برخصة المشاع الإبداعي: الأمم المتحدة، فليكر
لاجئون في مخيم زمزم للنازحين داخليًا في إقليم دارفور بالسودان، 1 يوليو 2004

الحرب ثغرة يطل منها الأنبياء

منشور السبت 8 يونيو 2024

أجلس وراء الفاترينة الزجاجية للجاليري، فيما تمر أمامها عشرات العائلات السودانية التي استقرت حديثًا في الإسكندرية بعد الحرب الأهلية الأخيرة، التي أدت إلى نزوح الملايين داخل وخارج السودان. تُقدِّر مفوضية الأمم المتحدة للاجئين أعدادهم بأكثر من 8.5 ملايين شخص، منهم 1.8 مليون غادروا إلى الخارج. رقم يصعب تمريره بسهولة، أوطان تتحرك من مكان لآخر، داخل كبسولات معزولة من اللون، واللغة، والعرق.

أفواج لا تنقطع في سعيها اليومي إلى المفوضية التي تقع في نهاية الشارع. كل منهم يحمل ملفًا من الأوراق التي تشكل هويته الجديدة، يقبضون عليها بأيادٍ متعرقةٍ، وبلا مبالاة متعمدة، كما يبرم الطلبة أوراق الدروس الخصوصية في شكل أسطواني، ليُقنعوا أنفسهم أنها مرحلة مؤقتة وستنتهي.

التعدد قوة دافعة للحياة

أفكر دومًا في حبكة الحكاية التي يحملها كلٌّ منهم، والطريقة التي انتُزع بها من نومه، والبيوت الخالية من أصحابها، والحياة العادية التي تركوها خلفهم، الأرض والشمس والماشية والحجارة والذكريات.

ربما هذا النزوح الكثيف خلقته ظروف من الصعب إصلاحها بسهولة، وسط هذا العالم الذي فقد عقله والهدف من وجوده. جميعنا نجلس فوق فوهة بركان، ربما انفجر في أماكن، ولم ينفجر بعد في أخرى، أو أنَّ الانفجارات تأخذ أشكالًا متعددة الآن، حسب نقطة الضعف في كل دولة على حدة.

جندي من حركة جيش تحرير السودان، دارفور.

في بلد يبلغ عدد سكانه أكثر من 45 مليون نسمة، وعدد قبائله حوالي 570 تنقسم إلى 57 مجموعة عرقية وإثنية، تتحدث 114 لغة مكتوبة ومنطوقة، كان التعدد مصدر القوة الدافعة للحياة لإثراء المشهد بكل تناقضاته وتآلفاته وتفرعاته، وأصبح الآن نقطة الضعف.

أدت إلى ذلك العديد من العوامل؛ الاستعمار وأنظمة الحكم الشمولية التي حكمت وأدارت هذا التعدد، وسيطرة الرق والاستعباد فيما مضى، بجانب التمييز والعنصرية والتهميش لأعراق لصالح أخرى.

ربما أسهم ظهور مفهوم الدولة القومية/المركزية بمعناه الحديث في هذه الحروب، في الإبقاء على الحدود قائمة بين هذه الأعراق والإثنيات واللغات، ولم يحدث الامتزاج. ربما مع وجود هذا التعدد والتنوع الخلاق، كان السودان يحتاج إلى إبداع إنساني في إدارته، وتضحيات جماعية، تسعى نحو تأسيس جديد لمفهوم الدولة والجماعة.

مسيح دارفور

هناك من يتوقف من هذه الجموع العابرة أمام فاترينة الجاليري، هدأة وسط السعي تحت شمس النهار، يجذبه الحس اليدوي في مشغولات النسيج والفخار والجلد، ربما هو الأقرب للحس اليدوي لحياتهم التي تركوها خلفهم، نتبادل حديثًا قصيرًا، ولكن على قصره، يحوِّل هذه الجموع، في عينيَّ، إلى أفراد.

بالصدفة البحتة، بدأت منذ عدة أيام قراءة رواية الكاتب السوداني عبد العزيز بركة ساكن مسيح دارفور، الصادرة عام 2012. جذبني الاسم، قرأت له من قبل رواية الجنقو: مسامير الأرض واستمتعت بها وبلُغتها وبعفويتها، وبأبطالها من المجتمعات الهامشية، وبالجمل الكثيرة التي لم أفهمها ولكن ساعدني الحدس.

تعجبني بساطة لغته وشفاهيتها وعمق شعريتها، بجانب الحس الساخر، فالنص الروائي مسرح شفاف يكشف تنوع وتعدد المجتمع الذي يقع خلفه، بلغاته ولهجاته وأساطيره وأعراقه.

داخل الحروب هناك ثغرة يفلت منها العقل وتطل منها النبوَّة

من خلال كتابة عبد العزيز بركة ألحظ سودان ما قبل المدينة والمدنية، هناك أيقونات تمثل العمود الفقري للسرد والتأمل، كالقبيلة واللون والأصل. كل هذه التعقيدات تجعل فكرة الهوامش الإنسانية التي ستتمرَّد بعد ذلك على الحكومات المركزية، ضد التمييز الواقع عليها؛ محكومة بقوانين القبيلة في اختياراتها.

هناك أيضًا في الرواية أيقونة شجرة النسب، مثل قصص التوارة: فلان وَدْ فلان وَدْ فلان، هذه السلسلة القوية والحية التي لم تنقطع، وتلمح فيها قدرية الاستمرار والتكرار. فالتاريخ لن ينسى من أين جئت لو غيرت اسمك أو نسبك، بعكس المدن الحديثة، التي تُخفي هذه الأصول. شجرة العائلة في الرواية تبتلع أي فردانية، وظهور البطل الروائي فكرة غير قابلة للتطبيق. حتى ذلك الشخص الذي ادعى النبوَّة، يتضح في النهاية أنه ليس فردًا ولكنه حلم أو خيال جماعي، وليس بطلًا بالمعنى المعروف.

ضحايا الجنجويد

يحكي عبد العزيز في "مسيح دارفور" عن بدايات الحرب الأهلية 2003 في دارفور، عندما حملت حركات التمرد هناك السلاح ضد الحكومة المركزية، بسبب التهميش السياسي والاقتصادي الذي يعيشه الإقليم.

يؤرخ لنشأة قوات الدعم السريع أو الجنجويد، وقوامها الغالب من القبائل العربية التي تعيش في دارفور، بإيعاز من الحكومة المركزية لمواجهة حركات التمرد. وهنا تظهر مشاهد المذابح والاغتصابات والتطهير العرقي الذي قامت بها هذه القوات ضد المواطنين أبطال الرواية، الذين يتحلون طوال زمن الرواية برغبة متأججة في الثأر.

هؤلاء الذين يسيرون أمام الفاترينة الزجاجية يعيشون الآن مستقبل الصراع الذي بدأ في 2003، قبل أن يولد بعضهم، ولا يزال مستمرًا.

تحكي الرواية عن قوة عسكرية نظامية مكونة من 66 جنديًا تكلفها الحكومة المركزية بالقبض على شخص يدعي النبوَّة في دارفور. يُصاحب القوة فريق من النجارين من أجل صلب هذا المسيح الدجال، في نظر السلطة بالطبع، وأتباعه الذين اعتنقوا أفكاره. وهناك جنديان يظهران بوضوح؛ قائد القوة إبراهيم خضر إبراهيم، وتعود جذوره إلى عائلة من العبيد المعتوقين، ومعه شيكيري توتو كوه.

كان على إبراهيم، الذي نقرأ أغلب فصول الرواية على لسانه، منوطًا بما يملكه من موهبة في المحاججة، إقناع هذا المسيح بالعدول عن دعوته، أو يصلبه إذا لم ينصَع. وخلال رحلة الوصول إليه، نستعرض الرعب الذي تعرض له أبطال الرواية من قِبل قوات الجنجويد. في النهاية يصبح إبراهيم أحد أتباع مسيح دارفور، مقتنعًا برسالته الإنسانية.

نهاية العالم الآن

تذكرني هذه الرحلة للقبض على مدعي النبوَّة، بفيلم القيامة الآن (1979) للمخرج الأمريكي فرانسيس فورد كوبولا، والمستوحى من رواية جوزيف كونراد "قلب الظلام"، بعد نقل وقائعها من أدغال إفريقيا إلى فيتنام.


في فيلم كوبولا، يرسل الجيش الأمريكي النقيب بينجامين ويلارد/مارتن شين في مهمة خاصة في أدغال وغابات فيتنام، ليغتال العقيد في القوات الخاصة الأمريكية والتر كورتيس/مارلون براندو لأنه أصبح مجنونًا، كما يصفه قادة الجيش، حيث أنشأ محمية منعزلة في إحدى الغابات وسط رجال القبائل الفيتناميين ممن أصبحوا جيشًا خاصًا له، يعيش وسطهم كإله، ينظم حياتهم، ويأتمرون بأمره.

 اندمج كورتيس في حياة الآخر تمامًا بعدما أوصلته الحرب إلى اليأس من الحياة التي يعرفها، وأفقدته الثقة في الحضارة الإنسانية. يرى "قلب الظلام"، الذي يعنيه كونراد، سواء للإنسانية أو الحضارة.

الرجال الجُوَّف

خلال رحلة الضابط ويلارد بحثًا عن الجنرال كورتيس عبر الغابات، يتعرف بدوره على جانب الحرب المظلم من الحضارة الإنسانية، ويعاين الطريق الروحي الذي أدى بكورتيس إلى ما آل إليه. وعندما يصل إلى هدفه، يجد شخصًا آخر، غير الذي وصمه قادته بالجنون.

في النهاية يسمح كورتيس لويلارد بأن ينفذ مهمته، رغم قدرته على سجنه في جزيرته، وهو مستسلم تمامًا، فقد كان يتمنى الموت بعد الذي عاشه.

وخلال أحاديثهما يقرأ كورتيس على ويلارد مقطعًا  من قصيدة الشاعر الأمريكي تي إس إليوت الرجال الجوف.


"نحن البشرُ الجوّف

نحن البشرُ المحشوون

نميلُ معًا

والرأسُ مليءٌ بالقشِّ. فيا للحسرة!

حناجرُنا المتيبسةُ إذا ما نهمس

هادئةٌ وبلا معنى

مثل الريحِ تمرُّ على العشبِ اليابس

أو أقدامُ الجرذانِ تمرُّ على كسرِ زجاج

في القبو اليابس

شكلٌ لا سيماءَ لهُ، ظلٌّ لا لونَ لهُ، قوةٌ شُلَّت، إيماءٌ ولكنْ لا حركة"

"هكذا ينتهي العالم

لا بدَويّ بل بنشيج"


ثغرة تطل منها النبوَّة

داخل الحروب هناك ثغرة يفلت منها العقل وتطل النبوَّة، لأنَّ هناك رغبة دائمة في الخلاص بسبب اليأس وانعدام الثقة في النجاة.

تستنفد الحرب الحد الأقصى من التحمل، ولا يبقى داخل النفس سوى التحليق خارج هذا الوعي لإمساك يد القيادة من جديد، حيث تذهب النفس في رحلة داخل أراضيها المكتشفة في قلب الظلام، للنظر إلى الناحية الأخرى من الحياة عبر التحليق فوقها. فالنبوُّة تسامٍ فوق الواقع شديد التردي.

أمام انسداد الأفق ينفجر الوعي ويلعب العقل لعبته

ظهور المسيح في دارفور له أصل في تاريخ السودان الحديث، ومرتبط بمقاومة الاستعمار. في عام 1921 حدث ما يُسمى بثورة نيالا، إحدى مدن إقليم دارفور، بقيادة أحد المتمردين على الاستعمار واسمه عبد الله السحيني، وأعلن أنه "النبي عيسى"، بعثت به العناية الإلهية، ليجهز جيشًا يطرد المستعمر البريطاني. 

كلُّ من اقترب من مسيح دارفور آمن برسالته وصار من جماعته، وعاش معه في الكهف الذي يختبئ فيه. دائمًا كان يُمنِّي أتباعه بالخلاص في النهاية عبر الموكب، الذي يشبه رحلة الخلاص لسفينة نوح، من حياة لحياة أخرى جديدة. ولكنَّ موكب مسيح دارفور ينطلق وكلُّ أتباعه نيام، يحلمون به جميعًا كحلم واحد.

"ناموا كلُّ أتباعه في الكهف، واستعدوا للموكب، وجميعهم حلموا حلمًا واحدًا ومعهم عيسى ابن الإنسان، وكلٌّ منهم يحمل صليبه".

"احملوا صلبانكم واتبعوني فمن لا يستطيع أن يحمل صليبه لا يستطيع الطيران ولن يجد الكلمة وكلما ثقل صليبك مررت خفيفًا كالريشة في الهواء".

"بالرغم من ثقل الصلبان كانوا يحسون كما لو أنهم يحلقون في السماء التي مثل أحضان أم عظيمة لا نهائية تضمهم إليها وتبتسم".

أمام انسداد الأفق ينفجر الوعي ويلعب العقل لعبته، يحفر في أماكن جديدة لم يطلها من قبل، حيث الخلاص الداخلي، بعبور قلب الظلام، والعثور على الإنسان الذي داخلنا، والتمسك به.

حديث مع علي طه

عائلات عديدة من النازحين السودانيين الذين يعبرون أمام فاترينة الجاليري، يبيتون في الحديقة العامة التي تقع بجوار المفوضية. يستلقون على النجيل الأخضر وتحت الأشجار، حتى يكونوا مبكرين على أبوابها في اليوم التالي، كما يحدث على أبواب السفارات الأجنبية.

لا أحد يخشى أن يراه الآخرون نائمًا، لا فرق بين الفضاءَين العام والخاص، ألحظ هذه المساحات المتداخلة بين الخاص والعام. أجد في لغة عبد العزيز ساكن أيضًا هذا التماهي بين الاثنين؛ الأسرار والحياة العامة. الرغبات والنوايا واضحة لم تكتسِ ببلاغة المدن ومسالكها الملتوية التي تُعقِّد الكلام وتخفي غرضه، ولا بأدبها المصطنع.

عندما لا يصبح الآخر آخرَ يصبح مكان التقبل جاهزًا

كثر في السنوات الأخيرة في الإسكندرية التداخل بين المجالين الخاص والعام، خاصة في النوم. أصبح النوم في الشوارع وعلى الأرصفة ومقاعد محطات الترام شائعًا بسبب الفقر والأزمة الاقتصادية الطاحنة.

أصادف عادة من يحجز ليلًا الرصيف أمام الجاليري لينام، أوقظه برفق في الصباح. يعتذر سريعًا ويلم حاجياته ويمضي، ببطانية متسخة في الصيف والشتاء، لا أعرف إلى أين سيمضي.

لا أنسى عندما رأيت بطلي الثوري المفضل، وبطل جيلي حتى سن الخامسة والعشرين، علي طه، أو الممثل الشهير عبد العزيز مكيوي، وهو يفترش الرصيف أمام باب الجاليري. كان يتسول الأماكن للنوم.

هذا الرجل ذو الصوت المؤثر العميق والمعذب في فيلم القاهرة 30 (1966) لـ صلاح أبو سيف، الذي ربما أثر في جيل كامل كان يبحث عن معنى. تحدثت معه، وجلس معي في الجاليري لبعض الوقت. لم تكن هناك مادة للتواصل بيننا، ولا حتى علي طه الذي انزوى في ركن مظلم في لا وعيه. كان يائسًا تمامًا، ينتظر الموت بفارغ الصبر.

سأعرف لاحقًا أنَّ هناك من سيستضيفه، ويستضيف هذه النجومية المجهضة، لعدة أيام في بيته، ربما بحثًا عن سرِّ هذا الصوت المؤثر. وسمعت بعدها أنه استوطن حديقة عامة في ميدان المنشية.

النقود ليست بيتًا

أنظر بإكبار لهؤلاء الذين يستضيفون الغرباء في بيوتهم. مساحة لا أملكها. لا يكفي أن تُخرج من جيبك النقود لتعفي نفسك من مسؤولية وضعتها الحياة والظروف أمامك. النقود ليست بيتًا، أو دفئًا أو ملاءة. النقود في النهاية عطر مؤقت سرعان ما يزول مهما كانت درجة تقطيره أو ندرته. دائمًا أسأل نفسي عن مدى صدق ما أؤمن به من أفكار، بوضعها على المحك، على هذا الخيط الرفيع.

في فيلم دخان (1995)، تأليف وسيناريو الروائي الأمريكي الذي رحل حديثًا بول أوستر، وإخراج واين وانج. نتتبع حياة الروائي اليائس والمحبط بول بينجامين/ويليام هارت، المصاب بمرض لا شفاء منه، وهو يحاول إنهاء روايته التي تتضمن رؤيته لحياته.

داخل هذا الظرف الاستثنائي يستضيف الكاتب مراهقًا أسودَ في بيته، تضعه الصدفة في طريقه، ليمنحه البيت والدفء، وسرعان ما يدب الخلاف بينهما، لأن ذاتية الكاتب واعتياده على الكتابة في هدوء، تغلبت على تقبله للآخر الطارئ.

في هذا النزاع ظهرت المساحة الجديدة للطرفين: أنَّ الآخر لا يُعدُّ آخرَ، بل جزء من الذات، عبر معرفته الأعمق بهذا الشاب وحياته، وأزماته الشخصية، التي يتدخل الروائي لحلها، وأيضًا معرفة الشاب بنفسية الكاتب الشهير، الذي منحه رفقة إنسانية كان في حاجة إليها.

عندها يكون مكان التقبل جاهزًا، بدون حسابات كثيرة.