أمام شاشات الكمبيوترات والموبايلات الذكية، يعمل آلاف الأشخاص لساعات طويلة، يراجعون ملايين الصور والنصوص ويصححون الأخطاء. هؤلاء العمال يشكّلون العمود الفقري للتقنيات المتقدمة التي نعتمد عليها يوميًا. هؤلاء هم العمال غير المرئيين.
أحيانًا، تطلق الشركات على "العمل غير المرئي" مسمّيات مثل "العمل الحر" أو "اقتصاد المهام"، ولكن أيًا كانت التسمية، فإنها تُشير إلى عامل لا يرتبط بوظيفة دائمة أو دوام كامل لدى جهة معينة، بل يؤدي مهامًا محدّدة أو مشاريع قصيرة الأجل لمصلحة شركات أو أفراد.
يطلق على هذا العمل أحيانًا "الوظائف الدقيقة" لأنها صغيرة ومستقلة، أي تقوم بذاتها ولا ترتبط بمهام أخرى، ويمكن إنجازها بشكل منفصل في أي وقت ومكان، فلا تحتاج سياقًا أوسع أو عملًا متواصلًا.
هؤلاء العمال يؤدون مهامًا تشمل تصنيف الصور والفيديوهات لتحسين محركات البحث وتدريب البرمجيات على فهم اللغة الطبيعية ومراجعة الترجمات الآلية. كما يفرزون البيانات ويصححونها لتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي المتقدمة، مثل برامج التعرف على الوجوه/facial recognition وأنظمة التوصية/recommendation التي تقدم اقتراحات للمستخدمين على منصّات مختلفة، كتوصية الأفلام على منصات البث أو المنتجات في المتاجر الإلكترونية.
إضافة إلى ذلك، يساهمون في تطوير تقنيات السيارات ذاتية القيادة عبر تحليل الصور لتحسين قدرة الأنظمة على تمييز المشاة والإشارات المرورية.
من المصنع إلى الخوارزمية
تشير التقديرات إلى وجود أكثر من 156 مليون عامل في اقتصاد المهام، تتوارى جهودهم خلف واجهات الأنظمة الرقمية.
في الوظائف التقليدية، يحصل العمال على مزايا كالتأمين الصحي والتقاعد، إضافة إلى استقرار وظيفي ودخل ثابت. أما في اقتصاد المهام/العمل الحر، فالعامل يُعدّ مستقلًا، والشركات غير مُلزمة تجاهه بأي شيء.
من أمثلة هذا النمط من العمل المنصات الرقمية أمازون ميكانيكال تورك، وأوبر، وكليك ووركر التي تربط العمال بالشركات والأفراد الذين يحتاجون إنجاز مهام قصيرة الأجل دون الالتزام بعقود دائمة.
يحصل العامل على الوظيفة من خلال خطوات بسيطة تبدأ بالتسجيل على إحدى هذه المنصّات وإنشاء حساب يعرض فيه مهاراته. ومن ثم، يستطيع تصفح قائمة المهام المتاحة التي تتفاوت في طبيعتها ومدتها والأجر المحدد لكل منها، فيختار المهام التي تناسبه ويقدّم طلبًا لتنفيذها. بعض المهام تكون متاحةً للقبول المباشر، والبعض الآخر يتطلب اجتياز اختبارات أو تقييمًا للمهارات.
يكشف الواقع وجهًا مظلمًا لاستغلال العمال رغم ترويج المنصّات لمزاياه
بعد قبول المهمة، يُنفّذها العامل وفق المتطلبات المحددة، ويرفع عمله إلى المنصة. إذا كانت النتائج تلبي المعايير، يحصل على أجره المقرر، الذي يعتمد غالبًا على عدد المهام التي يكملها. مستقبل العامل المهني على أي منصّة يعتمد على نظام تقييم صارم، بناءً على سرعة التنفيذ ودقته. التقييم المرتفع يساعده في الحصول على مهام أفضل، بينما يقلل المنخفض فرصه في المستقبل.
ورغم ترويج المنصّات الرقمية لهذا العمل على أنه مرن ومستقل، يكشف الواقع جانبًا مظلمًا يتمثل في استغلال العمال عبر آليات رقمية صارمة، إذ تراقب منصات مثل أوبر وأمازون ميكانيكال تورك أداء العمال بواسطة الخوارزميات. يعتمد هذا التقييم على نظام النجوم، ويترتب على انخفاضه عقوبات تشمل تقييد الحساب أو إيقافه، مما يضعهم تحت ضغط دائم لقبول المهام دون النظر إلى مردودها المالي.
منصة أمازون ميكانيكال تورك تُعد نموذجًا للعمل الرقمي الجزئي، فهي تربط بين أصحاب الأعمال والعمال لإنجاز مهام صغيرة متكرّرة تتطلب تدخلًا بشريًا، مثل تصنيف الصور، إدخال البيانات، وتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي من خلال توسيم البيانات.
رفضت شركة أمازون التدخل لحل مشكلات بعض العمال بعد حرمانهم من حقوقهم
تتيح هذه المنصة للشركات الوصول إلى عمال من مختلف أنحاء العالم بتكلفة منخفضة وسرعة عالية، إلا أنها تدفع أجورًا زهيدةً، غالبًا لا تتجاوز بضعة سنتات لكل مهمة، ويعملون في بيئات تفتقر إلى الاستقرار الوظيفي دون عقود أو حماية قانونية.
إحدى القصص التي تكشف طبيعة العمل على أمازون ميكانيكال تورك تتعلق بشركة AI Insights التي طلبت تنفيذ أكثر من 70,000 مهمة. وعند إنجاز بعض العمال لمئات من هذه المهام، فوجئوا برفض الشركة للعمل بشكل جماعي دون توضيح.
وفقًا لسياسات منصة أمازون، هذا الرفض حرم العمال من أجرهم وأثر سلبًا على تقييمهم ووصل حد إدراجهم في "القائمة السوداء" دون ارتكاب أي خطأ. وعند مطالبة العمال أمازون بالتدخل، رفضت متحججة بأنها لا تتدخل في النزاعات بين العمال ومستأجري العمل.
تمثل منصة كليك ووركر نموذجًا مشابهًا، فتقدم مهامًا صغيرة تتطلب العمل البشري، مثل كتابة وتحرير المحتوى، تصنيف البيانات، وإجراء الاستطلاعات. يواجه أكثر من مليوني عامل مسجل على هذه المنصة تحديات تتمثل في تدني الأجور وعدم الاستقرار الوظيفي.
ورغم أن كليك ووركر تدعي إمكانية كسب 10 يورو في الساعة، فإن متوسط الأجر لكل مهمة يكون منخفضًا بسبب المنافسة الشديدة على المهام المتاحة، إلى جانب الوقت المستغرق في البحث عن العمل. كما يتحمل العمال تكلفة المعدات والإنترنت بأنفسهم، وأظهر أحد التقارير أنهم لا يتلقون أجرًا عن 15% من الأعمال التي ينجزونها.
أدوات إنتاج حديثة واستغلال تقليدي
يواصل العمال دورهم في اقتصاد المهام غير المرئي اليوم مثلما في العصور السابقة، إذ يعتمد النظام الحالي على جهودهم في السياق الرقمي، تمامًا كما اعتمدت المصانع سابقًا على العمال لصيانة الآلات وتشغيلها.
يتجسد مفهوم "التشيؤ" في شكل جديد إذ يتم تحويل العمال إلى أدوات إنتاج
ومع اختلاف الأدوات وتغير الزمن، يشترك هؤلاء العمال مع عمال الصناعات التقليدية في سمة أساسية؛ التقليل من قيمة مساهماتهم، والنظر إليهم كأجزاء قابلة للاستبدال، لا كعناصر أساسية في سلسلة الإنتاج. وينعكس هذا على الأوضاع النفسية والاجتماعية للعمال، فيعانون من شعور الاغتراب في منظومة خوارزمية مجردة، تجعلهم بعيدين عن نتائج عملهم المباشر، ويفتقدون الرؤية الواضحة لتأثير جهودهم على المنتج النهائي.
إضافةً إلى ذلك، يتجسد مفهوم "التشيؤ" في شكل جديد؛ إذ يتم تحويل العمال إلى أدوات إنتاج. وتعمل الشركات على الترويج لفكرة أن التقنية هي الحل لجميع تحديات الإنتاج، متجاهلةً الدور الحيوي للعامل البشري في تشغيل وتطوير الأنظمة الذكية، مما يؤكد أن التقنية ليست محايدةً بقدر ما تُطوَّر ضمن إطار رأسمالي يستهدف الربح.
ويتيح هذا النموذج للشركات تقليص دور العمال وتقليل قدرتهم على المطالبة بحقوقهم، في ظل ترويجها ادعاءات بأن العالم المؤتمت/automated world المعتمِد على الذكاء الاصطناعي سيحل محل الجهد البشري. غير أن الواقع يثبت أن مساهمة العمال لا تزال جزءًا لا يتجزأ من هذه المنظومة، حتى وإن كانت غير مرئية.
يبرز هنا وهم فكرة "المرونة" التي تقدمها الشركات كميزة تتيح حرية اختيار أوقات العمل والمهام، بينما هي في الواقع تنقل التكاليف والمخاطر إلى العمال؛ إذ يتحملون عبء تقلبات الطلب وساعات العمل الطويلة. هذه "المرونة" المزعومة هي غطاء لمشاكل هيكلية أعمق، مثل ضعف الروابط المهنية والتفاعلات الاجتماعية بين العمال وإحساسهم بالتهميش.
كما أن التنافسية الحادة بين العمال تزيد الوضع تعقيدًا، فهم يتسابقون لإنجاز المهام في أسرع وقت وبأقل تكلفة، مما يُضعف قدرتهم على التنظيم الجماعي أو التفاوض لتحسين ظروفهم. هذه المنافسة تؤدي إلى تآكل الأجور، إذ تستفيد الشركات من وفرة العمالة المستعدة للقبول بشروط عمل أقل.
تنظيمات رقمية في مواجهة استغلال الشركات
يشكِّل الاقتصاد الرقمي تحديًا أمام الجهود التنظيمية للعمال، إذ تختلف طبيعته عن النماذج التقليدية للمصانع والمكاتب، مما يستدعي تطوير آليات تنظيمية جديدة تتوافق مع طبيعة هذا الاقتصاد لمواجهة سياسات الاستغلال التي تمارسها الشركات التقنية الكبرى.
تَظهر هنا أهمية المنصات الرقمية والتنظيمات العمالية العابرة للحدود كوسائل تجمع العمال وتمكّنهم من التنسيق والدفاع عن حقوقهم، فأصبحت ركيزة أساسية في دعم حقوق العمال الرقميين، تجمعهم تحت مظلة واحدة رغم تنوع خلفياتهم، وتوفر فضاءً مشتركًا يوثقون فيه تجاربهم ويقيّمون ظروف العمل وأداء أصحاب العمل، ما يعزز قدرتهم على اتخاذ قرارات مستنيرة.
على سبيل المثال، تقدم منصة Turkopticon لمستخدمي Amazon Mechanical Turk وسيلةً لتبادل الخبرات وتقييم أصحاب العمل، لمساعدتهم في تجنب المهام ذات الشروط غير العادلة. كما توفر منصة FairCrowdWork تقييمات حول منصات العمل المستقل مثل Upwork وFreelancer، بناءً على معايير تشمل الأجور وظروف العمل، إلى جانب تقديم أدلة وإرشادات لتحسين بيئة العمل.
يمثل التمويل المستدام تحديًا آخر في تطوير المنصات الرقمية الداعمة لحقوق العمال
وتعد حملة Gig Workers Rising نموذجًا آخر لحملات المجتمع المدني التي تركز على حقوق سائقي أوبر وLyft في الولايات المتحدة، بهدف تمكينهم من خلال أنشطة حقوقية تستهدف تحسين الأجور وتوفير التأمين الصحي، والدفع نحو تصنيفهم موظفين بدلًا من متعاقدين مستقلين.
التحديات التمويلية والرقابة التقنية
يمثل التمويل المستدام تحديًا آخر في تطوير المنصات الرقمية الداعمة لحقوق العمال. وظهرت مبادرات ناجحة، مثل منصة App Drivers & Couriers Union في المملكة المتحدة، التي تعتمد نموذج العضوية التعاونية، فيسهم السائقون باشتراكات شهرية لدعم الاتحاد. كما تُعد Worker Info Exchange مثالًا لمنصة تدار وتُمَوَّل من قبل العمال أنفسهم لحماية حقوقهم الرقمية.
وفيما يخص القيود التقنية، تفرض منصات العمل أحيانًا قيودًا تهدف إلى تقويض جهود العمال التنظيمية عبر مراقبة أنشطتهم أو الحد من تواصلهم. لمواجهة ذلك، قد يلجأ العمال إلى استخدام تطبيقات مشفرة أو منصات مستقلة توفر مستويات عالية من الخصوصية، لتسمح لهم بتنظيم اجتماعاتهم الإلكترونية وتوحيد جهودهم بدون الخوف من رقابة أرباب العمل.
كما تواجه جهود التنظيم في مجال الاقتصاد الرقمي تحديات تتعلق بغياب التشريعات المناسبة في الكثير من الدول، مما يجعل تحقيق مكاسب قانونية أمرًا صعبًا. ومع ذلك، تمكنت بعض التنظيمات العمالية من تجاوز هذا العائق عبر الضغط المستمر على الهيئات التشريعية.
دور النقابات المحلية
تمثل النقابات المحلية أساسًا مهمًا لحماية حقوق العمال الرقميين، لتساهم في التفاوض لتحسين الأجور وظروف العمل، وتعمل كوسيط لتوحيد الجهود مع التحالفات الأممية لتعزيز تأثيرها على الصعيدين المحلي والدولي.
تُعدّ تجربة نقابة GMB Union في بريطانيا نموذجًا ناجحًا، إذ استغلت القوانين البريطانية للضغط على شركة أوبر للاعتراف بسائقيها عمالًا رسميين، مما منحهم حقوقًا تشمل الحد الأدنى للأجور والتأمين الصحي والإجازات المرضية. هناك أيضًا تجربة روابط واتحادات العمال في ولاية كاليفورنيا، حين نجحت في تمرير قانون AB5 الذي يعترف بعمال الاقتصاد الرقمي موظفين رسميين، ويمنحهم حقوقًا قانونية.
مع توسع نطاق العمل الرقمي عالميًا أصبحت الحاجة ملحةً لتنظيمات عمالية تتجاوز الحدود لدعم حقوق العمال
ولعل أبرز التحديات التي تواجه النقابات المحلية تتمثل في قدرتها المحدودة على التأثير على الشركات العالمية الكبرى، خصوصًا في الدول التي تفتقر لتشريعات قوية. لمواجهة هذا التحدي، تستطيع النقابات المحلية تعزيز التعاون مع النقابات الدولية والتحالفات العابرة للحدود، لتكوين جبهة ضغط عمالية أممية تزيد من تأثيرها على تلك الشركات.
تحالفات عمالية عابرة للحدود
مع توسع نطاق العمل الرقمي عالميًا، أصبحت الحاجة ملحة لتنظيمات تتجاوز الحدود لدعم حقوق العمال. قد تسعى هذه التحالفات، سواء كانت هياكل دائمة أو تحالفات مرنة، إلى توحيد جهود العمال من مختلف الدول للدفاع عن حقوقهم في بيئات عمل غير محمية. ومن أمثلة هذه التحالفات Transnational Social Strike Platform الذي يجمع عمالًا من عدة دول ويسهّل التنسيق في القضايا المشتركة، وتبادل الخبرات للدفاع عن حقوقهم بشكل جماعي. وهناك UNI Global Union التي تضم أكثر من 20 مليون عامل من حوالي 150 دولة، وتعمل على تحسين بيئة العمل في الشركات الكبرى من خلال الضغط الدولي ودعم النقابات المحلية.
أحد الأسس التي يمكن أن تقوم عليها هذه التنظيمات هي الهياكل التنظيمية المشتركة مثل مجالس تمثيلية ديمقراطية تعقد اجتماعات دورية لمناقشة السياسات، وتوفر قواعد بيانات عن ظروف العمل وتقييمات الشركات. إضافة إلى ذلك، قد توفر بعض هذه التنظيمات دعمًا ماليًا من خلال صناديق تضامن تُخصص للمتضررين من النزاعات القانونية والمشاركين في الاحتجاجات.
كما ستساهم هذه التنظيمات في تنسيق تحركات العمال الرقميين في الدول المختلفة، مثل تنظيم إضرابات متزامنة أو إطلاق حملات ضغط مشتركة على الشركات العالمية.
لتعزيز قدرتها على تحقيق الأهداف، تحتاج التنظيمات العمالية العابرة للحدود إلى استراتيجيات مرنة تضمن انخراط العمال من مختلف الثقافات والتشريعات. فالتباين القانوني بين الدول يجعل من الصعب توحيد مطالب العمال، ويمكن مواجهة ذلك عبر صياغة مبادئ مشتركة تشمل حقوقًا أساسية كالأجور العادلة وحماية العمال من الفصل التعسفي. من ناحية أخرى، تتطلب العوائق الثقافية واللغوية توافر منصات متعددة اللغات وتقديم برامج توعية ثقافية لتعزيز التفاهم بين العمال.