على الرغم من أن الذكاء الاصطناعي ليس جديدًا، لم تُصبح علاقته بالأدب والفن سؤالًا إلا بعد إعلان شركة OpenAI عن تطبيقها ChatGPT في نوفمبر/تشرين الثاني 2022. في غضون خمسة أيام صار لدى التطبيق مليون مستخدم، ثم ازداد عددهم مليونًا كلَّ شهر، وأصبح عام 2023 عامًا للذعر لدى البعض وللفرح لدى آخرين. الخائفون والمبشرون يشتركون في الاعتقاد بمولد كاتب عموم؛ يمتلك قدرات إلهية في كتابة الروايات والقصائد وترجمتها.
هكذا، وكأنما نحو خمسين عامًا من الشك في قدرات الذكاء الاصطناعي الأدبية قد محيت في لحظة. لكنَّ هذه الثقة التي وُلدت فجأة لم تكن بلا معارضة، واعتبر البعض أنَّ الأمر يتعلق بمهارة شركة OpenAI في الترويج لمنتجها.
في أمريكا، كتب الصحفي والمؤلف ستيفن ماركي الرواية الأولى باستخدام ثلاثة من برامج الذكاء الاصطناعي. وحملت عنوان Death of an Author بتوقيع Aidan Marchine، وهو اسم اخترعه الذكاء الاصطناعي.
كان دور ستيفن ماركي التحفيز والتخطيط. ونقلت عنه إليزابيث إيه هاريس في صحيفة النيويورك تايمز قوله "الرواية عملي بنسبة مائة بالمائة، لكنني لست مخترع الكلمات". تورد هاريس في مقالها فقرة وتعلق عليها "الكتابة مفعمة بالحيوية لكن لا يوجد بها شيء غير عادي". ولا يبدو أنَّ الرواية حققت اختراقًا في معدلات القراءة، مع أنها لو فعلت ذلك لكان منطقيَّا، باعتبارها تجربة أولى ومن الطبيعي أن تستثير الفضول.
نظرية المكنسة الكهربائية
محاولاتي لفهم آلية عمل الكتابة جعلتني أُبسِّط طريقتها لنفسي بعمل المكنسة الكهربائية، التي تجمع التراب من فوق السجاد، وقد تشفط خاتم زواج سقط سهوًا. وعند إفراغها لن يبدو سوى الشيء الغالب، وهو التراب. إذا ركنا إلى هذه الآلية لكتابة مقال رأي؛ فالأمر خطير جدًا. لن يظهر سوى التوجه الغالب الذي ستعيد هذه الآلة تدويره. والغالب دائمًا هو التراب، وستختفي قطع الذهب. ويختفي التنوع البشري، آراء ومصالح الأقليات العرقية، وآراء ومصالح فئات عمرية كالمسنين وكذلك المعاقين.
فوق هذه المخاطر، لدينا معضلات قانونية وأخلاقية تتعلق بحقوق ملكية هذه الأفكار لأصحابها من الكُتَّاب الذين استباحت التكنولوجيا أفكارهم وعممتها. وعلى الدرجة نفسها من الضرر عندما نغذي البرنامج بأسلوب كاتب محدد ونجبره في حياته أو بعد موته على قول أشياء عكس قناعاته.
واقعة "الجريمة والعقاب" قد تجعلها رواية مترو ممتازة لكنه في الحقيقة فخ الرواية المليئة بالجرائم
هذه المخاطر في مجال الرأي وإنتاج المعرفة موجودة في مجال تأليف الروايات، فإنتاج رواية من مجمل التراث الروائي لن يضيف شيئًا للمدونة الأدبية العالمية، وسيتراوح العمل بين سرقة جهود كتاب متعددين، وسرقة كاتب واحد وسلبه حريته حيًّا وميتًا.
لا نعرف مدى الجهد الذي بذله ستيفن ماركي في التحكم بثلاثة برامج لتأليف رواية "موت مؤلف" وهذا لا يهم. بالنتيجة صار معروفًا أنَّ بوسع الروبوت أن يكتب رواية حب أو رواية جريمة أو رواية في أي موضوع آخر، بحبكة متقنة. يمكنه أن يأخذ القراء في دروب طويلة من الانتظار تعلمها من كل الروايات السابقة. وهذا التقدم الذي يعتبره البعض مذهلًا، لا يزيد على كونه إعادة اكتشاف الماء الساخن!
ما الذي يفعله كُتّاب روايات المترو غير سرقة مشهد من هنا ووصف من هناك لإنتاج رواية مفعمة بالحيوية دون أن يكون فيها شيء غير عادي؟
خط إنتاج ضخم من روايات الجريمة تقدمه مصانع التسلية؛ جرائم في القطارات، في مقابر الفراعنة، في الشوارع والبيوت. لكن لا أحد من كتاب تلك الروايات ولا الذكاء الاصطناعي بوسعه كتابة رواية مثل "الجريمة والعقاب" رواية دوستويفسكي. بتبسيط شديد ارتكب الطالب المتعثر في دراسته راسكولنيكوف جريمة قتل المرابية العجوز أليونا إيفانوفنا، ونال العقاب. هذه الواقعة تجعل من "الجريمة والعقاب" رواية مترو ممتازة، تفسر واقعتها الرئيسية العنوان البسيط الأقرب لأن يكون مبتذلًا. لكنه في الحقيقة فخ الرواية المليئة بالجرائم.
الكل مجرمون وضحايا
دافع القتل الواضح إهانة ارتكبتها المرابية بحق راسكولنيكوف عندما ذهب ليرهن ساعة اعتبرتها رخيصة لا يمكن أن تمنحه مالًا مقابلها وصرفته بعبارة قاسية. ذلك التصرف من العجوز أغضب شابًا يائسًا، ودفعه إلى التفكير بقتلها.
حدد موعد التنفيذ بدقة في وقت ستكون المرابية فيه بمفردها. عدَّ الخطوات التي عليه قطعها بين مسكنه ومسكنها (730 خطوة) واختار فأسًا أداةً للجريمة، حاك لها عروة في بطانة معطفه حتى يعلقها فيها ولا يراها المارة. وتصادف أن عادت أختها البلهاء الحامل على غير توقع منه ففتح لها الباب وقتلها. وكان واردًا أن يتراجع عن القتل حتى اللحظة الأخيرة. لكنه في يوم الجريمة دخل حانة فسمع طالبًا وضابطًا صغيرًا على طاولة مجاورة، يتحدثان عن المرابية ذاتها متفقين على استحقاقها للقتل.
لدى الطالب المبرر العقلي نفسه الذي يؤمن به راسكولنيكوف ويجعل ضميرهما مرتاحًا لقتلها؛ فهي تكنز مالًا سيذهب حسب وصيتها إلى الدير، بينما يمكن أن ينقذ عشرات الأسر "من الفقر المدقع والتحلل الأخلاقي والدمار والفساد ومستشفى الأمراض التناسلية" وبهذا يمكن بقتل فرد واحد إنقاذ حياة ألوف غيره من العفن والفساد، قال لنفسه "يموت واحد ليعيش مئات. مسألة حسابية".
على قارئ اليوم أن يُلم بالتاريخ السياسي والاجتماعي لروسيا القرن التاسع عشر ليدرك أن دوستويفسكي كان يسخر من أبواق القيصر، من خلال هذا التبرير الإحصائي الذي أضفى على الجريمة هدفًا نبيلًا. في ذلك الوقت، كان الصحفيون المدافعون عن القيصر يستخدمون المنهج الإحصائي، الذي كان جديدًا، للتهوين من شأن ظاهرة البغاء. بل يقلبونها نعمة بـ"مسألة حسابية". إذ يعتبرون أنَّ سقوط امرأة واحدة لتصريف رغبات الرجال في الجنس، يحمي مائة امرأة أخرى من التحرش.
تعززت عزيمة راسكولينيكوف عبر المنطق الإحصائي. ونفَّذ جريمته التي يمكن وصفها بـ"الجريمة الكاملة" وانصرف دون أن يراه أحد. لكنَّ المحقق زاميوتف كان يترصده، بشكل غير رسمي، لأنه قرأ له مقالًا قبل ذلك بمدة طويلة يدافع فيه عن حق الأشخاص المميزين المنذورين لتغيير التاريخ في أن يقتلوا. وبغير التضحية ببعض الدهماء لا يمكن للتاريخ أن ينطلق إلى الأمام. أبدى راسكولينيكوف في ذلك المقال إعجابه بنابليون، وفاجأه المحقق بقوله "من أدراني أنك لم تعتبر نفسك نابليون؟".
من خلال جريمة القتل هذه برهن دوستويفسكي على وحشية ومبدأ الإحصاء، والمبدأ البرجماتي. فإنهاء حياة مرابية عجوز قتلٌ للناس جميعًا، وسقوط امرأة انهيار للإنسانية كلها، كما حاكَم فكرة التميز العنصرية التي أسست لحق مختاري الرب في القتل فأثمرت النازية والفاشية.
وهكذا يمكننا اعتبار رواية دوستويفسكي، على نحوٍ ما، رواية عن الأفكار المجرمة. أما الجريمة المادية في الرواية، فليست واحدة، بل سلسلة من الجرائم.
الجميع مجرمون وضحايا، وهذه سمات المجتمعات الاستبدادية، حيث تكون وراء كل تلك الجرائم جريمة واحدة كبيرة ترتكبها السلطة. وهكذا فقد تكون الجريمة التي يقصدها دوستويفسكي هي جريمة القيصر والإقطاع الروسي.
الذكاء الاصطناعي لا يرى الطبقات
بعيدًا عن الجريمة، يمكننا أن نتأمل علاقة الحب الخاصة جدًا بين راسكولينيكوف وصونيا. هناك الكثير من القبلات المتبادلة على الرأس واليدين والقدمين. وقد اكتشفت الفتاة وجه الضحية في هذا المجرم، واكتشف فيها وجه التضحية. لا أثر للرغبة، بل حس التضامن بين الضعفاء الذي يميز قصص الحب الدستوفسكية من روايته الأولى "الفقراء" وحتى "الأخوة كارامازوف".
وعلى وجه العموم، فالرواية بما فيها من طبقات للمعنى ومن خصوصية فلسفية وروحية، تؤكد أنها رواية لا يكتبها سوى شخص واحد. هو فيودور دوستويفسكي بتكوينه النفسي والمعرفي والديني بل والجسدي، الذي لا يتكرر بالكيفية ذاتها أبدًا.
وبالقدر نفسه لا يكتب الانتظار الملحمي للعدو في صحراء التتار سوى دينو بوتزاتي، ولا يكتب الانتظار الملحمي لقبلة ما قبل النوم من الأم سوى مارسيل بروست، ولا يكتب حضرة المحترم سوى نجيب محفوظ بما فيها من جنون موظف صغير يريد أن يحقق ألوهية الإنسان على الأرض، يُضيِّع عمره انتظارًا ليصبح هو هذا الإله، عندما يحصل على منصب المدير العام في مؤسسته!
على الأرجح أنَّ الذكاء الاصطناعي لا يمكن أن يحاكي الأدب الحقيقي أو يهدده، لكنه يستطيع محاكاة كتب التسلية ذات السطح الواحد، ولكن دون أن يهددها، بسبب طبيعة عملية التواصل بين الكاتب والقارئ.
الشراكة البشرية بين كاتب وقارئ، شرط أساسي. الاثنان لديهما الرغبة والإرادة للتواصل واقتسام فكرة أو حكاية أو سر هي التي تخلق ما يصفه تيري إيجلتون بالتواطؤ الضروري لإتمام العملية الأدبية.
وليس بعيدًا عن هذا التواطؤ رغبة القارئ في التلصص على الكاتب. ومن غير الممكن أن يمنح القارئ تواطؤه لآلة تؤلف له من الروايات السابقة رواية جديدة، ومن غير المعقول أن تكون لديه رغبة في التلصص على الحياة السرية لتلك الآلة.
ولعل الضجة الحالية حول الذكاء الاصطناعي تكون مناسبة للدفاع عن الأدب، في مواجهة الخطر الحقيقي والمهم، وهو انعدام موازين القوة بين كاتب يقف وحيدًا في مواجهة جبهة قوية من الناشر والمسوق وورش الكتابة التي تُعلِّم تقنيات الكتابة لأعداد أوفر من الناس، يكتبون نصوصًا تبدو جيدة دون أن يكون فيها شيء مميز.
بعد أن كانت سلاسل النشر العملاقة ظاهرة أمريكية، بدأت تغزو ساحات صمدت عقودًا بعيدًا عن هذا الخطر. كالساحة العربية والساحات الأوروبية. باتت دور النشر تحدد الموضوعات التي ينبغي على الكاتب معالجتها وتمنحه أموالًا عن كتاب لم يكتبه قد تفوق عائدات إيتالو كالفينو من كل كتبه، لكنها تضع على رأس ذلك الكاتب التكنوقراط محررًا يحكم رغباته وحقه في ارتكاب خطأ قد يستحسنه القراء.
هذا التغول التسويقي هو الخطر الحقيقي، فهو خلق الآلاف من الكتاب شبه الآليين الذين يدرون أرباحًا، لكن الكتاب الكبار في العالم الآن قد لا يتجاوزون عدد أصابع اليدين.