيا والصين، هو كلمات الانتقاد القاسية في إطار التنافس الدولي المحتدم بين تلك الأطراف. لكنَّ هذه الانتقادات لن تقترب من الدعم الأمريكي للكيان الصهيوني، لتنضم موسكو وبكين إلى الدول العربية في الاكتفاء بإصدار بيانات الشجب والإدانة والاستنكار.
لذلك كله، كان استغرابي بالغًا عندما انخرطت مندوبة الإمارات في مجلس الأمن في عناق حارٍ وصادق مع المندوبتين الأمريكية والبريطانية، بعد النجاح في تمرير مشروع القرار من دون أن تقوم إدارة بايدن باستخدام حق الفيتو، كما فعلت مطلع الشهر الحالي، ثم إشارتها إلى أن مجرد ذكر تعبير "وقف الأعمال العدائية" إنجاز وخطوة مهمة إلى الأمام.
بالنسبة لإدارة "جو إبادة جماعية" #GenocideJoe، كما بات الرئيس يوصم في شيخوخته من الشباب الأمريكي، فإنَّ دماء الفلسطينيين ثمن مشروع للحرب التي تخوضها إسرائيل لتدمير حماس بعد اللطمة المهينة التي وجهتها لجيش الاحتلال في 7 أكتوبر، فيما أصبحت "وقف إطلاق النار" عبارة "قذرة" على حدِّ تعبير وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان.
في عالم الرجل الأبيض القاسي هذا، يبقى السؤال قائمًا كما هو منذ بداية العدوان على غزة؛ كم طفلًا وامرأةً ومدنيًا فلسطينيًا يجب أن يموت، ليردد بايدن وكبار مسؤوليه "العبارة القذرة"، ويدعون حليفتهم المدللة إلى وقف إطلاق النار؟