صورة موّلدة بواسطة نموذج الذكاء الإصطناعي DALL-E
لم تعد التكنولوجيا أداة محايدة، بل أصبحت ساحةً للصراع نفسه

الاستثمار المغامر.. كيف يستفيد الأمن القومي الأمريكي من الشركات الناشئة؟

منشور الخميس 26 يونيو 2025

في قلب المقاربة الأمنية الأمريكية، تتجذّر عقيدة السلام من خلال القوة إطارًا ناظمًا يُوجّه السياسات الدفاعية والتكنولوجية على حدّ سواء. هذه المقولة، التي تبدو للوهلة الأولى شعارًا سياسيًا، تحوّلت في الواقع إلى استراتيجية مؤسسية تتداخل فيها أدوات الحرب التقليدية مع أدوات الابتكار التكنولوجي.

لم تعد حماية الأمن القومي الأمريكي حكرًا على الجيوش والقواعد العسكرية، بل أصبحت مهمة موزّعة على شبكة معقدة من الشركات الناشئة، والمختبرات الخاصة، والمستثمرين المغامرين، الذين يبتكرون تقنيات متقدمة تخدم أغراضًا أمنية واستخباراتية وعلمية في آنٍ واحد.

وهكذا، أصبحت ريادة الأعمال في وادي السيليكون جزءًا لا يتجزأ من منظومة الردع الاستراتيجي للولايات المتحدة، حيث تُنتج الأفكار كما الأسلحة، ويُخاض الصراع الجيوسياسي من داخل المكاتب المغلقة لا ميادين القتال وحدها.

الذراع الاستثماري في التقنية لـCIA

استثمار الصندوق الأموال في الشركات الناشئة يُمكن أن يوفر قدرات فائقة لحماية الأمن القومي الأمريكي

في عام 1999، أسست وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية الصندوق الاستثماري In-Q-Tel ليكون بمثابة وسيط بين مجتمع الاستخبارات المسؤول عن حماية الأمن القومي الأمريكي والشركات الناشئة.

المهمة الأساسية للصندوق تقديم الحلول التكنولوجية المبتكرة للمشكلات الملحة التي يواجهها الأمن القومي الأمريكي ودعم مهام وكالة المخابرات الأمريكية المركزية ومجتمع الاستخبارات الأمريكي. على أساس ذلك، يستثمر الصندوق الأموال في الشركات الناشئة ورواد الأعمال القادرين على تطوير تقنيات يُمكن أن توفر قدرات فائقة وحماية للأمن القومي الأمريكي.

شرع الصندوق في استثماراته الأولى لدعم العمل في مجال الأقمار الاصطناعية المستخدمة للتجسس، ثم تحول بعد ذلك إلى مجالات تحليل البيانات وتخزينها، إضافة إلى الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمية والبنية التحتية لاتصالات شبكة الجيل الخامس/5G والمعالجات الدقيقة والتكنولوجيا الحيوية.

يتراوح عدد استثمارات الصندوق ما بين اثني عشر وخمسة عشر استثمارًا سنويًا، قيمتها بين نصف مليون وثلاثة ملايين دولار أمريكي. وتعمل الاستخبارات مثل غيرها من شركات الاستثمار مراقبًا لمجالس إدارة الشركات التي تستثمر فيها. وهذا يُتيح لها الوصول المباشر إلى معلومات عن الشركات والمنتجات.

بصفتها منظمة غير ربحية، تُعاد توجيه الأرباح التي تحصل عليها من الشركات المستثمر بها إلى استثمارات في شركات ناشئة جديدة.

وطبقًا لتقارير، قد تصل الميزانية السنوية للصندوق إلى 120 مليون دولار يحصل عليها من مجتمع الاستخبارات، ويبلغ حجم استثماراته السنوية في الشركات الناشئة 75 مليون دولار مستهدفة في المقام الأول جولات التمويل من السلسلة A وB لتجنب المنافسة مع المستثمرين في المراحل اللاحقة.

في عام 2021، أطلق الصندوق برنامج IQT Emerge وذلك لدعم رواد الأعمال في المراحل المبكرة لشركاتهم الناشئة وربطها بالأبحاث الممولة من الحكومة الأمريكية لتحقيق أقصى استفادة ممكنه للأمن القومي الأمريكي.

وفي العام نفسه تأسس مختبرات وكالة الاستخبارات المركزية /CIA Labs الذي يجمع موظفي الوكالة مع الشركات الناشئة والأوساط الأكاديمية لبحث وتطوير حلول علمية وتكنولوجية تدعم مهمة الوكالة.

من التتبع الجغرافي إلى مكافحة التزييف العميق

من أبرز الشركات الناشئة التي استثمر فيها الصندوق واستفاد منها الأمن القومي الأمريكي، شركة جيوفيديا/Geofeedia التي تبتكر تقنيات تتيح لعملائها - جهات إنفاذ القانون والأجهزة الاستخباراتية- التنبؤ والتحليل استنادًا إلى تدفق المحادثات والأنشطة الرقمية، مما يجعلها أداة فعالة في مراقبة التجمعات والاحتجاجات ومتابعة ما يُنشر عبر الإنترنت بدقة مكانية وزمنية عالية.

استثمر الصندوق أيضًا في شركة سيلانس/Cylance التي يمكنها أن تساعد مديري الأمن الرقمي في المؤسسات على تحديد وتحييد هجمات الأمن السيبراني باستخدام نماذج معالجة اللغة الطبيعية والتحليل التنبئي والذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي.

تعاون الصندوق مع الشركات الناشئة  أنقذ أرواحًا كثيرة

في عام 2025، استثمر الصندوق في شركة Cerabyte مبتكرة نظام تخزين سيراميكي/Ceramic Storage System رائد، يستخدم تقنيات الكتابة بمصفوفة الليزر ليوفر نظام تخزين بيانات ثابتًا تمامًا. أي أن المعلومات المخزنة لا يُمكن تغييرها بمرور الوقت مع قدرة فائقة على حفظ البيانات لمدة لا تقل عن 5000 عام.

هذه التقنية ذات أهمية خاصة لوكالات الاستخبارات التي عادةً ما تُحافظ على فترات زمنية تمتد بين 25 و50 عامًا لرفع السرية عن البيانات، وتحتفظ بكميات هائلة من البيانات في وحدات تخزين باردة (غير متصلة بالإنترنت).

كذلك، استثمر الصندوق في شركة GetReal Labs (تُعرف تجاريًا بـGetReal)، وهي شركة متخصصة في تطوير أدوات لمكافحة التزييف العميق/deepfakes وانتحال الهوية الرقمية، باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي. وتوفر الشركة أدوات للكشف عن التلاعب بالصور والفيديوهات والصوت، إضافةً إلى خدمة استجابة للحوادث تُعرف باسم GetReal Respond، تساعد المؤسسات على مواجهة الحوادث السيبرانية المعقدة من خلال التحليل الجنائي الرقمي والتحقيقات المدعومة بالذكاء الاصطناعي.

وكشف كريس داربي، الرئيس التنفيذي السابق للصندوق، أن تعاونهم مع الشركات الناشئة أنقذ أرواحًا كثيرة. فعلى سبيل المثال، أوضح كيف أن عمل شركة ناشئة أمريكية متخصصة في تحليل المخلفات الكيميائية الموجودة في السجاد وبدعم من "In-Q-Tel" سمح للجيش بتجهيز نفسه بأجهزة قادرة على اكتشاف وجود مواد كيميائية خطرة في أفغانستان والعراق.

وتشتمل محفظة الصندوق على مشاريع مستقبلية لدعم الأمن القومي الأمريكي مثل شركة سيفي/Cyphy المصنعة للطائرات المسيرة القادرة على الطيران بمهام استطلاع لفترات طويلة بفضل مصدر طاقة مستمر، وشركة Atlas Wearables المنتجة لأجهزة تتبع اللياقة البدنية التي تراقب عن كثب حركات الجسم والعلامات الحيوية، وشركة Fuel3d المصنعة لأجهزة محمولة تنتج مسحًا تفصيليًا ثلاثي الأبعاد للهياكل والأشياء، وشركة Sonitus المطورة لنظام اتصالات لاسلكي يمكن وضع جزء منه داخل فم المستخدم.

عسكرة الشركات الناشئة

تسعى الاستخبارات العسكرية الأمريكية التي تعد جزءًا من حماية الأمن القومي الأمريكي إلى الاستفادة من الابتكارات التكنولوجية للشركات الناشئة لمساعدتها في الحروب بواسطة الخوارزميات التي تستند إلى تحليل كميات هائلة من البيانات المجمعة من الطائرات المسيّرة والأقمار الاصطناعية والكاميرات والهواتف المحمولة والمعاملات الإلكترونية والسوشيال ميديا ورسائل البريد الإلكتروني.

لعبت شركة Clearview AI دورًا في الحرب الأوكرانية-الروسية في التعرف على الوجه مجانًا والتي استخدمت لتحديد هوية الجنود الروس القتلى وإبلاغ عائلاتهم 

وبرزت استفادة الاستخبارات العسكرية الأمريكية من الشركات الناشئة خلال الحرب الأوكرانية-الروسية، وقدمت هذه الشركات دعمًا تقنيًا مباشرًا لأوكرانيا. على سبيل المثال، وفرت شركة SpaceX، المملوكة لإيلون ماسك، خدمات الإنترنت عبر شبكة Starlink، مما ساعد في الحفاظ على الاتصالات في المناطق المتأثرة. بالإضافة إلى ذلك، قدمت شركات مثل Capella Space وUmbra Space صورًا عالية الدقة باستخدام تقنية SAR، التي كانت حيوية لرصد التحركات العسكرية الروسية حتى في ظروف الطقس السيئة أو في المناطق المغطاة بالضباب والسحب.

كما لعبت شركة Clearview AI دورًا في الحرب الأوكرانية-الروسية من خلال تقديم تقنيتها للتعرف على الوجه مجانًا للحكومة الأوكرانية، التي استخدمتها لتحديد هوية الجنود الروس القتلى وإبلاغ عائلاتهم بذلك. كان هذا الإجراء يهدف إلى اختراق الرواية الرسمية الروسية حول الحرب، من خلال تقديم أدلة مباشرة على مقتل الجنود الروس، مما قد يؤثر على الرأي العام الروسي تجاه القيادة السياسية والعسكرية.

وأنشأ وزير الدفاع الأميركي الأسبق آشتون كارتر في 2015 وحدة الابتكار الدفاعية/Defense Innovation Unit، وتتمثل مهمتها في تحديد الشركات التي تطور تقنيات قد تكون مفيدة للجيش والاستثمار فيها، إلى جانب بناء علاقات مع الشركات الناشئة، وتجنيد أفضل المواهب.

ما بعد الربح

لم تعد الشركات الناشئة مجرد نموذج عمل يسعى إلى ربح تجاري لكن أصبحت أداة مهمة في حماية الأمن القومي لدولة كبرى مثل أمريكا بجانب الدبلوماسية والمساعدات الخارجية والتبادل التجاري وهو ما يستوجب ضرورة النظر إليها كمركز للابتكارات التكنولوجية عظيمة الفائدة وقليلة التكلفة وليس مشروعًا تجاريًا يسعى فقط إلى الأرباح الضخمة.

والآن، في عالم تتلاشى فيه الحدود بين المدني والعسكري، وبين السوق والاستخبارات، لم تعد التكنولوجيا أداة محايدة، بل أصبحت ساحةً للصراع نفسه. الشركات الناشئة اليوم لا تصوغ فقط مستقبل الخدمات الرقمية، بل ترسم خرائط الحرب، وتعيد تعريف موازين الردع والهيمنة.

أمام هذا التحوّل، تغدو الأسئلة الأخلاقية والسياسية حول حدود الابتكار، وملكية المعرفة، ودور الدولة في تسليع الأفكار، أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى. فالرهان لم يعد على من يبتكر أسرع، بل على من يُجنّد الابتكار بذكاء لخدمة رؤيته للعالم.