بعد عاصفة يناير 2011 نسينا أشياء كثيرة، ولا نتذكر إلا موعدها: قبل الثورة، بعد الثورة. غزة 2023 فعلت الشيء نفسه في كيمياء الدماء. قبلها كتبتُ عدة مقالات أولها تشويم الصحافة المصرية، وتلاه اقتراب من تجليات الخلجنة والبدونة والخوجنة. ويفترض أن أغلق القوس بمقال عن الأمركة، لكنَّ هذا الإغلاق يعني التطبيع مع التفاصيل السابقة على طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر.
لا أنا أنا، ولا القارئ هو القارئ. الرجوع نوع من الترف، لا أملكه. كلنا سواء في وقف الحال، والزهد في إيقاع ما قبل غزة، والحرج من الاستئناف بعد العجز أمام الإبادة. قد تصلح "الأسرلة" جسرًا إلى تبريد الأعصاب، تمهيدًا للعودة إلى الحياة.
لعل الأسرلة أكثر دقةً وشمولًا من التطبيع. المطبّع يتوارى خجلًا، ولا يتمتع بوقاحة الادعاء بأنه يريد الذهاب إلى العدو؛ لكي يعرفه. بعضهم قال وذهب إلى عدو مكشوف الوجه لا يخفي العداء. التطبيع عارٌ يبلغ أحيانًا درجة الاتهام بالخيانة، والأسرلة مفهوم ناعم، لا يثقل المشارك فيها بعبء الشعور بالذنب.
من آثار الأسرلة ألفة وجوه الإسرائيليين على شاشات عربية بحجة تمثيل الرأي الآخر. بأموالنا دخلوا بيوتنا، وصارت تسويغاتهم وجهة نظر. خلال الحرب الأوروبية الثانية، لم يهرول مثقف فرنسي "عاقل" إلى ألمانيا؛ لكي يفهم طبيعة النازي. وما كان لصحفي أن يجري حوارًا مع متحدث باسم جيش الاحتلال النازي لفرنسا. هل الاحتلال وجهة نظر؟
ارتباك رئيس متساهل
يمكن ازدراء المطبعين، وحصار التطبيع سلوكًا وجغرافيَا، لكن تصعب السيطرة على الأسرلة. في السوق المفتوحة ستجد بضائع للعدو، والمواد الخام والمنتجات الزراعية مسروقة من أرض فلسطين. في المناطق السياحية ستقابلهم، وتضيق بابتساماتهم البلاستيكية، وتبعد عنهم فيطاردونك بتقليد هذه اللهجة أو تلك حتى تكره حرف الخاء.
أنور السادات، عرّاب الأسرلة، أظنه أول الضائقين بسخافاتها. بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد، اختتم بيجن المشهد الأخير بقوله بالإنجليزية إن الرئيس الأمريكي جيمي كارتر بذل جهدًا "يفوق العمل والجهد الذي بذله أجدادنا في مصر عندما بنوا الأهرام"، فضحك كارتر.
ضحك السادات أيضًا، ومن الطبيعي أن يبتسم مجاملةً لدعابة ظاهرها الثناء على جهود كارتر، وباطنها توثيق أسطورة يهودية، لا يدعمها أيُّ دليل أثريٍّ أو نص تاريخيٍّ. أطلق قهقهة منزوعة الوقار، وصفق وسرعان ما انتبه، فرفع يمناه وهرش خده بسبابته. الهرشة مفاجِئة، بلا داعٍ؛ فالكامب يخلو من الناموس والذباب وبقية السلالات الهاموشية المسببة للأكلان.
ربما أراد التخلص من توتر أحدثته جملة مفاجئة أعدها بيجن، مسبّـقًا، بهذا الإيجاز والمهارة. لم يعلق السادات، ابتلع لسانه الذي يستأسد به على العرب، وقد عايرهم بأننا أخوالهم، فهم أحفاد هاجر المصرية. هل وعى الرئيس المصري قسوة الإهانة لبلاده؟ من يجرؤ، بعد انتهاء الصخب، على إصدار بيان؟
استقال وزير الخارجية محمد إبراهيم كامل عشية توقيع الاتفاقيات، وبقي كرسيه شاغرًا في الحفل، فأنقذ تاريخه من التلوث بالمشاركة في تنازلات السادات. لو ظلَّ بجوار السادات لاقترح بيانًا يصحح ما ذكره بيجن في دعابة أطلقها كرصاصة. السادات لم يكُن يقرأ؛ يضيق بالأوراق والملفات، قال منذ البداية إنها قتلت جمال عبد الناصر.
ليس مطلوبًا من الرئيس أن يكون عالمًا بالتاريخ، وإنما يعيبه الجهل بالمسلمات. ويعرف أيُّ دارس لعلوم المصريات أن الأهرامات بنيت في الأسرة الرابعة (2613 ـ 2492 قبل الميلاد)، قبل قرون من دخول النبي إبراهيم مصر. زيارة أسطورية أوردها العهد القديم وحده، ولا ذكر لها في القرآن أو أيِّ مصدر تاريخي.
جملة بيجن لا تقتصر على الدعابة المهينة، بل تنطوي على كذب شهده أعضاء الوفد المصري، فلم يبذل كارتر جهدًا أمام رئيس متساهل، كما جاء في مذكرات وزير الخارجية محمد إبراهيم كامل السلام الضائع في كامب ديفيد.
مرجعية "الكفاح المباشر"
أداء السادات الذي سجله الوزير يثبت أنها لم تكن مفاوضات، وإنما "مذبحة التنازلات". السادات، مبكرًا، أدخل مصر في المدار الأمريكي، قبل زيارة نيكسون عام 1974. في اليوم الثاني لحرب 1973 بعث إلى هنري كيسنجر رسالة قال فيها "إننا لا نعتزم تعميق مدى الاشتباك أو توسيع مدى المواجهة". سابقة تاريخية يسارع فيها رئيس دولة، لها أرض محتلة، إلى طمأنة العدو بأفق طموحه، وحدود تحركات جيشه.
تصحيحًا للمسار تحت راية "الكفاح المباشر" بدأ طوفان الأقصى
في كامب ديفيد، قال السادات لوزير الخارجية المصري "سأوقع على أي شيء يقترحه الرئيس الأمريكي كارتر دون أن أقرأه". تحول الرئيس "إلى موظف في حضرة كارتر يتلقى تعليماته". راجعه الوزير فغضب، وانفعل قائلًا أمام حسن التهامي وحسن كامل وبطرس غالي وأشرف غربال "وماذا أفعل إذا كان وزير خارجيتي يظن أني أهبل".
يروي إسماعيل فهمي في كتابه التفاوض من أجل السلام في الشرق الأوسط واقعة طريفة، إذ أبلغ أسامة الباز ومحمد البرادعي المستشار القانوني بالوزارة أنَّ السادات يريد زيارة إسرائيل، فقال الباز "هذا جنون، لا شكَّ أن الرجل غير متزن. لا بدّ من منع ذهابه إلى القدس حتى ولو استعملنا القوة". ويضيف فهمي "ولم يختلف اعتراض البرادعي بالنسبة إلى فكرة السادات عن موقف الباز".
يرد اسم البرادعي فأدعو الله، مقلّب القلوب، بحسن الخاتمة. في مارس/آذار 2017 جمعته جلسة مع رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود باراك، في منتدى ريتشموند بولاية فرجينيا. من صور إعجاب البرادعي بباراك يخطر بالبال عنوان أغنية أم كلثوم الصبّ تفضحه عيونه.
لننسَ البرادعي. أما إسماعيل فهمي فأبرأ ذمته بالاستقالة قبل يومين من رحلة السادات. وأذاع التليفزيون نبأ تعيين وزير الدولة للشؤون الخارجية محمد رياض وزيرًا للخارجية، لكنه استقال بعد ساعة، ولم يحلف اليمين. ووقع اختيار السادات على محمد إبراهيم كامل، زميله في قضية اغتيال أمين عثمان.
"كل برغوت على قدّ دمه"، وكل مسؤول يهان بما يناسب قدره، ووزن دولته. بيجن لم يوجه كلامًا مباشرًا إلى السادات، وتكلم عن كارتر. ذهب عميقًا إلى نخْر التاريخ المصري، باحثًا لليهود عن شهادة ميلاد. وإسحق رابين توجه مباشرة إلى ياسر عرفات، إلى شخصه، مداعبًا وساخرًا وطاعنًا، في حضور حسني مبارك والملك حسين وبيل كلينتون.
رابين خاطب عرفات، بعد توقيع اتفاقية أوسلو "بدأت أؤمن أنَّ رئيس المنظمة، عرفات، أنك توشك أن تكون يهوديًا". لم يذكر أي منظمة؟ لأنه سيضطر إلى ذكر كلمة التحرير. ضحك الحضور وصفقوا، وارتعشت الساق اليسرى لمبارك. وضحك عرفات ولم يصفق. أقرّ بالعمومة قائلًا "إبراهيم جدي"، وكرر الجملة.
ما يبدأ بإهانة ينتهي بمأساة. وقبل النهاية المأساوية لعرفات، حاصره أبناء العم، ورأى نهايته. لم ينصت إلى عقلاء حذروه من سلام يمنح إسرائيل اعترافًا مجانيًا، في مقابل سلطة حكم ذاتي يفرح رئيسها بحرس الشرف.
السلام الحق، كما قال إدوارد سعيد، "لن يتحقق عن طريق ما يسمى بعملية السلام الأمريكية.. هذا الاستسلام، الذي لم يكن السبيل الوحيد أمامنا، هو الذي مَكَّن إسرائيل من تحقيق كافة أغراضها التكتيكية والاستراتيجية على حساب كافة المبادئ المعلنة للنضال العربي الوطني وللكفاح الفلسطيني". استقال سعيد من اللجنة المركزية، وسجل في كتابه غزة - أريحا: سلام أمريكي أنه لا سبيل لنيل الحقوق الفلسطينية "سوى الكفاح المباشر لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي".
لم يغنِ عن عرفات رسمه علمًا إسرائيليًا رمزيًا، وفي وسطه نجمة داود، تلك دعابة تثير الرثاء، نكتة المسكين الضعيف لا تضحك أحدًا. وتصحيحًا للمسار، تحت راية "الكفاح المباشر"، بدأ طوفان الأقصى.