بيكساباي
الروبوت يمارس الكتابة

بين يدي والكيبورد.. الطفو مقابل الحفر

منشور السبت 12 أبريل 2025

لم أكتشف شخصيةَ خطِّي في اللغة العربية إلا بعد أن احترفتُ الكتابة في سن الثلاثين. خلال فترات التعليم الأساسي، لم أمتلك تلك الشخصية التي تظهر جودة الخط من عدمه، ربما الخط، في هذه الحالة، له ارتباط بتحولات الشخصية، وكون الشخصية في طور التكوين سيصيب الخط بعيوب المراهقة وتحولاتها الفجائية، كالتنقل بين خطي الرقعة والنسخ، على سبيل المثال، أو المزج العشوائي بينهما.

خلال سنوات الجامعة في كلية العلوم، كانت اللغة الإنجليزية مادةَ الدراسة والكتابة، لم أكتب حينها باللغة العربية سوى بعض القصائد والقصص القليلة خلال فترة الهواية، بعد تخرجي من الجامعة، التي لم تكن كافية لتمنح خطِّي شخصيته المستقرة.

عند احترافي الكتابة، وهذا كان قرارًا بيني وبين نفسي، ملت أكثر لوضوح واستقامة خط النسخ، فكل حرف يرجع لأصله، بدون تحوير، عادت سنون حرفي السين والشين الثلاثة، وحرف الهاء عاد يكتب على السطر، بجانب مراعاة النقاط بدقة، حتى تظهر الكلمات وضوح شخصيتي التي أتمناها، بينما الكلمات تتراص عموديًا على الصفحة لا ميل فيها سواء ناحية اليمين أو اليسار، ما كان يمنح الكتابة، في السابق، اتساقًا خادعًا يُخفي هشاشة الخط وافتعاله، وربما افتعال صاحبه.

حاجب على باب الكتابة

بعد احترافي الكتابة كنت أنسخ المقالات والدراسات والقصائد التي أكتبها عدة مرات تصحيحًا لأخطائها النحوية والإملائية، قبل إرسالها للنشر، أو قبل تمريرها على أصدقائي، فتخرج الصفحة من تحت يدي كأنها صفحة مخطوط قديم.

اكتشاف الأخطاء الإملائية أو النحوية، أو تعديل الصياغة لبعض الجمل، عند المراجعة، كان يدفعني لإعادة كتابة الصفحة المعنية كاملة، لم أكن أفضل استخدام قلم أو فرشاة الحبر الأبيض "الكوركتور".

استخدمت أقلامًا تساعدني على منح الكلمات شكلًا منحوتًا كأنها صورة أو رمز على جدران المعابد

إعادة النسخ بدون كلل أو ملل، كانت له وظيفة أخرى، ربما كان يسد فراغات لم تُملأ بعد في علاقتي بالكتابة، تجعلني دائمًا في حضرة الكتابة، حتى ولو كنت أقف حاجبًا على بابها، أنادي فقط على أسماء الحضور والشهود.

كنت منجذبًا للوقوف أمام الصفحة البيضاء، وتجويد خطها وتصحيح أخطائها، مهما كلفني هذا من وقت. اكتشفت بعدها أنها ليست علاقة من جانب واحد، أو صورة من صور عبودية الكتابة، بل خلال هذه العملية كان يحدث نسخ للأفكار ذاتها، ودخولها إلى هذا العضو/اليد الذي تقوم بكتابته.

كان فعل النسخ جزءًا من مهمة الكتابة نفسها، تشديد العلاقة بين الأفكار وبين اليد، بين اللامرئي والمرئي، حتى ينصهرا داخل هذا النص.

على جدران المعابد

كانت الأفكار تُنحت وتشق طريقها من الفراغ، مثل أي منحوتة، أو مثل الكتابة الهيروغليفية التي كانت تنحت رسومها ورموزها بالأزاميل على جدران المعابد، ولا شك أن من كان يقوم بهذا العمل كان محترفًا، ووظيفته مقدسة، تجمع بين دقة استقبال الأفكار ومهارة اليد في تجسيدها.

إعادة النَسخ والتجويد للوصول لنص واضح في قراءته أكسب يدي مهارة وصقلَ معنى جمال الخط بمعنى أكثر دقة وهو الوضوح

كنت أستخدم أقلامًا يستخدمها الخطاطون، ولها سِن خاص، كان يأتي بها صديق من السعودية عند كل زيارة له للإسكندرية في الإجازات. كانت تساعدني على منح الكلمات هذا الشكل المنحوت، كأنها صورة أو رمز مرسوم على جدران المعابد.

كانت جدران المعابد المصرية القديمة صفحة مفتوحة على الدوام. لا شك أنهم كانوا يؤمنون بأن النقطة التي وصلوا إليها نهائية، حتى مستوى الأفكار كانت أيضًا نهائية، رغم محدودية العلامات والرسوم المستخدمة أو رمزيتها، ولكنها نقلت أشكالًا متعددة من الوعي الإنساني، ومعها أخذت الكتابة تتطور "بدأت رحلة الكتابة بالصورة ثم الرمز إلى أن أصبحت أكثر تحديدًا تجاه الحروف"، "بدأت الكتابة بالنقوش على الحجر، ثم المخربشات، وهي مرحلة وسط بين النقش والرسم، حاول الإنسان من خلالها أن يعبر ، في أشكال بلا نسب، عما يجري من حوله في الكون".

كتابة في كل الاتجاهات

كانت الاتجاهات مفتوحة حول خطوط الكتابة في اللغة المصرية القديمة، يحوط بها الهواء من كل جانب، بدون أي تمييز ثقافي لها، واكتسبت شخصيتها في التعبير ربما بسبب هذه البداية الحرة، فيمكن أن تكتب الرموز من أعلى إلى أسفل، أو من اليمين إلى اليسار والعكس، مراعاة للتنسيق والشكل الجمالي للكتابة.

"كُتبت اللغة المصرية القديمة في خطها الهيروغليفي أفقيًا ورأسيًا، من اليمين إلى اليسار فيما عدا الحالات التي تحتم تغيير اتجاه الكتابة لتتواءم مع اتجاه منظر معين أو نص معين على عنصر معماري ذي طبيعة خاصة، كما أن التنسيق والشكل الجمالي تطلب في بعض الأحيان أن تكتب بعض النصوص من اليسار إلى اليمين(....) ويمكن تحديد اتجاه النص في الهيروغليفية حسب اتجاه العلامات ذات الوجه والظهر مثل الإنسان والحيوان والطيور والزواحف، فلو العلامة متجهة نحو اليسار فإنها تُقرأ من اليسار إلى اليمين أو العكس".

المفارقة أنه عند الخطأ في كتابة أحد الرموز، كان من الصعب أن تعاد الصفحة من جديد! كان يتم ما يُشبه عملية التصحيح بالحبر الأبيض، إما أن يستبدل الحجر بآخر، ويبدأ الكاتب من جديد رحلة تصحيح الخطأ ومعه "يضيع الوقت والجهد والمال" أو يقوم الكاتب "بتغطية الخطأ بطبقة جصية ثم يكتب فوقها من جديد، وقد تسقط هذه الطبقة بعد فترة من الزمن"، فيتعرى الخطأ مجددًا.

الرجل الكمبيوتر

ربما هذا التحول في شخصيتي مع احترافي الكتابة، ورغبتها في الوضوح، مهَّد الطريق لهذه العلاقة المتبادلة بين اليد والأفكار. العقل يمد اليد بأفكار لتنسخها بدورها وتحولها إلى أحسن صورة ممكنة، في حدود استيعاب هذه الشخصية. بدأت أسمع رأي الأصدقاء في هذه المخطوطات/ المقالات/ الأشعار التي يقرأونها بأن خطي جميل، وهي المرة الأولى التي أتعرف فيها على هذه الموهبة.

إعادة النَسخ والتجويد من أجل الوصول إلى نص واضح في قراءته، أكسب يدي مهارة، وصقلَ معنى جمال الخط بمعنى أكثر دقة، وهو الوضوح. قال علي بن أبي طالب "الخط الجميل يزيد الحق وضوحًا"، وذلك في الدلالة على أهمية جمال الخط وعلاقته بالأفكار، فكأنك تكتب ليس فقط أفكارك ولكن تبسط أسرار ومشاعر هذه اليد التي تنوب عن الجسد، عبر تضاريس الخط.

كان هذا قبل دخول الكمبيوتر إلى حياتنا، حيث الرغبة في إنتاج صفحة على أكمل صورة سواء في جمال خطها ووضوح وسلامة كلماتها، كي تنافس صفحة الكتب المطبوعة، أو صور المخطوطات القديمة.

زمن الآلة الكاتبة

في وقت سابق ما بين الكتابة اليدوية وكتابة "الكيبورد"، كان للآلة الكاتبة دورها كوسيط بين الأفكار واليد. في العديد من الأفلام التسجيلية، والروائية، التي تدور عن حياة الكتاب الأجانب، تلعب الآلة الكاتبة دورًا مهمًا. كان والدي يحتفظ بواحدة لتحضير امتحانات اللغة الإنجليزية لطلبته في المدرسة الثانوية، كان صوت تكاتها جذابًا، كأن الأفكار أصبحت مجسمة في فضاء البيت.

كانت الآلة الكاتبة لا تزال وسيطًا يدويًا، بأصوات تكات حروفها، وحركات محورها، جزءًا من خامة اليد أو امتدادًا له إيقاعُه . أما الكيبورد فلمسته هشة غير مؤثرة، سرعان ما تذوب في الهواء، وتنفصل عن إيقاع ونبض اليد. كانت الآلة الكاتبة صديقًا للعقل واليد معًا، تنقل تيار الأفكار بينهما، في الاتجاهين، وليس في اتجاه واحد.

ربما تَظهر آثار هذه العلاقة المادية الآن على مربعات الحروف في الكيبورد، فهي من تَحمل، بعد مرور سنوات من الاستخدام، أثر هذه العلاقة بين الأصابع والحروف. فهناك حروف امَّحت تمامًا من الكيبورد، وأتعرف على مكانها بالخبرة، كما كانوا يعلِّمون قديمًا دروس الآلة الكاتبة، عند درجة معينة في التدريب كانوا يخفون أسماء الحروف، فتنفتح الأبجدية أمام المتعلم، الذي يتوقف نجاحه على أن يقوم بنسخ هذه الرقعة بأسمائها وأماكنها في خياله.

نبش الفراخ

بمجرد دخول الكمبيوتر حياتي، تركت الكتابة بالقلم، إلا نادرًا، وفقدت هذه الصلة بيني وبين خطي، أو بين يدي وصياغة أفكاري. أشعر كأن خطي نسي شخصيته، وعاد منفصلًا عن نظامه السابق، عاد كنبش الفراخ كما يقولون، أو عاد إلى مرحلة النقش والخربشة على الحجر، التي كان يعبِّر بها الإنسان البدائي عن أفكاره.

عادت حروف خطي لا تعرف بعضها جيدًا، تتنافر عندما أحاول أن أشبكها، وتتكرر مرات الحذف لبعض الكلمات فأعيد كتابتها مرة أخرى، لأنني لم أعد أتعرف على ملامح شخصية خطي، عندما أعيد قراءته، كأنه أصبح لشخص آخر.

صورة الكلمة هي ما نحفظه وليس تضاريسها وخباياها كما كانت تتقفاهما الأصابع من قبل وتعيد كتابتها

أصبحت اليد آلة أكثر منها أداة تفكير، أو عضو مشارك في إنتاج النص، أصبحت عضوًا مستأجرًا للقيام بمهمة، وبالتالي تغيرت نوعية وحساسية الأفكار التي تنتجها، أصبحت هناك سرعة ومضمار مفتوح كأنه مضمار سباق الخيول، تتقافز فيه الكلمات والجُمل بسرعة، بدلًا من حس النحت القديم للكلمات الذي كان ينتج قطعة متفردة.

ربما وفرت الكتابة بالكمبيوتر إنتاجًا كثيفًا من الكلمات والصفحات، يتحرك فوق الشاشة البيضاء لبرنامج الكتابة "الوورد"، ولكنه أصبح منتجًا هشًا، طافيًا وسهل المحو.

صورة الكلمة، هي ما نحفظه، وليس تضاريسها وخباياها، كما كانت تتقفاهما الأصابع من قبل، وتعيد كتابتها.

ربما هذا الوضع أكسب الكتابة معنى جديدًا: تلك الآلية والجرأة والثقة، كأنك تكتب على الهواء بدون خطوة وسيطة بالمعنى القديم، أو رقيب على هذا الفعل الإبداعي، تنقل الأفكار من العقل إلى الورق/الشاشة، مباشرة.

وأيضا أكسبها الإيهام، فترى الورقة أمامك وكأنها ورقة مطبوعة في كتاب، مكتملة لا سوء فيها، لا تلحظ أخطاءها كما كنت تلحظها عندما تكتب باليد. ربما سهولة التصحيح والحذف وضع هذه الغشاوة على العين عندما تقرأ ما كتبته الآلة.

أخطاء الصفحة المكتوبة يدويًا كانت مكشوفة، لأنها كانت تعتبر بمثابة بروفة دائمة، أما ورقة الكمبيوتر فتمنحك ثقة الغافل الذي لا يراجع كأنها العرض ذاته، أو البروفة النهائية.

الطفو مقابل الحفر

هذه الآلية أصبحت تسم أغلب مناحي حياتنا الآن، وبسببها تخلى الانسان، بدون إرادته، عن أدوات ووسائل، كانت تخص طريقة عيشه وإنتاجه للأفكار. ربما هناك سهولة في الطرق الحديثة، وسَّعت من مساحة هذه الأفكار وتعددها، ولكن ربما، أفقدتها خصوصيتها.

اكتسبنا خاصية الطفو، مقابل الحفر. أصبحنا ننبش في حياتنا اليومية وتفاصيلها، أكثر مما كنا ننقش في ذاكراتنا. ربما تكون معادلة عادلة في النهاية!

في أفلام كثيرة يتكرر هذا المشهد ليبرهن على سيطرة الكتابة الآلية على حياتنا. تنعكس الكتابة من فوق الشاشة المضيئة للكمبيوتر على وجه أحدهم يجلس أمامها، كأنها هي التي تكتبه، ليغدو واحدًا من رموز هذا النص الكوني الذي يعبر بالشاشة. 

نسير وراء الكتابة وتحولاتها، تنسخنا الآن كما نسخناها من قبل، صار بيدها الأمر واللجام، تسوقنا بسرعاتها، وسباقاتها، نصير شفافين وهشين مثلها، وعرضة للنسيان، لا وجود مادي، أو يدوي، في إنتاج هذه السلعة القديمة/ الجديدة، إلا هذه "الهاردات" القابلة للتلف أيضًا في أي وقت، ونقف من ورائها فاقدين للذاكرة، بدون ماض أو تاريخ.

ما سيأتي ليس عصر الإنسان.


* المقتطفات من كتاب "اللغة المصرية القديمة"، دكتور عبد الحليم نور الدين، الطبعة الثالثة، 2002. القاهرة. ليس هناك إشارة لدار النشر.