صورة مولدة بالذكاء الاصطناعي بواسطة ChatGPT
يسيطر رأس المال على التكنولوجيا ويظهر التفاوت الطبقي في حرمان فئات اجتماعية من تطورها

التطور التكنولوجي.. من خطاب الحياد إلى ممارسات الهيمنة

منشور السبت 11 يناير 2025

في وقت تُعيد فيه التكنولوجيا تشكيل كل جوانب الحياة، يسود خطاب يُصوَّر التطوّر التكنولوجي وكأنه يمضي في مسار محايد يخضع فقط لاعتبارات تقنية وعلمية بحتة. هذا التصوُّر يتجاهل حقيقة أن تطوّر التكنولوجيا وتطبيقاتها محكوم بمصالح اقتصادية واجتماعية مُحدّدة، فكل قرار تقني يحمل في طياته خيارات وانحيازات تعكس موازين القوى في المجتمع.

مفهوم الحياد التكنولوجي يستند إلى افتراض أن التكنولوجيا بطبيعتها خالية من الانحيازات الاجتماعية والسياسية. وفقًا لهذا الخطاب، تظهر التكنولوجيا كأدوات محايدة، يقتصر تأثيرها على كيفية استخدامها، ومنفصلة عن طبيعتها وسياق تطويرها.

حياد مزعوم

غير أن هذا الحياد المزعوم يُخفي منظومة مُعقّدة من القرارات وخوارزميات التوظيف التي تُكرِّس التفاوتات القائمة، وأنظمة المراقبة الرقمية في أماكن العمل التي تُشدِّد السيطرة على العاملين.

تؤدّي هذه الفكرة وظيفةً مزدوجةً في النظام الرأسمالي المعاصر، فتحجب الطبيعة الاجتماعية للتكنولوجيا وعلاقات القوة المتحكمة في تطورها، كما تُضفي شرعية على التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية الناتجة عنها، وتظهرها كنتائج "موضوعية" و"محايدة"، ويظهر ذلك في حجتين رئيسيتين:

أولًا: الحتمية التكنولوجية

وهي إحدى ركائز الخطاب الذي يُروج لفكرة الحياد التكنولوجي، فيُنظر إلى التطوّر التكنولوجي بوصفه عملية خطية وحتمية تؤدي إلى التقدّم. يفترض أن التكنولوجيا تتطوّر وفق منطق داخلي مستقل، بعيدًا عن التأثيرات الاجتماعية أو الصراعات الطبقية التي قد تحيط بها.

تتجلى هذه الرؤية في تصريحات وتقارير إعلامية مضمونها أن الذكاء الاصطناعي سيقضي على معظم الوظائف، وأنه علينا التكيف مع الواقع التكنولوجي الجديد، وهو ما يُضفي على التغيرات التكنولوجية طابع الحتمية الغير قابلة للتحدي، تمامًا كالقوانين الفيزيائية التي تحكم الكون.

ثانيًا: وهم الموضوعية

بمعنى أن القرارات التقنية تُقَدَّم على أنها محايدة، ومتجردة من سياقاتها الاجتماعية والسياسية؛ لتُبرَز سيطرة المقاربات "التقنية" البحتة التي تعطي الأولوية لتحسين الكفاءة التقنية والاقتصادية على حساب الديناميكيات الاجتماعية والطبقية.

يُسوّق هذا السرد من خلال شعارات مثل "التكنولوجيا متاحة للجميع" و"الفرص متساوية في العصر الرقمي"؛ فتُخفى الأدوار الحقيقية التي تلعبها التكنولوجيا كأداة لإعادة صياغة العلاقات الطبقية وتعزيز السيطرة الاقتصادية.

تكمن الخطورة في هذا الخطاب في حجبه للخيارات الاجتماعية والسياسية الكامنة وراء التطور التكنولوجي، فعندما نقبل بحتمية فقدان الوظائف بسبب الأتمتة، أو نعتبر انتشار أنظمة المراقبة في مكان العمل ضرورة تقنية أو إدارية، فإننا نتجاهل أن هذه التطورات نتيجة لقرارات وخيارات محُدّدة تخدم مصالح طبقية معينة. وطالما بقينا أسرى هذا الخطاب، سنعجز عن تطوير نقد جذري للتكنولوجيا الرأسمالية وتصور بدائل تخدم المصلحة الاجتماعية العامة.

تفكيك خطاب الحيادية التكنولوجية

لتفكيك خطاب حيادية التكنولوجيا وفهم دور التطور التكنولوجي في المجتمع، من الضروري إعادة النظر في كيفية تشكُّل التكنولوجيا كنتاج للتناقضات والصراعات بين الفئات الاجتماعية المختلفة. يكشف هذا المنظور عن البُنى الاجتماعية التي تؤطر التكنولوجيا، واستغلاها أداةً لإعادة إنتاج علاقات القوة والسيطرة. لفهم ذلك، يمكننا التطرُّق إلى ثلاثة مسارات رئيسية:

الأول: القرارات المتعلّقة بتطوير التكنولوجيا واستخدامها تُتخذ دائمًا ضمن إطار علاقات القوة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية القائمة. إذ تمتلك الطبقة المسيطرة أدوات التحكُّم في التمويل وأولويات البحث والتطوير، مما يمنحها القدرة على توجيه مسار التطور التكنولوجي وفقًا لمصالحها.

الثاني: تصميم التكنولوجيا يعكس رؤية مُحدّدة لتنظيم العمل والإنتاج، ما يعني أنه يحمل خيارات سياسية واجتماعية متعمّدة تهدف إلى تعزيز مصالح طبقية محدّدة.

الثالث: كل تطوّر تكنولوجي يُعيد تشكيل موازين القوة في المجتمع. فيصبح التحكم في مسار هذا التطوّر ميدانًا للتنافس والصراع بين الطبقات المختلفة، إذ تسعى كل طبقة إلى توظيف التكنولوجيا لتعزيز موقعها في منظومة القوة الاجتماعية.

يمارس نظام التوظيف في شركة أمازون تمييزًا ممنهجًا ضد النساء

انطلاقًا من السابق، فإن التكنولوجيا ليست مجرد أداة محايدة، بل تُمثّل أداة مركزية لإعادة تشكيل علاقات القوة الاجتماعية. من خلال شبكات وآليات معُقّدة، تُوظِّف التكنولوجيا لتعزيز السيطرة الطبقية عبر تكثيف الاستغلال وترسيخ التفاوتات الهيكلية. في هذا السياق، تتبلور عدة آليات تسهم في إعادة إنتاج علاقات القوة والهيمنة، ويُمكن مناقشة أبرزها فيما يلي:

الآلية الأولى تتجسد في الاستخدام المكثف للتقنيات الرقمية التي توفر مستوى غير مسبوق من المراقبة وتتبع أداء العمال. إذ تُمكّن أنظمة المراقبة المتقدّمة، في المستودعات والمكاتب، الإدارة من رصد كل حركة وتوقيت، مما يؤدي إلى زيادة وتيرة العمل وتكثيف الضغوط على العمال لتحقيق إنتاجية أعلى.

الآلية الثانية تظهر في الاعتماد على الخوارزميات وأنظمة الذكاء الاصطناعي لتوجيه القرارات الإدارية المتعلّقة بالتوظيف وتقييم الأداء وتحديد المكافآت.

الآلية الثالثة تتجلى في دور منصات العمل الرقمية في تكريس أنماط جديدة من العمل غير المستقر؛ فيُصنَّف العمال كمقاولين مستقلين، مما يحرمهم من الحقوق الأساسية والحماية الاجتماعية. تُستغل التكنولوجيا هنا لتقسيم العمل إلى مهام صغيرة، مع فرض نظام تصنيف دائم للعمال، يؤدي إلى خلق بيئة عمل تتسم بارتفاع مستوى التنافسية وعدم الاستقرار، مما يزيد من هشاشة أوضاع العمال الاقتصادية والاجتماعية.

نماذج لانحياز التكنولوجيا

في هذا السياق، تتجلى مجموعة من الأمثلة الواقعية التي توضّح كيف يُمكِن للتكنولوجيا إعادة تشكيل هياكل وأنماط الانحياز الاجتماعي، وتعزيز السيطرة الاقتصادية وتكريس التفاوتات الاجتماعية ضمن سياقات متعددة:

خوارزميات التوظيف

تكشف أنظمة التوظيف المعتمدة على الذكاء الاصطناعي عن إشكاليات ترتبط بقدرتها على امتصاص وإعادة إنتاج التفاوتات الاجتماعية والتحيزات المترسِّخة. وعلى الرغم من تقديم هذه الأنظمة كحلول "موضوعية" و"محايدة" للتحديات المرتبطة بالتوظيف، فإنها تعتمد في تدريبها على بيانات تاريخية مُشبّعة بالتحيزات، مما يجعلها تعكس الهياكل الطبقية القائمة بدلًا من تصحيحها.

تُمثّل تجربة نظام التوظيف الذي طوّرته شركة أمازون مثالًا بارزًا لهذه الإشكالية. يمارس هذا النظام تمييزًا مُمنهجًا ضد النساء المرشحات للوظائف، نتيجة تدريبه على بيانات التوظيف السابقة التي عكست هيمنة الذكور تاريخيًا في قطاع التكنولوجيا. هذه الحادثة تكشف كيف يمكن للذكاء الاصطناعي تكرار أنماط التمييز الموجودة في المجتمع.

ترسخ أنظمة التوظيف التكنولوجية التفاوت الطبقي بأساليب تبدو علمية

أيضًا، تُقيّم هذه الأنظمة المرشحين بناءً على معايير تبدو "علمية" مثل الاستقرار الوظيفي والمؤهلات الأكاديمية، لكنها تتجاهل التأثيرات الاقتصادية القهرية التي تضعف فرص أبناء الطبقات العاملة. فعلى سبيل المثال، يُقيّم النظام سلبيًا المرشحين الذين عانوا من فترات بطالة قسرية أو تغييرات مهنية نتيجة ظروف اقتصادية خارجة عن إرادتهم.

لا تكمن الإشكالية في التحيُّز الموجود ضمن البيانات، بل في الطريقة التي تُعيد بها هذه الأنظمة صياغة التفاوتات الطبقية القائمة وتحويلها إلى معايير تُوصَّف بأنها "موضوعية" و"علمية"، من خلال إضفاء طابع "الحياد" على التمييز؛ لتُساهم هذه الأنظمة في ترسيخ هذه الممارسات التمييزية وإضفاء شرعية ظاهرية عليها، مما يُعقّد إمكانية تحديها أو مقاومتها ويؤدي بالتالي إلى تعميق الفجوات الاجتماعية القائمة وتكريسها بشكل مؤسسي.

نماذج الذكاء الاصطناعي اللغوية

تُقدّم نماذج الذكاء الاصطناعي اللغوية المتقدّمة، مثل ChatGPT وClaude مثالًا واضحًا على ازدواجية العملية التي تُكرّس الفوارق الطبقية وتُعمّقها. يظهر ذلك أولًا في الاستحواذ على المعرفة العامة المتاحة على الإنترنت -التي تُمثّل نتاجًا جماعيًا للبشرية- بهدف تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي، وثانيًا في تحويل هذه المعرفة إلى خدمات مدفوعة تستثني الشرائح غير القادرة على تحمل تكاليفها، مما يُقصي قطاعات واسعة من المجتمعات عن الاستفادة منها.

تقصي أسعار الخدمات المتقدمة للذكاء اللغوي قطاعات واسعة في الدول النامية

يتجلى هذا الإقصاء في نظام التسعير الذي يُمكننا عدّه آلية للاستبعاد الطبقي. فالشركات تفرض رسومًا شهرية لا تقل عن 20 دولارًا للوصول إلى نماذج الذكاء الاصطناعي المتقدّمة. هذه التكلفة، التي قد تبدو معقولة في الدول المتقدمة، تُشكّل عائقًا هيكليًا في البلدان النامية حيث متوسط الدخل الشهري للفرد لا يتجاوز 100-200 دولار.

تربط الخدمات المالية الرقمية الجدارة الائتمانية بمؤشرات اقتصادية واجتماعية طبقية

وهكذا فإن الأفراد القادرين على تحمل تكاليف الاشتراك في هذه النماذج يحصلون على مزايا تُعزّز إنتاجيتهم ومهاراتهم، بالتالي تُحسَّن مواقعهم المهنية والاقتصادية. في المقابل، تُستثنى الفئات غير القادرة على تحمُّل التكاليف، فتُحد من فرصها الاجتماعية والاقتصادية. بمرور الوقت، تتفاقم الفجوة الطبقية وتتوطد هيمنة الفئات القادرة على الوصول إلى الموارد التكنولوجية.

التمييز المالي الرقمي

في سياق آخر، يكشف قطاع الخدمات المالية الرقمية عن الطابع الطبقي للتكنولوجيا بشكل جلي. فتحت شعار تحسين دقة التقييم المالي، تُحلِّل خوارزميات التصنيف الائتماني مجموعة واسعة من البيانات تتجاوز السجل المالي التقليدي لتشمل تفاصيل الحياة اليومية للفرد من نمط إنفاقه وسلوكه على الإنترنت إلى شبكة علاقاته الاجتماعية وأنماط استخدامه للهاتف المحمول. هذا التوسع في جمع البيانات لا يؤدي إلى تقييم أكثر موضوعية، بل يُعمّق التحيزات الطبقية من خلال ربط الجدارة الائتمانية بمؤشرات اجتماعية واقتصادية مُحمَّلة بالتمييز الطبقي.

تأتي شركات التقنيات المالية الحديثة لتُقدِّم نموذجًا جديدًا من الاستغلال المالي يتستر خلف شعارات "الشمول المالي". فبينما تزعم هذه الشركات تقديم حلول مبتكرة للمستبعدين من النظام المالي التقليدي، تعمل في الواقع على استغلال ضعفهم الاقتصادي من خلال فرض فوائد ضخمة ورسوم مخفية وشروط مجحفة. 

يحوّل نظام المراقبة في أمازون مكان العمل إلى ما يشبه السجن الرقمي

يؤدي هذا النظام إلى خلق حلقة مفرغة من تعميق اللامساواة. فالتصنيف الائتماني المنخفض، المبني على تحيُّزات طبقية، يؤدي إلى تكاليف مالية أعلى وشروط خدمة أسوأ، مما يزيد من صعوبة تحسين الوضع المالي، بالتالي يؤدي إلى مزيد من التدهور في التصنيف الائتماني. هذه الحلقة لا تؤثر فقط على الجيل الحالي، إذ يؤدي الحرمان المالي للوالدين إلى تقليص الفرص المتاحة لأبنائهم وبناتهم، مكُرِّسة بذلك دورة إعادة إنتاج الطبقات الاجتماعية.

نظام المراقبة في أمازون

يُقدّم نظام المراقبة في مستودعات أمازون نموذجًا مُتقدِّمًا للسيطرة الطبقية في العصر الرقمي. يتألف النظام من منظومة متكاملة من آليات المراقبة والتحكُّم المتشابكة، تعمل على تحويل مكان العمل إلى ما يشبه السجن الرقمي، إذ تخضع كل حركة وسكنة للمراقبة والقياس والتقييم المستمر.

يتشكل هذا النظام من ثلاث طبقات متراتبة، تعمل معًا لإحكام السيطرة على العملية الإنتاجية. تتمثل الطبقة الأساسية في التتبع المكاني، فيُلزَم كل عامل بحمل جهاز مسح ضوئي يرسل بيانات مستمرة عن موقعه وتحركاته. يتكامل هذا النظام مع شبكة متطورة من الكاميرات الذكية المجهزة بتقنيات التعرف على الحركة، التي تُحلّل نمط عمل كل عامل بدقة متناهية.

وتتمثل الطبقة الثانية في القياس الفوري للإنتاجية، الذي يحسب مؤشرات أداء دقيقة لكل عامل. تشمل هذه المؤشرات مُعدّل معالجة الطرود في الساعة والوقت المستغرق بين المهام المختلفة ومدة الاستراحات، وتخضع هذه المؤشرات لمقارنة مستمرة مع معايير صارمة مُحدَّدة سلفًا.

أما الطبقة الثالثة، فتتجسد في العقاب الآلي، الذي يفرض عقوبات تلقائية، فالخوارزميات مبرمجة لإصدار إنذارات فورية عند أي انحراف عن المعايير المُحدَّدة، سواء كان ذلك تجاوزًا لمدة الاستراحة المسموح بها أو توقفًا قصيرًا عن العمل. 

يكشف هذا النموذج عن تحول جذري في طبيعة السلطة داخل مكان العمل، فبدلًا من المشرف البشري الذي يمكن التفاوض معه أو مقاومة قراراته، يواجه العمال نظامًا آليًا صارمًا لا يقبل المساومة أو المرونة.

التناقضات في مسار تطور التكنولوجيا

في المجتمعات الرأسمالية، يُوجَّه التطوّر التكنولوجي أساسًا بواسطة منطق السوق الذي يُعلي من الربحية والمنافسة على حساب الاحتياجات الاجتماعية الفعلية. تُتخذ قرارات تطوير التقنيات بناءً على قدرتها على تعزيز الهيمنة الرأسمالية وتحقيق أرباح متزايدة، بدلًا من التركيز على فوائدها المجتمعية. ونتيجة لذلك، تخدم التقنيات الرائجة المصالح الاقتصادية للنخب المسيطرة، مع تجاهل تبعاتها الاجتماعية الأوسع.

تستثمر الشركات الكبرى في التكنولوجيا لزيادة الإنتاجية وتخفيض تكاليف العمل

تستثمر الشركات الكبرى في التطوير التكنولوجي لزيادة الإنتاجية وتخفيض تكاليف العمل. فمن جانب، تسعى هذه الشركات إلى استخدام التكنولوجيا لزيادة المخرجات من الموارد نفسها، خاصةً من تكثيف العمل البشري. ومن جانب آخر، تُوظِّف الشركات التكنولوجيا لتقليص تكاليف العمل عبر آليات عدّة، مثل الأتمتة لتقليل الحاجة للعمالة البشرية وتبسيط المهام لتوظيف عمالة أقل تكلفة واستبدال العمال بأنظمة آلية. 

وكنتيجة مباشرة لهذا التوجُّه تظهر عدة تناقضات، بدلًا من أن تُسهِم التطورات التكنولوجية في تخفيف أعباء العمل وتحسين ظروفه تؤدّي إلى تكثيف الاستغلال وزيادة الضغوط على العاملين. وبينما تجني الشركات مكاسب الإنتاجية المتزايدة، يظل العمال عرضة لخطر فقدان وظائفهم أو على أقل تقدير تدهور شروط عملهم.

في سياق التنقاضات، تمثل التكنولوجيا تجسيدًا ماديًا للمعرفة البشرية المتراكمة وقدرة المجتمع على تطويع الطبيعة لخدمة احتياجاته. فالخوارزميات الأساسية ولغات البرمجة والمفاهيم الحاسوبية كلها نتاج لجهود بحثية وأكاديمية جماعية، مولتها -في معظم الأحيان- مؤسسات عامة وجامعات حكومية بأموال دافعي الضرائب. 

غير أن ما يحدث في ظل النظام الرأسمالي هو استحواذ الشركات التكنولوجية الكبرى على هذه المعرفة المتراكمة اجتماعيًا وتحويلها إلى ملكية خاصة من خلال منظومة مُعقّدة من الآليات القانونية والتقنية. فتستخدم براءات الاختراع لاحتكار تطبيقات معينة للخوارزميات، وحقوق النشر لحماية الشفرة المصدرية، والأسرار التجارية لإخفاء تفاصيل التقنيات المستخدمة. 

تعتمد التكنولوجيا على المعرفة الجماعية لكن يتحكم في تطبيقاتها الشركات الكبرى

تظهر هذه الممارسات في العديد من الأمثلة المعاصرة. فشركة أمازون، على سبيل المثال، احتكرت تقنية النقرة الواحدة للشراء من خلال براءة اختراع، رغم اعتمادها على تقنيات طورها المجتمع التقني بشكل جماعي.

وفي مجال الذكاء الاصطناعي، تستفيد الشركات الكبرى من موارد متعددة في تطوير نماذجها، بما في ذلك البيانات المتاحة على الإنترنت والأبحاث الأكاديمية المنشورة والتطوّرات التقنية التي ساهم فيها المجتمع العلمي. هذه الموارد، رغم كونها نتاج جهد جماعي، يتم دمجها في منتجات خاضعة للملكية الخاصة.

وهنا يظهر تناقض آخر، فبينما تعتمد التكنولوجيا في جوهرها على المعرفة الجماعية والتعاون الاجتماعي الواسع، تخضع ملكيتها والتحكم في تطبيقاتها لسيطرة فئة محدودة من المؤسسات الكبرى. هذا التناقض يكشف عن أزمة هيكلية في نمط الإنتاج الرأسمالي المعاصر، يتجلى في مستويين متداخلين:

يكمن المستوى الأول في العلاقة بين متطلبات التطور التكنولوجي ومنطق السوق. فبينما يتطلب التطور المتسارع مزيدًا من التعاون والمشاركة المفتوحة للمعرفة والموارد، تسعى الشركات الكبرى إلى فرض المزيد من القيود من خلال توسيع نطاق حقوق الملكية الفكرية وتشديد حماية الأسرار التجارية.

يظهر المستوى الثاني في التعارض بين الإمكانات التحررية للتكنولوجيا وواقع استخدامها. فبدلًا من تسخير إمكاناتها الهائلة لتحسين حياة البشر وحل المشكلات الاجتماعية والبيئية الملحة، يتم توجيهها نحو هدف وحيد هو تعظيم الأرباح. وبدلًا من الاستفادة من الطاقات الإبداعية للمجتمع ككل، يتم حصر الابتكار في حدود ما يخدم مصالح الشركات المهيمنة.

نحو فهم آخر للتطور التكنولوجي

يكشف تحليل الحياد التكنولوجي ضرورة تجاوز التفسيرات المبسّطة التي ترى التطور التكنولوجي إما حتميًا بمعزل عن الصراعات الطبقية، أو تختزل التحولات الاجتماعية في نتائج تقنية دون اعتبار لدور الصراع الطبقي في تشكيله.

إن التكنولوجيا في المجتمعات الآن تُوظَّف أداةً للسيطرة والاستغلال، رغم ما تحمله في جوهرها من إمكانات تحررية كبيرة، فالأتمتة المتقدمة التي تستخدم اليوم لتكثيف استغلال العمال، يمكن تحويلها إلى وسيلة لتحريرهم من العمل المرهق، وتقنيات الذكاء الاصطناعي التي تُوظَّف للمراقبة والتحكم، تحمل في طياتها إمكانية تحويلها لأداة لتعزيز المشاركة الديمقراطية وتحسين الخدمات الاجتماعية، غير أن تحقيق هذه الإمكانات التحررية يتطلب تحولًا جذريًا في علاقات الملكية والسيطرة على التكنولوجيا.

يتجاوز هذا التحول حدود المطالب التقليدية للنقابات العمالية ليعيد صياغة قضية التطور التكنولوجي باعتبارها مسألةً تتطلب سيطرة ديمقراطية شاملة. بدلًا من تصميم التكنولوجيا لتخدم أهدافًا ربحيةً ضيقةً وتعزز آليات السيطرة الطبقية، يمكن إعادة توجيهها لخدمة المصالح المجتمعية الحقيقية، من تحسين ظروف العمل وتخفيف أعبائه، إلى تعزيز المشاركة الديمقراطية في أماكن العمل من خلال تمكين العمال من التحكم في عمليات الإنتاج.

إضافة إلى ذلك، يمكن للتكنولوجيا أن تُستخدم لتوسيع نطاق الخدمات الاجتماعية وتحسين جودتها، إلى جانب تحقيق إدارة رشيدة للموارد البيئية. وفي صميم هذا التحول، يكمن هدف تعزيز التعاون والتضامن الاجتماعي كبديل مستدام للمنافسة الفردية التي يغذيها النموذج الرأسمالي الحالي.