منشور
الأربعاء 24 مايو 2023
- آخر تحديث
الجمعة 26 مايو 2023
للعرب الذين كانوا يعرفون أننا "دهنّـا الهوا دوكو" وخرمنا التعريفة، وللذين يلوموننا على ما يعدونه شوفينية مصرية تستغني بنفسها عن معرفة أكثر فهمًا لمحيطها، وللذين كانوا يتحاورون باللهجة المصرية التي يفهمها العرب "من المحيط الأطلسي إلى الخليج الفارسي" كما غنّى عبد الحليم حافظ؛ لهؤلاء وهؤلاء وهؤلاء أن يطمئنوا. لسنا على ما يبدو بخير.
ولعلهم يفرحون، ويروننا قد تعافينا. فالمتابع لخطاب الصحافة المصرية، وخصوصًا الناشطين الباحثين عن موطئ قدم في عموم الشام، يلاحظ تحولًا إلى الخطاب الشامي، لا علاقة له بانتشار مطاعم ومحلات عطور سورية جمّلت الشارع، بحكم أداء إنساني ولغوي راقٍ لشبان سوريين نعيد اكتشاف الحروف بألسنتهم "تكرم عينك".
اللغة كائن حي ينمو بالتفاعل. واللغة التي لا تثريها المستحدثات التكنولوجية والعلمية، ولا تستفيد من المنجز العمومي لعصرها تسعى إلى الضمور. هي لا تسعى، بل يتوقف تطورها وتغترب وتشيخ، في حين تمضي الحياة بعيدًا. والأساليب كذلك، ما لم تخضع إلى صرْعات وابتذال يفرغ اللفظ من معناه، ويفقده طاقته التعبيرية.
.. وهكذا
في الستينيات سخر يحيى حقي من فعل "دلف". كان الكُتاب يدلفون بإفراط، كأنهم اكتشفوا الفعل فأصروا على حلبه واعتصاره. وفي التسعينيات توارى فعل "دلف"، وتصدّر شبهُ الجملة "فيما". مثلًا "فيما تتواصل المباحثات تستمر الحرب". يقصدون "في حين تتواصل المباحثات تستمر الحرب". اختفى "فيما"، وابتلينا بفعل "وجّه"، يليه مصدر مسبوق بحرف الباء.
يكتبون مثلًا "وجّه الرئيس بإزالة الحديقة لبناء كوبري علوي". الركاكة تتمثل في وصف الجسر بأنه "علوي". هل يكون إلا علويًا؟ فالأرضيّ "ممرّ"، وما تحت الأرض "نفق". والرئيس لا يوجه، وإنما يأمر وينهى ويغضب ويزعق ويقرر ويقضي ويسجن.
وإذا "وجه" فيكون "إلى" كذا، وليس بكذا. اكتشفت الصحافة المصرية "وجّه بكذا"، ولا أعرف أصلًا شاميًا لهذا "التوجيه"، لكني أعرف أصلًا لتعبيرات منها "هكذا"، بصيغة ليست مألوفة مصريًا. مثلًا "لا أعرف أصلًا شاميًا لهكذا توجيه"، أي لا أعرف أصلًا شاميًا لهذا التوجيه. "مثل هكذا مرحلة هي الأسوأ"، أي مثل هذه المرحلة هي الأسوأ. "لا تعنيني هكذا أمور"، أي لا تعنيني هذه الأمور، لا تعنيني أمور كهذه.
معضلة حرف الجيم
اعتدنا إضافة كلمتيْ "عام" و"سنة" إلى رقم "كان عام 2000 حاسمًا". ومع صعود التشويم في الصحافة ألحّ المتشاومون على تعريف "عام"، فيقولون "كان العام 2000 حاسمًا". فذلكة لا يستقيم معها وضع "سنة" مكان "عام"؛ لأن الجملة ستكون شاذة شكلًا ونطقا لو كتبوا "كانت السنة 2000 حاسمة". التعريف إما بالإضافة وإما بالألف واللام، فكيف يجتمعان؟
ومع التشويم جرت رياح الخلجنة في الصحافة المصرية وفي الخطاب العام. يطلب أحدهم أن "تتصل عليه"، لا أن "تتصل به". ويقول آخر "أعتذر منك"، وليس "أعتذر لك/إليك"، مع وفرة استخدامات لغوية سلفية، في رنّات الهواتف، كما يستبدل البعض بالاستئذان اللطيف، في أمر بسيط، استحلافًا غليظًا "بالله عليك".
تشويم الصحافة تصيب عدواه دوائر أخرى. دليل مهرجان القاهرة السينمائي الدولي الرابع والأربعين (2022) حسم معضلة حرف G للشوام، في نصوص كرّست الأسلوب الشامي، واستبعدت "الجيم" المصرية، واستبدلت بها "الغين". للمرة الأولى في حدث فني أو ثقافي مصري يكتب سبيلبرغ، غريغوريو غرازيوني، إيفان لوينبرغ، مارينا غورباخ.
ليست الجيم المصرية رجسًا لغويًا، ولا تخالف قواعد الفصحى. وأعضاء مجمع اللغة العربية بالقاهرة الذي تأسس عام 1934، واتحاد المجامع اللغوية العلمية العربية الذي تأسس عام 1971، لم يتفقوا على صيغة لكتابة حرف G. هذا الحرف المتغطرس يحظى بخمسة أشكال عربية "ج"، "غ"، "ق"، "ك"، "گ". وتسبب في التباسات مزمنة في الكتابة والنطق أيضًا.
أصابتني الدهشة مرتين. في زيارتي الأولى إلى المغرب عام 2005، فاجأني في مطار الدار البيضاء نداء على رحلة "أجادير". ونحن ننطقها كما تكتب بحرف الغين، فإذا هي "جيم" مصرية. والمرة الثانية في زيارتي الأولى إلى الهند عام 2007، وقد زرتها أربع مرات، ولم أسمع أحدًا يقول "طاغور" أو "غاندي"، بحرف الغين، وإنما "طاجور" و"جاندي" بالجيم القاهرية.
هذا التشويش سببه الترجمات الشامية المبكرة لحرف G، ولأن المترجمين وعلماء اللغة لم يحسموا الخلاف بوضع قاعدة مقنعة لعموم العرب، فقد استمر الالتباس وكان ضحيته "جيفارا" شخصيًا. في كوبا والأرجنتين لا يعرفون "غيفارا" ولا "چيفارا" بالغين أو بالچيم المعطشة مثل جان وجيمي وجون وجورج.
أدت الترجمات المبكرة إلى خطأ عربي عمومي في "نطق" أسماء أعلام وبلدان: غاندي، طاغور، غاريبالدي، ريغان، السنغال، أغادير، غانا، أوغندا، يوغوسلافيا، بحرف الغين لا الجيم القاهرية.
بعيدًا عن الكبرياء والشوفينية، أظن أن رسم حرف "ج" أقرب إلى ترجمة حرف"G"، وليس مستحيلًا الاتفاق على رسم ترجمة "G" وإنهاء هذا الاختلاف الذي وجدتُ بداياته في كتاب للأديب الفلسطيني روحي الخالدي (1864 ـ 1913).
وكان جرجي زيدان نشر للخالدي سلسلة مقالات في مجلة الهلال، بداية من عام 1902، وفي عام 1904 جمعها في كتاب "تاريخ عِلم الأدب عند الإفرنج والعرب وفيكتور هوكو". "هوكو" هو فيكتور هوجو الذي تعتمده الترجمة الشامية "هوغو".
لماذا نكتب مانغو؟
متى يصبح المصطلح مصطلحًا؟ الإجابة الأكثر تبسيطًا: بعد "الاصطلاح" على شكله ودلالته؛ فلا يكون له في بلد عربي معنى، وفي بلد آخر بديلٌ "اصطلاحي". ويتطلب ذلك لجنة ممثلة للبلدان العربية تصوغ دستورًا "اصطلاحيا" موحدًا، وملزِما برسم ترجمة حرف "G". لعل التجربة تنقذنا من هذا الخلاف (الضلال؟) غير الاصطلاحي.
لوكالة رويترز، قبل إطلاق "النشرة العربية" في أبريل/نيسان 1980، تجربة خاضها أول رئيس للتحرير عاصم عبد المحسن. عملت مع الأستاذ عاصم سنوات في رويترز، وسألته فقال إن النقاش أنهى تنافس المدرستين المصرية والشامية، "بالتنازل المتبادل في بعض الشكليات مثل تلفزيون بدون ياء وتليفون بالياء، رغم أن المنطق يقول بتوحيد شكل الكتابة فيهما".
وأضاف أنه، بعد أسبوعين من النقاش، أقنع "إخواننا في بيروت بتغليب المنطق وهو الجيم، سواء معطشة "J" ومرققة "G" تكتب "ج"، إلا عند تغليب الخطأ الشائع. كذلك كتابة الاسم كما ينطق بالإنجليزية كسوفييت بدلا من سوفيات، وميشيل لا ميشال.
سبب إصراري هو توحيد المصطلح. فإذا أريد التفرقة بين الجيمين، فلماذا نكتب مانغو ولا نكتب إنغليز، وهو حرف الجيم نفسه؟ ولماذا نكتب سكائر ولا نكتب سغائر، مع أن الأصل هو الجيم؟ وكيف يمكن التمييز بين "G" و"Gh" إذا كتبا بحرف الغين؟ كان الحوار مضنيًا ومثمرًا أيضًا، وأبرز التنازلات في التلفزيون والتليفون. رحم الله الأستاذ عاصم، أما أنا فتعبت وعليّ إنهاء المقال.