طوال العقد الماضي على الأقل، حقق الباحثون في مجال الذكاء الاصطناعي/Artificial Intelligence (AI) العديد من الاختراقات التكنولوجية الهامة، ومع ذلك لم يُثِرْ أيٌّ منها مثل ذلك القدر الهائل من الاهتمام بين غير المتخصصين كما حدث خلال الشهور الأربعة الأخيرة، بعد إصدار شركة OpenAI تطبيق المحادثة ChatGPT.
الأكيد أن أيًّا من هذه النجاحات الكبيرة، التي تخطت العديد من المشاكل الأساسية المعوقة لتقدم الـ AI لعقود ماضية، لم يدفع، على سبيل المثال، بيل جيتس، مؤسس مايكروسوفت وأحد أهم رواد التكنولوجيا في العالم اليوم، إلى أن يؤكد أن "عصر الذكاء الاصطناعي بدأ".
والأكيد أيضًا، أن أيًّا منها لم يُثِرْ هذا القدر من الفزع لدى المتخوفين من الآثار السلبية لتطور تكنولوجيا الـ AI، إلى حد أن يوقع أكثر من ألف شخصية بارزة في مجالات الأعمال والتكنولوجيا والبحث العلمي، على رأسهم إيلون ماسك، الرئيس التنفيذي لتسلا والمالك الحالي لتويتر، على خطاب مفتوح يطالب الشركات المسؤولة عن تطوير التطبيقات الجديدة للذكاء الاصطناعي بوقف عملها لستة أشهر ريثما يمكن التوافق على وضع ضوابط لتطورها وإنشاء آليات للإشراف عليها.
ماسك، الذي كان أحد مؤسسي OpenAI قبل أن ينسحب منها منذ وقت قصير، له علاقة مثيرة للاهتمام بصناعة الـAI التي ادعى في وقت سابق أنه حريص على الاستثمار فيها، لأنه يرغب في مراقبة تقدمها عن كثب لخشيته من أن تتطور في اتجاه يهدد بقاء الجنس البشري نفسه.
ما الجديد في ChatGPT
في إطار تطور مجال الـAI نفسه، فإن ChatGPT هو مجرد تطبيق يعتمد على تكنولوجيا بدأ تطويرها قبل عدة أعوام. في الواقع، عندما أصدرت OpenAI تطبيقها الذي أحدث كل هذه الضجة، لم تبنِه على أحدث ما وصلت إليه تكنولوجيا GPT التي يعتمد عليها.
لم يكن قرار مديري OpenAI التنفيذيين بإصدار ChatGPT مدرجًا على خطة الشركة، التي كان باحثوها يعملون طوال ما يقرب من سنة سابقة على ذلك التاريخ، على تطوير النسخة الرابعة من تكنولوجيا GPT. ولذلك عندما طُلِب منهم بناء ChatGPT بشكل مفاجئ، استخدموا بعضًا من العناصر الجديدة المعدة لـGPT4 لإدخال التعديلات على النسخة السابقة من التكنولوجيا GPT3، وأسموا النسخة المعدلة GPT3.5، وبنوا عليها تطبيق المحادثة الجديد.
في الحقيقة فإن ChatGPT ليس أول تطبيق معتمد على تكنولوجيا GPT يتاح لاستخدام الجمهور غير المتخصص، فقد سبقه إصدار شركة OpenAI نسختين من تطبيق DALL-E الذي ينتج رسوميات (graphics card) اعتمادًا على أوامر نصية يدخلها المستخدم.
اجتذب DALL-E كثيرًا من الاهتمام عند إصداره، ولكنه لم يُثِرْ نفس ردود الفعل التي أثارها ChatGPT. الاختلاف بالغ الأهمية هو أن الأخير يستجيب للأوامر النصية الموجهة إليه بإنتاج نصوص وليس رسوميات. والنصوص المكتوبة هي القالب الرئيسي لإنتاج المعرفة في أغلب، إن لم يكن كل، مجالات الأنشطة الإنسانية المتراوحة بين التسلية والنكات وتقارير العمل وأكواد برمجيات الحاسب الآلي، وصولا إلى الأوراق البحثية الأكاديمية والأعمال الأدبية، ...إلخ.
ينتج ChatGPT نصوصًا بناءً على الأوامر والأسئلة الموجهة إليه في أي قالب يحدده المستخدم. هذه النصوص في معظمها لا يمكن تمييزها بسهولة عما يمكن لشخص متخصص أن ينتجه. وهو يحقق ذلك دون أي تدريب سابق في مجال تخصص بعينه، فكل ما تمت تغذيته به هو فقط محتوى شبكة الإنترنت حتى وقت مبكر من عام 2022.
الجديد الذي أتاح ChatGPT لنا أن نراه لأول مرة، هو ما أصبح بإمكان تطبيقات الـAI أن تحققه. وبناءً عليه، ما يمكننا أن نتوقع منها تحقيقه, لا خلال سنوات بل في عدة شهور. الشهر الماضي، أصدرت شركة OpenAI بالفعل النسخة الرابعة من تكنولوجيا GPT، وفي الوقت نفسه قدمت نسخة جديدة من ChatGPT تعتمد عليها، هي الآن متاحة للمشتركين بحسابات بمقابل مالي.
نماذج الذكاء الاصطناعي الجديدة تتضاعف قدرتها كل عدة أشهر فقط، وهي قابلة للتطويع لأداء عدد لا حصر له من المهام خلال وقت قصير دون الحاجة إلى بنائها لتأدية مهمة بعينها من الصفر. وهي قادرة كذلك على التعلم؛ بحيث يتحسن أداؤها بشكل مستمر من خلال تغذيتها بتقييم لمدى نجاحها في تحقيق الأهداف الموضوعة لها. أكثر من ذلك، هذه النماذج تنتج استجابات يمكنها أن تبهر القائمين على تطويرها أنفسهم، وربما تخيفهم أيضًا.
حتى وقت قريب، كان استخدام الـAI بشكل عملي يكاد ينحصر في أداء مهام روتينية محدودة. اليوم أصبح بالإمكان استخدامه لأداء مهام أكثر تقدمًا، يدخل كثير منها تحت ما نصنفه عادة كعمل يعتمد على مهارات يمكن فقط للبشر امتلاكها، بما في ذلك القدرة على الابتكار والإبداع.
الموظفين الأقل دخلًا ممن يؤدون وظائف روتينية في معظمها هم الفئة الأكثر تضررًا، ومن بين هؤلاء نسبة كبيرة من النساء
حياتنا "الذكية"
التطبيقات العملية التي يمكن تطويرها بناءً على ذلك لا حصر لها، والكثير منها يصبح متاحًا بالفعل كل يوم. ما يعنيه ذلك أن الـAI سيصبح بشكل متزايد وبأسرع كثيرًا مما يتوقع أغلبنا، جزءًا من الحياة اليومية لعالمنا، وهو ما يعني أن معظم ما نقوم به اليوم بطريقة كانت معتادة طوال عقود وربما قرون، سيتغير.
ما يمكن مقارنة ذلك به هو ما أحدثه دخول الكومبيوتر، وشبكة الإنترنت، والموبايلات، ثم الموبايلات الذكية إلى حياتنا، وهو ما يعني أن هذه الحياة ستتغير بشكل جذري بحيث لن تشبه أبدًا ما كانت عليه قبل ذلك.
تضعنا نماذج الـAI الحديثة أمام عديد من التساؤلات الهامة، في حالات نجاحها، وحالات إخفاقها أيضا. فهي لم تحقق الكمال ولا ينتظر أن تحققه في أي وقت قريب. وهي تخفق بشكل فادح أحيانًا، كما أن اعتمادها على التعلم من محتوى الإنترنت، وهو محتوى معلوماتي غير قابل للتحكم فيه ولا غربلته بشكل فعال، يعني أنها تعكس الانحيازات البشرية السائدة في مجتمعاتنا، ومن ثَمَّ فبالإمكان أن تساهم في تضخيم الأثر الاجتماعي لهذه الانحيازات، الإيجابي والسلبي منها، والأخطر هو المُختلف عليه منها.
خلال الشهور القليلة الماضية من حياة ChatGPT والتطبيقات المشابهة له، طفت على السطح بسرعة مخاوف استخدام هذه التطبيقات في حملات الدعاية المغرضة ونشر المعلومات الزائفة، واستخدامها كأدوات في الصراعات السياسية والاجتماعية. كثير من ممثلي اليمين المحافظ في الولايات المتحدة أبدوا امتعاضهم لأن ChatGPT يبدو وكأنه يعبر عن انحيازات ليبرالية تقدمية، وفي المقابل بادر منتمون إلى نفس التيار إلى تطوير تطبيقات تعكس انحيازات يمينية محافظة.
على مستوى أكثر التصاقًا بالعملي واليومي، ثمة مخاوف مشروعة من أن يفقد كثير من البشر وظائفهم التي يمكن أن يكون الـAI بديلًا أقل تكلفة وأكثر موثوقية في أدائها. الأعداد الضخمة من الموظفين الأقل دخلًا ممن يؤدون وظائف روتينية في معظمها هم الفئة الأكثر تضررًا، ومن بين هؤلاء نسبة كبيرة من النساء حول العالم.
في المقابل، ثمة أمل في أن يتيح التطور المتسارع للـAI فرص عمل جديدة، ولكن الفئات الأقرب إلى الاستفادة بهذه الفرص تختلف عن تلك المرشحة لفقدان وظائفها، وهو ما يعني أن المجتمعات التي يعنيها تجنب مثل هذا الخلل في تركيبة قواها العاملة عليها أن تجد وسائل فعالة لإعداد أفرادها لأن يكونوا أقرب إلى الاستفادة مما سيقدمه الذكاء الـAI وأبعد عن أن يكونوا ضحايا له. هذه أيضا مشكلة فردية سيكون على كل منا أن يجد لها حلولًا ربما في مستقبل ليس بعيدًا بقدر ما يتمنى.
عصر الذكاء الاصطناعي بدأ بالفعل. ليس ثمة أية مبالغة في هذه العبارة. وأول أدوات مواجهة التحديات الجديدة التي سيتحتم علينا التعامل معها في المستقبل القريب هي المعرفة. لا يمكن لأيٍّ منا أن يكون مستعدًا لمواجهة ما يجهله. وليتحقق لنا ذلك ينبغي أن تكون تلك المعرفة موضوعية لا تعتمد فقط على المبالغة لاجتذاب الاهتمام، وينبغي ألا تكون سطحية وضحلة بل أن يكون بها قدر العمق الكافي لأن تكون مفيدة حقًا دون أن تكون شديدة التعقيد بحيث لا يكون في مقدور الغالبية فهمها.