لم يكن القروي البسيط نيلسون مانديلا، الذي يدرس الحقوق في جامعة فورت هير، يحلم بأكثر من أن يحظى باحترام الرجل الأبيض، فيعدُّه راقيًا متحضرًا، عبر إتقانه أنماط الحياة، بالشروط التي يعتبرها تقدمية، منها مثلًا الأكل بالشوكة والسكين، الذي كان يخجل من عدم قدرته عليه إلى درجة تجنب المآدب والحفلات.
كان يعاني علَّة افتتان الضحية بالجلاد، على طريقة "القط الذي يحب خَنَّاقه"، وفق المثل الشعبي البديع، وحسب نظرية متلازمة ستوكهولم لرائد علم الجريمة السويدي، ميلز بيجروت.
لكن الأقدار قد تقول كلمتها في لحظة ما.
كلمات غيّرت تاريخ جنوب إفريقيا
وفق مذكرات مانديلا رحلتي من أجل الحرية تجسَّدت تلك اللحظة، إذ كان يقضي أمسية بمنزل صديق له، في جوهانسبرج، ذات ليلة من عام 1944، فإذا هو يلتقي ناشطًا شابًا، في حزب المؤتمر الإفريقي، يدعى أنتون لمبيدي، يحمل درجة الماجستير في القانون.
في تلك الليلة، انبرى الشاب يخطب "إنني أمقت عقدة النقص لدى الإفريقيين، وأستقبح إحساسهم بالدونية إزاء الرجل الأبيض، وهذا الإحساس المرضي هو أكبر عقبة أمام التحرر".
إثر هذه الكلمات، لم يعد مانديلا ذاك القروي المنشغل بشخصه، لم يعد تفكيره منصبًا على مكتب المحاماة الذي يروم تأسيسه. لقد تجسدت أمام ناظريه حقيقة أن الغد الذي ينشده كإنسان، يرتهن بإنهاء سياسات الفصل العنصري، وتأسيس دولة مواطنة.
بعدئذٍ امتدت رحلة المناضل الأيقونة، من تأسيسه رابطة الشباب في حزب المؤتمر الإفريقي، إلى دعوته لحمل السلاح، ليقرر مانديلا في بيان تأسيس منظمة رمح الأمة التي شكلت الجناح العسكري للمقاومة "في لحظة من تاريخ الأمم، عليها أن تختار، ما بين الاستسلام والقتال، وقد حانت اللحظة في جنوب إفريقيا، ولن نستسلم".
قبل مانديلا بنحو 2400 عام، كانت صيحة أبي الفلاسفة سقراط "اعرف نفسك"، حدًا فاصلًا بين الفكر الإنساني من قبله ومن بعده، أو بعبارة أخرى، كانت برزخًا بين مرج بحرين، فإذا هما لا يلتقيان. لقد نبهت مقولة سقراط "لست معنيًا بالأشجار التي تلتف حول المدينة، بل تعنيني الأشجار البشرية"، إلى أن الإنسان حين يعي حقيقة ذاته، سيعي الكون بأسره.
زرع مانديلا في أعماق أحفاده أن العنصرية فعل شيطاني قبيح وعليهم التصدي له
كان وعي شخص واحد، مانديلا، نقطة التحول بعد نحو ثلاثة قرون من العنصرية، وهذا الوعي هو الذي أفضى بجمهورية "أحفاد مانديلا" إلى مقاضاة الاحتلال الإسرائيلي أمام محكمة العدل الدولية بتهمة اقتراف جرائم إبادة جماعية ضد الفلسطينيين في قطاع غزة.
لقد زرع مانديلا في أعماق أحفاده أن العنصرية فعل شيطاني قبيح، وعليهم التصدي له أينما ومتى وُجِد، ذلك أن الإنسانية تتفرع من شجرة واحدة، والحرية تستحق الدفاع عنها، دفاعًا متجردًا عن المصالح الشخصية. وهو ما عبّر عنه رئيس جنوب إفريقيا، سيريل رامافوزا "لن نكون أحرارًا ما لم يتحرَّر الفلسطينيون".
صدمة الوعي بعد طوفان الأقصى
على الجانب الآخر، كان الوعي الفلسطيني بعد العملية البطولية "طوفان الأقصى" يتشكَّل من جديد، وفق معطيات موضوعية رآها العرب والإسرائيليون والعالم بأسره في إطار "معركة الصورة" الموازية للمعارك العسكرية.
كان الوعي دائمًا حاضرًا بأن الاستيطان اليهودي في الأراضي المحتلة غير شرعي، لكن هذا الوعي كانت ترافقه على الدوام خرافات تُشوِّش عليه.
بمعنى آخر كان هناك وعيان؛ وعي بأخلاقية وعدالة القضية الفلسطينية، ووعي ثانٍ "ثبت تهافته" بعجز العرب عن التصدي لهذا الكيان المتقدم عسكريًا. ذلك أنه وفق التعبير الشائع، يرقد على بحيرة من الأسلحة النووية، ولديه استخبارات تسمع "دبة النملة". ومن ثم، فلتكن الاتفاقات الإبراهيمية، إذ إن السياسة هي فن الممكن، وليس في الإمكان أحسن مما كان.
والثابت أن تضخيم إسرائيل، وتصويرها غولًا عملاقًا، ليس وليد اللحظة الراهنة، ولا نتاج الأمس القريب، بل يضرب بجذوره في العقل العربي منذ زمن بعيد، وحتى في اللحظات الاستثنائية التي شهدت تفوقًا عربيًا بارعًا، كما في حرب السادس من أكتوبر، كانت هذه الصورة تُنغص نشوة الانتصار.
الصورة الذهنية عن العرب تمثلت دائمًا في أنهم كسالى "يأكلون الرز بأيديهم ويحبون القهوة والنسوان"
تَلمُّس ذلك يغدو ممكنًا، بالتمعن في صرخة السادات في غضون الجسر الجوي الأمريكي لإسرائيل إبان اشتعال المعارك "أنا لن أحارب أمريكا"، أو رسالته لوزير خارجيتها آنذاك هنري كسينجر "مصر لا تريد توسيع نطاق المعركة".. ففي الرسالتين نبرة تراجع متنطعة، رغم أن الكفة العسكرية كانت تميل كليًا للجيش المصري.. هذا على الصعيد السياسي الرسمي.
أما أدبيًا وفكريًا، فقد تزامنت رحلة "بطل الحرب والسلام" إلى منتجع كامب ديفيد، مع طنطنة "نخبة السلطة" بأن الحكمة كلها فيما يفعله الرئيس. إلى حد أن توفيق الحكيم كتب ما معناه أن المنطقة في حاجة، لكي تتقدم، إلى المال العربي "النفطي"، والعقل الإسرائيلي المبدع. وغني عن البيان أن العقل أعلى مرتبةً من المال، لكنه الانسحاق وتماهي الضحية في الجلاد، فضلًا عن الرغبة الشخصية للحكيم في نيل نوبل للآداب، التي يراها كثيرون الدافع وراء آرائه تلك.
ومن نافلة القول، إن هذا الاتجاه كان يتسيّد العقل العربي، بدعم وإيعاز من الأنظمة التي تهروّل إلى تل أبيب، بل إن نموذج الحكيم ذاته يحمل في داخله مفارقة مضحكة مبكية، إذ كان اختلف مع السادات، إثر توقيعه بيان الطلبة في فبراير/شباط 1973، الذي يرفض حالة اللا حرب واللا سلم، فإذا بالسادات يصفه إثر ذلك بالعجوز المخرِّف.
لكن السادات عاد ليأمر سفير مصر لدى السويد، بأن يطلب إلى لجنة نوبل دعم ترشيح الأديب ذاته للجائزة الدولية، إذ لم يعد عجوزًا مخرفًا. لقد تحققت "عودة الوعي" حالما صار موقفه متسقًا مع الموقف الرسمي للسلطة.
حرب الصورة
إلى جانب ما كان يدفع إليه المطبعون العرب، كانت الدعاية الإسرائيلية بدورها تحاصر الوعي العربي، والعالمي أيضًا، فالصورة الذهنية عن العرب تمثلت دائمًا في أنهم كسالى "يأكلون الرز بأيديهم ويحبون القهوة والنسوان"، أو هم حيوانات بشرية وفق تعبير مجرم الحرب وزير الدفاع الإسرائيلي يؤاف جالانت.
يُذكر في هذا الصدد مثلًا أن مجلة أمريكية نشرت على غلافها رسمة كاريكاتورية، في الثمانينيات على وجه التحديد، لقرد يرتدي الملابس الخليجية وهو يجلس فوق مقدمة سيارة مرسيدس.
صورة ذهنية تهزم العربي قبل أن يطلق أو يصاب برصاصة، إنه غبي يحارب ذكيًا، متخلف يواجه متحضرًا، محدود التسليح يتصدى لجيش لا يقهر، ثري لكنه يبدد الأموال على السيارات الفارهة، فكيف له ألا يرفع الراية البيضاء؟
تلك الخرافات الممنهجة، تساقطت مع الوعي الذي استولدته عملية الطوفان، فالفلسطيني الذي يخرج من نفقٍ ليدمر دبابة الميركافا من المسافة صفر، وهو ينتعل نعالًا بلاستيكيًا ولا يعتمر خوذة، وليس بين يديه إلا سلاح شديد البدائية يقدر.
والأهم من أنه يقدر، أنه يعي أنه يقدر.
لدى محاكمة مانديلا بتهمة الخيانة، دخل ساحة المحكمة وهو يرتدي الملابس الإفريقية التقليدية. لقد عرف نفسه، كما كان ينادي سقراط، إنه الفتى الإفريقي روليهلاهلا، وكذلك عرف الفلسطينيون أنفسهم بعد طوفان الأقصى، ومن محطة الوعي تتحرك عجلة التاريخ.